بالرغم من عناية اللغويين و المفسّرين بتفسير لفظ العبادة و تبيينها، لكن لا تجد في كلماتهم ما يشفي الغليل، و ذلك لاَنّـهم فسّـروه بأعمّ المعاني وأوسعها و ليس مرادفاً للعبادة طرداً و عكساً.
1ـ قال الراغب في المفردات: «العبودية : إظهار التذلّل، و العبادة أبلغ منها، لاَنّها غاية التذلّل، ولا يستحقّها إلاّمن له غاية الاِفضال و هو اللّه تعالى و لهذا قال: "وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ..." (الاِسراء |23) ».
2ـ قال ابن منظور في لسان العرب: «أصل العبودية: الخضوع والتذلل».
3ـ قال الفيروز آبادي في القاموس المحيط: «العبادة: الطاعة».
4ـ قال ابن فارس في المقاييس: «العبد، الذي هو أصل العبادة، له أصلان متضادّان، والاَوّل من ذينك الاَصلين، يدلّ على لين و ذُلّ، و الآخر على شدّة وغلظه».
هذه أقوال أصحاب المعاجم و لا تشذّ عنها أقوال أصحاب التفاسير وهم يفسّرونه بنفس ما فسّره به أهل اللغة، غير مكترثين بأنّتفسيرهم، تفسير لها بالمعنى الاَعم.
1ـ قال الطبري في تفسير قوله : "إِيّاكَ نَعْبُدُ": اللّهمّ لك نخشع و نذلّ و نستكين إقراراً لكَ يا ربّنا بالربوبية لا لغيرك. إنّالعبودية عند جميع العرب أصلها الذلّة و أنّـها تسمّى الطريق المذلّل الذي قد وطئته الاَقدام و ذلّلته السابلة معبَّداً، و من ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب للحوائج: معبَّد، و منه سمّي العبد عبداً، لذلّته لمولاه.(1)
____________
(1) الطبري:التفسير 1: 53، ط دار المعرفة، بيروت.
2ـ قال الزجاج: معنى العبادة: الطاعة مع الخضوع، يقال: هذا طريق معبّد إذا كان مذلّلاً لكثرة الوطء، و بعير معبّد إذا كان مطلياً بالقطران، فمعنى "إِيّاكَ نَعْبُدُ" : إيّاك نطيع، الطاعة التي نخضع منها.(1)
3ـ و قال الزمخشري: العبادة: أقصى غاية الخضوع و التذلّل، و منه ثوب ذو عبدة أي في غاية الصفافة، وقوة النسج، و لذلك لم تستعمل إلاّ في الخضوع للّه تعالى لاَنّه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع.(2)
4ـ قال البغوي: العبادة: الطاعة مع التذلل والخضوع و سمّي العبد عبداً لذلّته وانقياده يقال: طريق معبّد، أي مذلّل.(3)
5ـ قال ابن الجوزي: المراد بهذه العبادة ثلاثة أقوال:
أ: بمعنى التوحيد "إِيّاكَ نَعْبُدُ" عن علي و ابن عباس.
ب: بمعنى الطاعة كقوله تعالى: "لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ"(مريم|44) .
ج: بمعنى الدعاء.(4)
6ـ قال البيضاوي: العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل، و منه الطريق المعبّد أي المذلّل، و ثوب ذو عبدة، إذا كان في غاية الصفافة، و لذلك لاتستعمل إلاّ في الخضوع للّه تعالى.(5)
و سيأتي أنّتفسير العبادة بغاية الخضوع ربّما يكون تفسيراً بالاَخص، إذ لاتشترط في صدقها غاية الخضوع، و لذلك يعدُّ الخضوع المتعارف الذي يقوم به
____________
(1) الزجاج: معاني القرآن 1:48.
(2) الزمخشري: الكشاف1: 10.
(3) البغوي: التفسير1: 42.
(4) ابن الجوزي: زاد المستنير 1:12.
(5) البيضاوي: أنوار التنزيل1:9.
أبناء الدنيا أمام اللّه سبحانه عبادة، و إن لم يكن بصورة غاية التعظيم، و ربّما يكون تفسيراً بالاَعمّ، فإنّ خضوع العاشق لمعشوقه ربّما يبلغ نهايته و لا يكون عبادة.
7ـ و قال القرطبي: نعبُد، معناه نطيع، و العبادة: الطاعة والتذلّل، وطريق معبّد إذا كان مذلّلاً للسالكين.(1)
8ـ و قال الرازي: العبادة عبارة عن الفعل الذي يوَتى به لغرض تعظيم الغير وهو مأخوذ من قولهم: طريق مُعبَّد.(2)
و إذا قصرنا النظر في تفسير العبادة، على هذه التعاريف و قلنا بأنّها تعاريف تامّة جامعة للاَفراد و مانعة للاَغيار، لزم رَمي الاَنبياء و المرسلين، و الشهداء والصديقين بالشرك وأنّهم ـ نستعيذ باللّه ـ لم يتخلّصوا من مصائد الشرك، و لزم ألاّيصحّ تسجيل أحد من الناس في قائمة الموحّدين. و ذلك لاَنّ هذه التعاريف تفسّر العبادة بأنّها:
1ـ إظهار التذلّل.
2ـ إظهار الخضوع.
3ـ الطاعة و الخشوع و الخضوع.
4ـ أقصى غاية الخضوع.
و ليس على أديم الاَرض من لا يتذلّل أو لا يخشع ولا يخضع لغير اللّه سبحانه و إليك بيان ذلك: