قد ورد لفظ «إله» في القرآن الكريم بصوره المختلفة مفرداً و تثنية و جمعاً، مضافاً و غير مضاف 147 مرّة، كما أنّ لفظ الجلالة «اللّه» ورد فيه 980 مرة، و بما أنّ الثاني عَلَم، فهو لايثنّى و لايجمع و لايضاف، بل يستعمل مفرداً مطلقا.
وكثرة ورودهما في الكتاب العزيز تُعرِب عن دورهما في مجال المعارف الاِلهيّة ولعلّ الوقوف على مفهومهما مضافاً إلى لفظي الربّ و العبادةمفتاح لفهم جلّ المعارف القرآنيّة.
هل الاِلـه بمعنى المعبود؟
قد اشتهر في الاَلسن أن ّ الاِله من «اَلَه» بمعنى عَبَدَ، وأنّالاِله بمعنى المعبود، و هذا و إن كان مشهوراً لكن لا تصدقه وحدة المادّة ولا القرآن الكريم و إليك الكلام في المقامين.
الاِله في اللغة
أمّا الاَُول: فلاَنّاللفظين (اللّه و إله) مأخوذان من مادة واحدة فلابدّ أن يكونا بمعنى واحد غير أنّالاَوّل عَلَم دون الآخر، و لايتجاوز التفاوت بينهما هذا الحدّ، فلفظ الجلالة مأخوذ من «إله»، فحذفت منه الهمزة وحلّ مكانها اللام فصار«اللّه».

يقول الزمخشري: اللّه، أصله «الاه»، قال الشاعر:

معاذ الاِله أن تكون كظبية * ولا دمية ولا عقيلة ربرب(1)

ونظيره، الناس، أصله أُناس، فحذفت الهمزة وعوضت عنها حرف التعريف.
و لذلك قيل في النداء يا اللّه بالقطع، كما يقال يا إله، و الاِله من أسماء الاَجناس كرجل.(2)
و قال سيبويه في تفسير لفظ الجلالة: انّأصله «إلاه» على وزن فعال فحذفت الفاء التي هي الهمزة و جعلت الاَلف و اللام عوضاً لازماً عنها، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة(3)الداخلة على لام التعريف في النداء في نحو قوله: يا اللّه اغفر لي، و لو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل كما لم تثبت في غير هذا(4)الاسم.
وقال الراغب في مفراداته: اللّه أصله إله فحذفت همزته و أُدخل عليه الاَلف واللام فخص بالباري و لتخصصه به قال تعالى: "هل تعلم له سمياً".(5)
و على هذا فلا نحتاج إلى تفسير «إله» إلى شيء وراء تصور أنّهذا اللفظ كليّ و ما وضع عليه لفظ الجلالة، و بما أنّهذا اللفظ (اللّه) من أوضح المفاهيم فلانحتاج في فهم اللفظ الموضوع للكلي من هذا الفرد إلى شيء آخر.
وعلى ذلك، فلا فرق بينَ لفظ الجلالة و لفظ «إله» سوى أنّ أحدَهما علم والآخر موضوع لمعنى كليّ، ومصداق لفظ الجلالة فرد منه، و إن لم يوجد لهذا

____________
(1) استعاذ الشاعر باللّه من تشبيه حبيبه بالظبية أو الدمية، و الربرب هو السرب من الوحشي.
(2) الزمخشري: الكشاف1: 30 في تفسير البسملة.
(3) المقصود ثباتها عند دخول حرف النداء.
(4) الطبرسي: مجمع البيان1:19.
(5) الراغب: المفردات: 31، مادة اله.

