إنّ الشائع بين الوهابيين تقسيم التوحيد إلى:
1ـ التوحيد في الربوبية.
2ـ التوحيد في الاَُلوهية.
قائلين بأنّ التوحيد في الربوبيّة بمعنى الاعتقاد بخالق واحد لهذا الكون كان موضع اتّفاق جميع مشركي عهد الرسالة.
وأمّا التوحيد في الاَُلوهية فهو التوحيد في العبادة الذي يُعنى منه أن لا يعبد سوى اللّه، و قد انصب جهد الرسول الكريم على هذا الاَمر.(1)
والحقّ أنّاتّفاق جميع مشركي عهد الرسالة في مسألة التوحيد الخالقي ليس موضع شك، و لكن تسمية التوحيد الخالقي بالتوحيد الربوبي خطأ و اشتباه.
وذلك لانّ معنى «الربوبية» ليس هو الخالقية كما توهم هذا الفريق، بل هو ـ كما أوضحنا و بينا سلفاً ـ ما يفيد التدبير و إدارة العالم، و تصريف شوَونه و لميكن هذا ـ كما نبيّن ـ موضع اتّفاق بين جميع المشركين و الوثنيين في عهد الرسالة

____________
(1) محمّدبن عبدالوهّاب، تسع رسائل: الرسالة الثالثة|57ـ58.


كما ادعى هذا الفريق.(1)
نعم كان فريق من مثقفي الجاهليين يعتقدون بعدم وجود مدبّر سوى اللّه و لكن كانت تقابلهم جماعات كبيرة ممن يعتقدون بتعدد المدبر والتدبير، و هي قضية تستفاد من الآيات القرآنية مضافاً إلى المصادر التاريخيّة.
و هنا نلفت نظر الوهابيين الذين يسمّون التوحيد في الخالقية، بالتوحيد في الربوبية إلى الآيات التالية حتى يتضح لهم أنّالدعوة إلى التوحيد في الربوبية لا تعني الدعوة إلى التوحيد في الخالقية بل هي دعوة إلى «التوحيد في المدبّرية»والتصرف، و قد كان بين المشركين في ذلك العصر من كان يعاني انحرافاً من التوحيد الربوبي، و يعتقد بتعدد المدبِّر رغم كونه معتقداً بوحدة الخالق.
و لايمكن ـ أبداً ـ أن نفسر الربّفي هذه الآيات بالخالق والموجد. و إليك بعض هذه الآيات.
أ: "بَل ربُّكُمْ رَبُّ السَّمواتِ وَالاََرض الّذي فَطرهنّ" (الاَنبياء|56).
فلو كان المقصود من الربّهنا هو الخالق و الموجد، لكانت جملة "الّذي فطرهن" زائدة بدليل أنّنا لو وضعنا لفظة الخالق مكان الربّ في الآية للمسنا عدم الاحتياج ـ حينئذٍ ـ إلى الجملة المذكورة (أعني:" الذي فطرهن").
بخلاف ما إذا فسّـر الربّ بالمدبّر و المتصرّف، ففي هذه الصورة تكون الجملة الاَخيرة مطلوبة، لاَنّها تكون ـ حينئذٍ ـ علّة للجملة الاَُولى، فتعني هكذا: إنّخالق الكون ، هو المتصرف فيه و هو المالك لتدبيره و القائم بإدارته، لاشخص آخر فلماذا فرقتم بين الخالق والربّو لماذا حصرتم الخالقية في اللّه سبحانه، و أعطيتم الربوبية لغيره.
ب: "يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمُ الّذي خَلَقَكُمْ" (البقرة|21).

____________
(1) سيوافيك عقائد المشركين في ربوبيّة الآلهة في الفصل الآتي.

فانّ لفظة الربّ في هذه الآية ليست بمعنى «الخالق» و ذلك على غرار ما قلناه في الآية المتقدمة المشابهة لما نحن فيه، إذ لو كان الربّ بمعنى الخالق لما كان لذكر جملة "الّذي خلقكم" وجه، بخلاف ما إذا قلنا بأنّالربّ يعني المدبّر فتكون جملة: "الّذي خلقكم" علّة للتوحيد في الربوبية إذ يكون المعنى حينئذٍ هو: انّالّذي خلقكم، هو مدبّركم.
