لم تُبقِ الأنظمة السياسية هيمنتها في مجال الحكم فحسب، بل بسطت نفوذها حتّى على المستوى الفكري والاتجاه الثقافي كذلك.


أي حاولت السياسة أن تتدخل على الصعيد الديني كذلك، فالنظام السياسي السائد حرص أن لا ينفصل عن الدين وأن يكون نمط النظام الحاكم كالنمط السائد إبّان عصر النبوّة، وهو تكلّف زائد كما ترى، إذ لا يمكن أن يكون الحاكم الذي جاء بعد النبيّ(ص) يتمتّع بقابليات خارقة ومواهب فذّة، كما هو الحال لدى النبيّ(ص) عدا ما عُرف عن عليّ بن أبي طالب(ع) من مواهب القيادة الدينية فضلاً عن السياسية، وهو ليس تطرفاً للتعبّد بوجهة نظر خاصة، بل إنّ حقيقة الأحداث أكّدت ذلك، فقد ساد الشعور إبّان دولة عليّ(ع) بأنّه عصر ينتسب إلى عصر النبيّ(ص) في قيادته وكان الإصرار على أن يتمّ تقديم صورة اُخرى عن القيادة النبويّة يتأكد في كل تطبيقات القيادة الجديدة، لذا لم يجد بعضهم مندوحة للرضوخ إلى ما انتهجه عليٌ(ع) في صرامة مواقفه لتطبيق الإسلام بحذافيره.
ولا يهمّنا التعرّض أكثر من ذلك بقدر ما أردنا الإشارة إلى أنّ تدخّل القيادة السياسية في الاُمور الدينية يعرقل بعض الإنجازات التي كانت من المفترض أن يقوم بها غيرها.
كان جمع القرآن أمراً مشوباً بالمخاطر بعد ما اتّخذ عنواناً سياسياً أسبغته عليه القيادة، فالقيادة حاولت أن تسجل لنفسها مفخرة على حساب الموروث الديني، إلاّ أنّها أخطأت في موردين، أحدهما حظرها الحديث النبويّ لأسباب سياسية لا مجال هنا لذكرها([1]). والثاني محاولتها جمع القرآن.
فقضية جمع القرآن قضية إدانة أكثر من كونها مكرمة
تعتزّ بها القيادة، إذ عمدت القيادة إلى تغييب القرآن الكريم
عن التداول بحجّة اكتفائها بما هو محفوظ لدى المسلمين، وأبعدت نسخته الأصلية المحفوظة لدى النبيّ(ص) عن التداول،
بل حظرت التعامل به لئلاّ تحظى المعارضة باهتمام المسلمين وبالتالي تتوجّه الأنظار إليها وهي في مرحلة إثبات شرعيتها،
فإذا كانت المعارضة التي يتزعّمها عليّ بن أبي طالب(ع) نجحت في تقديم القرآن الكريم للمسلمين، فمعنى ذلك أن المعارضة تتمسّك بشرعية وراثة النبيّ(ص) في خلافته، كما حظيت هي
بوراثة القرآن المحفوظة لديه(ص)، لذا فالروايات التي بين
أيدينا تؤكّد أنّ علياً(ع) جمع القرآن بُعيد وفاة النبيّ(ص)،
وجمعه بمعنى ترتيبه وإخراجه منظوماً حسب ترتيب سوره،
فقد روى اليعقوبي: «أنّ عليّ بن أبي طالب كان جمعه لمّا قُبض رسول الله(ص) وأتى به يحمل على جمل، فقال هذا القرآن قد
جمعته»([2]).

وفي مصنف ابن أبي شيبة: «لما استخلف أبو بكر، قعد
عليّ في بيته، فقيل لأبي بكر، فأرسل إليه: أكرهت خلافتي؟
قال: لا، لم أكره خلافتك، ولكن كان القرآن يزاد فيه،
فلمّا قبض رسول الله(ص) جعلت عليَّ أن لا أرتدي إلاّ إلى
الصلاة حتّى أجمعه للناس» فقال أبو بكر: نِعمَ
ما رأيت»([3]).

وفي كنز العمال: لمّا توفّي النبيّ(ص) أقسم عليّ أن لا يرتدي برداء إلا ّ الجمعة حتّى يجمع القرآن في مصحف، ففعل، وأرسل إليه أبو بكر بعد أيام: أكرهت إمارتي يا أبا الحسن؟ قال: لا والله
إلا أنّي أقسمت أن لا أرتدي برداء إلاّ الجمعة، فبايعه ثم رجع...»([4]).