الكلي فرد حقيقي سوى اللّه سبحانه.
نعم اخترعت الاَوهام لهذاالكليّ مصاديقَ خاطئة تصوروا أنّها من مصاديقه ولكنّها آلهة كاذبة ليست لها من الاَُلوهية سوى الاسم الذي أطلقوه عليها، يقول سبحانه: "إِنْ هِي َإِلاّ أَسْماءٌ سمَّيتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباوَُكُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطان" (النجم|23).
فإذا كان المتبادرُ من لفظ الجلالة شيء غير المعبود، كواجب الوجود، أو الذات الجامعة لصفات الجمال والكمال او خالق السماوات والاَرض و مافيهنّ و مابينهنّ مدبّرها أو ما يقرب ممّا ذكر، فليكن المتبادر من «الاِله» هو ذلك غير أنّ أحدهما علم والآخر كلي.
و يوَيد وحدة مفهومها بالذات مضافاً إلى ما ذكرناه من وحدة المادة، أنّه ربما يستعمل لفظ الجلالة مكان الاِله بمعنى أنّه يستعمل في المعنى الكلي و الوصفي دون العلمي فيصح وضعه مكان الاِله كما في قوله سبحانه:
"وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمواتِ وَ فِي الاََرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ" (الاَنعام|3)، فالآية تهدف إلى أنّ إله السماء هو إله الاَرض و ليس هناك آلهة بحسب الاَنواع و الاَقوام، فالضمير (هو) مبتدء و لفظ الجلالة خبر والمعنى هو المتفرد بالاِلهيّة في السماوات فوزانها وزان قوله سبحانه:
"وَ هُوَ الّذي فِي السَّماءِ إلهٌ وَفِي الاََرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكيم العَليم" (الزخرف|84).
فانّ اللفظين في الآيتين بمعنى و احد، بمعنى أنّ لفظ الجلالة في الآية الاَُولى خرجَ عن العلمية و عاد إلى الكلّية والوصفية، ولذلك صح جعله مكانَ الاِله في الآية الاَُولى، و جيء بنفس لفظ الاِله في الآية الثانية.
و قريب من هاتين الآيتين الآية التالية إذ يقول سبحانه:
"وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيراً لَكُمْ إِنّما اللّهُ إِلهٌ واحِد سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَه ُوَلَد" (النساء|171).
ومن المعلوم أنّ لفظ الجلالة في الآية منسلخ عن معنى العلمية لوضوح أنّ مصداق العلم واحد لا كثير فلا وجه للتركيز على انّه واحد، فإذاً لايصحّ التركيز إلاّ بانسلاخ لفظ الجلالة عن معنى العلمية حتى يصحّ التأكيد على أنّ اللّه إله واحد.
نعم لقائل أن يقول: إنّ الاِله في الآية بمعنى المعبود، والهدف من التأكيد بالوحدانيّة، أنّه لا معبود سواه، فتكون النتيجة حصر المعبود الواحد فيه سبحانه.
و لكن التمعن في صدرها و ذيلها، لا يدعم ذلك الرأي و ذلك لانّها بصدد إثبات توحيد الذات و إبطال التثليث كما عليه النصرانية في عصر الرسول و ما بعده إلى يومنا هذا. فالمسيح عندهم جزء من العناصر الثلاثة التي تشكل إلهاً واحداً ويُشار إلى ذلك الواحد بلفظ الجلالة، ففي ذلك الموقف الخطير الذي يريد فيه النصراني نفي توحيد الذات وإثبات كثرتها يُناسب التركيز على وحدة الذات، وتوحيدها، لا وحدة المعبود التي لا تصل النوبة إليها إلاّ بعد الفراغ عن مسألة وحدة الذات وكثرتها قال سبحانه:
"يا أهْلَ الْكِتاب لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاّ الحَقَّ إِنَّما الْمَسيحُ عيسَى ابنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ و َكَلِمَتهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيراً لَكُمْ إِنَّما اللّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّموات ِوَما فِي الاََرْض وَكَفى بِاللّهِ وَكيلاً" (النساء|171).
قد صيغت الآية و كأنّها سبيكة واحدة، لدحض مزعمة التثليث التي لاتتفق مع وحدانية الذات و لاَجل ذلك يقول بعد قوله: "إِنّما اللّه إله واحد" "سبحانه أن يكون له ولد" أي فهو موجود بسيط ، " لم يلد و لم يولد"، فكيف يكون له ولد، و هو في غنى عن الولد، وهو مالك لما في السماوات و الاَرض.

وكلّ عربي صميم إذا تجرد عن كلّ رأي مسبق و دعمِ أي مذهب، لا يتلقى من الآية، إلاّ ما ذكرنا و انّ المقصود أنّه لا مصداق للاِله الذي يعتقده الاِنسان بقضاء الفطرة إلاّ هو.
وهناك مجموعة من الآيات يمكن أن نستظهر منها ما قويناه و هو وحدة مفهوم اللفظين (اللّه ـ الاِله) و الاختلاف بينهما في الجزئية والكلية. قال سبحانه:
"هُوَ اللّهُ الّذي لا إلهَ إِلاّ هُو عالِمُ الغَيبِ و الشَهادَةِ هوَ الرَحْمنُ الرَحيم*
هُوَ اللّهُ الّذي لا إلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُوَْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبـّارُالْمُتَكَبِّرُ سُبـْحانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ*
هُوَ اللّهُ الْخالِقُ البارىَ المُصَوِّرُ لَهُ الاََسْـماءُ الْحُسنى يُسَبِحُ لَهُ ما فِي السَّمواتِ وَ الاََرض وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيم" (الحشر|23ـ24).
وأمّا كيفية الدلالة، فبيانها: انّمرجعَ الضمير في صدر الآيات هو الموجود الذي يعتقده الاِنسان بقضاء الفطرة و يتوجه إليه في الشدائد و المصائب و تعبِّر عنه كلّأُمة بلغتها ـ فعندئذٍ ، يكون مفاد الآية أنّ ذاك المعتقد العام (هو) ليس إلاّمن له هذه الاَوصاف.
"اللّهُ الّذي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ..." .
"اللّهُ الّذي لا إلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ ..." .
"اللّهُ الْخالِقُ البارىَ المُصَوِّر..."(الحشر|22ـ24).
إلى غير ذلك من خصائص الاِله.
فلا مناص في تفسير الآيات عن القول بانسلاح لفظ الجلالة عن معنى العلمية، وترادفه مع لفظ الاِله حتى يقع وصفاً كسائر الاَوصاف.