ج: "قُلْ أَغَيْرَاللّهِ أَبْغي رَبّاً وَ هُوَ رَبُّ كُلّ شَيْءٍ" (الاَنعام|164).
وهذه الآية حاكية عن أنّمشركي عصر الرسالة كانوا على خلاف مع الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسألة الربوبية على نحو من الاَنحاء وانّالنبي الاَعظم كان مكلّفاً بأن يُفنّد رأيهم و يبطل عقيدتهم ولا يتخذ غير اللّه ربّاً على خلاف ما كانوا عليه. و من المحتّمأنّخلاف النبي مع المشركين لم يكن حول مسألة «التوحيد في الخالقية» بدليل أنّالآيات السابقة تشهد من غير إبهام بأنّهم كانوا يعترفون بأنّه لا خالق سوى اللّه تعالى، و لذلك فلا مناص من الاِذعان بأنّالخلاف المذكور كان في غير مسألة الخالقية، و ليس هو إلاّمسألة تدبير الكون، بعضه أو كلّه.
د: "أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَومَ القِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلينَ" (الاَعراف|172).
فقد أخذ اللّه في هذه الآية ـ من جميع البشر ـ الاِقرار بالتوحيد الربوبي و كانت علّة ذلك هي ما ذكره من أنّه سيحتج على عباده بهذا الميثاق يوم القيامة كما يقول:
"أوْ تَقُولُوا إنَّما أشركَ آباوَنا مِنْ قبلُ وَ كُنّا ذُريّةً من بعدِهمْ أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ" (الاَعراف|173).
إذا تبيّن هذا فنقول: إنّنزولَ هذه الآية في بيئة مشركة، دليل ـ و لا شكّ ـ على وجود فريق معتد به في تلك البيئة كانوا يخالفون هذا الميثاق، فإذا كانت الربوبية بمعنى الخالقية استلزم ذلك أن يكون في تلك البيئة من يخالفون النبيّ في الخالقية، و لكن الفرض هو عدم وجود أيّ اختلاف في مسألة «توحيد الخالقية» في عصر الرسالة فلم يكن المشركون في ذلك العصر مخالفين في هذه المسألة ليُعتبروا مخالفين للميثاق المذكور، فلا محيص ـ حينئذٍ ـ من أنّالخلاف كان ـ آنذاك ـ في مسألة تدبير العالم و إدارة الكون.
و بهذا التقرير يكون معنى الربّ في الآية المبحوثة هنا هو المدبّر.
هـ: "أتقتلُونَ رجُلاً أنْ يقوَل ربِّي اللّهُ و قد جاءكُمْ بالبيِّنات منْ ربِّكُمْ" (غافر|28).
تتعلق هذه الآية بموَمن آل فرعون الّذي كان يدافع عن النبيّموسى عليه السَّلام وراء قناع النصيحة و الصداقة لآل فرعون ويسعى تحتَ ستار الموافقة لهم أن يدفع الخطر عن ذلك النبيّ العظيم.وأمّا دلالتها على كون الربّ بمعنى المدبّر فواضحة، لاَنّ فرعون ما كان يدّعي انّه خالق الاَرض و السماء ولا الشركة مع اللّه سبحانه فيخلق العالم و إيجاده، و هذه حقيقة يدلّ عليها تاريخ الفراعنة أيضاً. و في هذه الصورة يجب أن يكون المراد من دعوة النبيّموسى بقوله: ربّي اللّه، هو حصر «التدبير» في اللّه سبحانه لا مسألة الخلق. ولو كانت تتعلق بمسألة الخلق والاِيجاد لما كان بينه و بين فرعون أيّخلاف و نزاع، إذ المفروض أنّ فرعون كان يعترف بخالقية اللّه ـ كما أسلفنا ـ هذا مضافاً إلى أنّاللّه تعالى يقول في الآية السابقة لهذه الآية.
و : "ذَرُوني أقتلْ مُوسى و لْـيَدعُ ربَّهُ إنّي أخافُ أنْ يبدِّلَ دينَكُمْ" (غافر|26).
فانّ التوحيد في الخالقية لم يكن موضع خلاف لتكون دعوة موسى لبني إسرائيل سبباً لاَيّ تبدّل و تبديل.
و من هذا البيان يتضح المراد من قول فرعون:
"أنَا ربُّكُمُ الاَعلى" (النازعات|24).