هذه هي الروايات السنيّة تروي أنّ عليّاً جمع القرآن وأقرّه على ذلك أبو بكر، إلا أنّها ساكتة عن مصير هذا القرآن، هل قبلوه وأقرّوه، أم تحفّظوا على قبوله والإقرار به.
إلا أنّ الروايات الشيعية تؤكّد أنّ عليّاً(ع) جمع القرآن، إلا أنّه جوبه بمعارضة القيادة في قبوله والإقرار به، بحجة أنّها تملك النصوص القرآنية، فأقفل عليُّ راجعاً ومعه القرآن.
ففي الكافي في رواية عن أبي عبدالله الصادق(ع): إلى أن قال: أخرجه ـ أي المصحف ـ إلى الناس حين فرغ منه وكتبه، فقال لهم: «هذا كتاب الله عزّ وجلّ كما أنزله الله على محمّد(ص) وقد جمعته بين اللوحين»، فقالوا: هوذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لاحاجة لنا فيه، فقال: «أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً، إنّما كان عليّ أن اُخبركم حيث جمعته لتقرؤوه»([5]).
وفي رواية سليم بن قيس «... فلما رأى غدرهم وقلّة وفائهم له لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلّفه ويجمعه، فلم يخرج من بيته حتّى جمعه، وكان في الصحف والشظاظ والأسيار والرقاع».
فلمّا جمعه كلّه، وكتبه بيده على تنزيله وتأويله، والناسخ والمنسوخ بعث إليه أبو بكر أن أخرج فبايع، فبعث إليه عليّ(ع): «إنّي لمشغول وقد آليتُ على نفسي يميناً أن لا أرتدي رداءً إلا للصلاة حتّى أؤلّف القرآن وأجمعه».
فسكتوا عنه أياماً فجمعه في ثوب واحد وختمه، ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله(ص)، فنادى عليّ(ع) بأعلى صوته: «يا أيّها الناس، إنّي لم أزل منذ قبض
رسول الله(ص) مشغولاً بغسله، ثم بالقرآن حتّى جمعته كلّه في هذا الثوب الواحد، فلم ينزّل الله تعالى على رسول الله(ص) آية إلا ّ وقد جمعتها، وليست منه آية إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله(ص) وعلّمني تأويلها».

ثمّ قال لهم عليّ(ع): «لئلاّ تقولوا غداً أنّا كنا عن هذا غافلين».
ثم قال لهم عليّ(ع)«لئلاّ تقولوا يوم القيامة أنّي لم أدعكم إلى نصرتي، ولم أذكّركم حقّي، ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته».
فقال عمر: «ما أغنانا بما معنا من القرآن عمّا تدعونا إليه»([6]).
إذن فالروايات الشيعية والسنّية متّفقة أنّ عليّاً(ع) قد جمع القرآن، إلا ّ أنّ الروايات السنّية تتجاهل مصير هذا القرآن وتتوقف في بيان قبول أو رفض القرآن من قبل القيادة، إلاّ أنّ الروايات الشيعية تحمّل مسؤولية عدم قبول القرآن الذي جمعه علي(ع) على عاتق القيادة، وهو أمر طبيعي في ظل الظروف المتشنّجة التي عاشتها القيادة السياسية وقتذاك، فمحاولات الرفض وعدم التسليم والقبول من قبل المعارضة لتحرّك القيادة وإعلان زعامتها المفاجئة للمسلمين دون مشورة المسلمين أوجدت حالات من التشنّج حيال المعارضة للقيادة الجديدة، وبالمقابل فإن القيادة السياسية كانت متوجّسة من سريان هذا الرفض لجميع القواعد الشعبية لولا السطوة العسكرية واُسلوب العنف والتهديد الذي استعملته القيادة الجديدة بعد تسلّمها زمام الاُمور، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى فإنّ روايات كتّاب الوحي تحثّنا على التساؤل عن مصير ما كتبه هؤلاء الكتّاب ساعة نزول الوحي وأمر النبيّ(ص) بكتابته، ومن العسير جداً أن نقبل الرأي القائل بأنّ القرآن كان مبعثراً في صحف هذا أو صحف ذاك وكان بعضهم يحتفظ بسورة والآخر يحتفظ بأكثر من آية دون أن يستطيع النبيّ(ص) الحفاظ على القرآن من التبعثر والضياع، فمسؤولية النبيّ(ص) في حفظ القرآن وصيانته لا تقلّ أهميتها عن تبليغه، إذن فهل يمكننا قبول أنّ القرآن بقي مبعثراً حتّى أواخر عهد الخليفة الأول، فجمعه في قرآن جامع وأعاد عثمان المحاولة ثانيةً؟!
ولمناقشة ذلك يمكن ذكر ما يلي:
أولاً: أنّ القيادة الجديدة في بادئ الأمر حاولت إبعاد المعارضة عن الظهور على مسرح الأحداث، وسدّ الطريق عليها بوسائل العنف والتهديد، وكان لدى المعارضة فرصة إثبات شرعيّتها ساعتئذٍ في أنها الوريثة الوحيدة للنبيّ(ص) فكما هي ورثت القرآن الذي أودعه إيّاها، فإنّ إمكانية وراثة الخلافة أمر ممكن وفرض مقبول دون الحاجة إلى إثبات ذلك بوسائل اُخرى، وإذا علم المسلمون أن عليّاً(ع) هو القيّم على جمع القرآن ومعرفة تفسيره وتأويله، فَلِمَ يكون لغيره الحقّ في التقدّم لزعامة المسلمين، وهو الأمر الذي يرتكز في نفوس المسلمين جميعاً، إلا ّ أنّ جمع القرآن هي الآلية التي تتيسّر في هذه الظروف لتذكير المسلمين بأحقّيّة أهل البيت^ وتحريك الشعور العام واحتوائه، لذا فالقيادة الجديدة كانت متوجّسةً من هذا المحذور ما جعلها تفرض حصارها على عليّ بن أبي طالب(ع) وإلغاء دوره أو تهميشه، فكان جمع القرآن ضحيّة هذا الإجراء السياسي الصارم.
ثانياً: أنّ عليّاً(ع) كونه القيّم على القرآن الذي أودعه
رسول الله(ص) عنده فمن غير الممكن أن يحجبه عن المسلمين ويحرمهم منه، فإن ذلك يُعدّ تفريطاً بالقرآن وتضييعاً لحقوقه، وعليٌّ(ع) أجلّ من أن يكون مفرّطاً بكتاب الله، أو مضيّعاً لحقوقه، فقد بذل كل جهوده من أجل إبقاء دين الله، فتضحيته بحقوقه ولزوم الهدنة بينه وبين غيره، دليل على حرصه أن لا تضيّع الأهواء دين الله، وتفريطه بحقوقه أهون عليه من التفريط بحقّ الله، إذن فعليّ(ع) لم يكن معزولاً عن أهل مودّته وخاصّته وشيعته الذين انصاعوا لأمره بعدم التورّط في أحداث يذهب معها الدين الحنيف ضحية النزاع، بل آثروا التجنّب ولزوم الموادعة، إلاّ أنهم لم يؤثروا في دينهم على عليّ(ع) من هو دونه، بل كان عليّ(ع) مرجعهم فمنه يأخذون وإليه يرجعون، فالقرآن الجامع كان قد تداوله أصحاب عليّ(ع) وشيعته وبثّوه بين المسلمين، فصارت قراءته إحدى القراءات، فلمّا تعدّدت القراءات وخيف الاختلاف أمر الخليفة الأول بجمع الناس على قراءة واحدة ـ وسمّي بالجمع الأول ـ وكذلك أمرالخليفة الثالث بجمع الناس على قراءة واحدة ـ وسمّي بالجمع الثاني ـ فكانت هي قراءة القرآن الذي جمعه عليّ(ع) وهو المتواتر بين المسلمين اليوم.