ز: "فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّمواتِ وَالاََرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دونهِ إلهاً" (الكهف|14).
إنّالفتية الّذين فرّوا من ذلك الجوّ الخانق الذي أوجدته طواغيت ذلك الزمان، كانوا جماعة يسكنون في مجتمع يعتقد بأُلوهية غير اللّه، و لكن أُلوهية غير اللّه ـ في ذلك المجتمع ـ لم تكن بصورة تعدد الخالق، خاصة أنّواقعة أهل الكهف حدثت بعد ميلاد السيد المسيح حيث كانت عقول البشرية و أفكارها قد تقدمت في المسائل التوحيدية بشكل ملحوظ وحظت من الرقى بمقدار معتد به، و لم يكن يعقل ـ في ظلّهذا الرقي الفكري ـ وجودُمجتمعٍ منكرٍ لخالقية اللّه، أو مشرك فيها فلابدّ أن يقال إنّشركهم يرجع إلى أمر آخر و هو الاعتقاد بتعدد المدبر.
ح: إنّالبرهان الواضح على أنّمقام الربوبية هو مقام المدبرية و ليس الخالقيّة كما يتوهم، هو الآية المتكررة في سورة «الرحمن».
"فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبان" .
فقد وردت هذه الآية في السورة المذكورة 31 مرة و جاءت لفظة «ربّ» جنباً إلى جنب مع لفظة « آلاء»التي تعني النعَم و غير خفي أنّ التذكير باسباغ النعم مرّة بعد أُخرى يناسب مقام التربية و التدبير فإرداف ذكرها، بذكر الربشاهد على أنّ اللفظ بمعنى المدبّر والمدير والمربّي والمصلح. لا الخالق والموجد.
و إن شئت قلت: إنّذكر النعم (التي هي من شعب التربية الاِلهية التي يُوليها سبحانه للبشر) يناسب موضوع التربية والتدبير الذي تندرج فيه إدامة النعم و إدامة الاِفاضة.
ط: لقد اقترنت مسألة الشكر مع لفظة الربّ في خمسة موارد في القرآن الكريم، و الشكر إنّما يكون في مقابل النعمة التي هي سبب بقاء الحياة الاِنسانية و دوامها وحفظها من الفناء وصيانتها من الفساد، و ليست حقيقة تدبير الاِنسان إلاّإدامة حياته وحفظها من الفساد والفناء.
و إليك هذه الموارد:
"وَ إِذْ تَأَذَّن رَبّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاَََزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَديد" (إبراهيم|7).
"وَ قالَ رَبِّ أَوزِعْني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلىوالِدَيَّ" (النمل|19).
"قالَهذا مِنْ فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَني ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُوَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِِ" (النمل|40).
" قالَرَبّ أَوزِعْني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلىوالِدَيَّ" (الاَحقاف|15).
"كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبةٌ وربٌّ غَفور " (سبأ|15).
ي: و ممّا يدل على ما قلناه قوله سبحانه:
"فَقُلْتُ استغفِرُوا رَبَّكُمْ إنّهُ كانَغَفّاراً* يُرْسِلِ السّماءَعَلَيْكُمْ مِدراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَلْلَكُمْ أَنْهاراً" (نوح|10ـ12).
و مثله قوله سبحانه في سورة هود الآية 52.
يلاحظ القارىَ الكريم كيف جعلت إدارة الكون و تدبير شوَونه تفسيراً للرب: فهو الذي يرسل المطر،و هو الذي يُمْدد بالاَموال والبنين، و هو الّذي يجعل الجنات، و هو الّذي يجعل الاَنهار، وكلّهذه الاَُمور جوانب و صور من التدبير .
إنّ الحوار الدائر بين النبي إبراهيم و طاغوت عصره نمرود يكشف القناع عن معنى الربّ و الربوبية فالآية التالية تتضمن مضمون الحوار و إليك نصّها قال سبحانه: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذي حاجَّ إِبْراهيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاه اللّهُ الملك إِذْ قالَ إِبْراهيم رَبّي الّذي يحي و َيُميت قالَ أَنَ أُحْيى و َ أُميت قالَ إِبْراهيم فانّ اللّه يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرق فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذي كَفَرَوَ اللّهُ لا يَهْدِي القوم الظّالمين" (البقرة|258).
فكأنّ نمرود كان يدعى أنّه ربّ من يسوسهم بدليل انّإبراهيم إبتدأ كلامه بقوله: "ربّي الّذي يحيى و يميت" ومعناه لو كنت صادقاً في ادعاء الربوبية فعليك القيام بشوَون الربوبية كالاحياء و الاماتة و لما فوجىَ بهذا البرهان الدامغ المبطل لاِدعائه السخيف حاول أن يفسر كلام إبراهيم بشكل خاطىَ قال أنا أيضاً أملك الموت والحياة فأقتل من أشاء و أحقن دم من أُريد، فعندئذٍ عدل إبراهيم إلى حجّة أُخرى ليقطع الطريق عليه و لايكون في وسع نمرود أن يعارضها فقال: أنّ ربّي له سلطان على الشّمس في طلوعها و غروبها فلو صحّ انّك ربّ فقم بهذا العمل» فأنّ اللّه يأتي بالشّمس من المشرق فأت بها من المغرب» فلما سمع نمرود هذا الدليل القاطع و أيقن انّه ليس في وسعه المعارضة سكت و لم ينبس ببنت شفه يقول سبحانه "فَبُهِتَ الّذي كَفَرَ" .
لم يكن النزاع بين النبي إبراهيم و نمرود في خالقيته إذ لا يدعيها إلاّ المصاب بعقله بل في ربوبيته لمن كان يسوسهم فكان إبراهيم يدعي انّه لا ربّ إلاّ ربّ واحد و أنّ الكون بأجمعه مربوب للّه و لم يكن هناك أي تقسيم للربوبية و لكن نمرود كان يعتقد بربوبية نفسه و كانت حجّته أنّه ذا سلطة و ملك كمايحكى عنه قوله سبحانه: "إن آتاه اللّه الملك" فجعل ذلك دليلاً على ربوبيّته لمن كانوا يعيشون في ملكه و زعم انّأمرهم وحياتهم و مماتهم و كلّتشريع يرجع إليه وبيده.
فالحوار بمضمونه يفسر لنا معنى الربّوالربوبية و هو المتصرف المالك لشوَون المربوب في آجله فإذا كان الاحياء والاماتة وا لسلطة على طلوع الشمس من آثار الربوبية فهي غير الخالقية. و بالتالي يرجع معناها إلى كون الرب مالكاً لحياته و موته ، و لاصلاحه و افساده.
نتيجة هذا البحث:
من هذا البحث الموسع يمكن أن نستنتج أمرين:
1ـ إنّربوبية اللّه عبارة عن مدبريته تعالى للعالم و ليس معناها خالقيته.
2ـ دلّت الآيات المذكورة في هذا البحث على أنّمسألة «التوحيد في التدبير» لم تكن موضع اتّفاق بخلاف مسألة «التوحيد في الخالقية» و أنّه كان ثمة فريق يعتقد بمدبرية غير اللّه للكون كلّه أو بعضه، و كانوا يخضعون أمامه باعتقاد أنّهربّ.
و بما أنّالربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين فيمكن أن يكون بعض الفرق موحِّداً في الثاني ومشركاً في القسم الاَوّل، فاليهود و النصارى تورطوا في «الشرك الربوبي» التشريعي لاَنّهم أعطوا زمام التقنين والتشريع إلى الاَحبار و الرهبان و جعلوهم أرباباً من هذه الجهة، فكأنّه فُوِّض أمر التشريع إليهم !!!، و من المعلوم أنّالتقنين والتشريع من أفعاله سبحانه خاصة.
فها هو القرآن يقول عنهم:
"اتَّخَذوا أحبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ" (التوبة|31).
"وَ لا يَتَّخِذْ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ" (آل عمران|64).
في حين أنّالشرك في الربوبية لدى فريق آخر ما كان ينحصر بهذه الدائرة بل يتمثل في إسناد تدبير بعض جوانب الكون، و شوَون العالم إلى الملائكة و الجنّ والاَرواح المقدسة، أو الاَجرام السماوية، وإن لم نعثر ـ إلى الآن ـ على من يعزي تدبير «كل» جوانب الكون إلى غير اللّه، و لكن مسألة الشرك في الربوبية تمثلت في الاَغلبشبه تدبير «بعض» الاَُمور الكونية إلى بعض خيار العباد وبعض المخلوقات.