نعم، ربما أدخلت السياسة التقديم والتأخير في نظمه فهو شيء محتمل فضلاً عن إبعاد القرآن الذي فيه التفسير والتأويل عند عليّ(ع) عن التداول واحتفظ به أهل البيت^ وحدهم واختصوا به دون غيرهم.
إذن:
فخلاصة النقطة الثانية ستكون في نتيجتين محتملتين:
النتيجة الاُولى المحتملة
أن يكون القرآن الذي جمعه عليّ(ع) قد تداولته شيعته وأصحابه، وكانت إحدى القراءات المتداولة، فلما أرادوا جمع القرآن قرّروا الأخذ بالقراءة المتداولة ـ إذا ذهبنا إلى أنّ الجمع يعني الأخذ بالقراءة المتداولة ـ فإنّ القراءة المتداولة الصحيحة هي قراءة القرآن الذي كان عند عليّ(ع) واتّفق المسلمون اليوم على قراءته وتداوله، فهي القراءة المشهورة والنسخة المتداولة، فقراءة عاصم هي القراءة المشهورة المعروفة «وكل ما رأيناه من المصاحف القديمة والحديثة قد رسم خطه على طبق أصله»([7]).
قال حفص: قال لي عاصم: ما كان من القراءة التي أقرأتك بها فهي القراءة التي قرأت بها على أبي عبدالله السلمي عن عليّ(ع)([8]).
إذن فالمتداولة هي قراءة عاصم المقروءة عن عليّ(ع).
النتيجة الثانية المحتملة
إنّ الخليفة الأول، ومثله الخليفة الثالث قد أقرّا ما جمعاه في قرآن واحد، وفرضا على الناس تداوله وقراءته، إلاّ أنّ ذلك لم يحظ بالقبول من قبل الناس، بل رجعوا إلى القرآن الذي جمعه عليّ(ع) وغلب على الناس، فاضطرّ الباقون للقبول بواقع الأمر وخضوعهم إلى قبول ما في أيدي الناس، فكان بعد ذلك قرآن عليّ(ع) هو المتداول وقراءته هي المشهورة.

أين المشكلة إذن ؟
المشكلة تكمن في عدم قبول القيادة الجديدة بقرآن عليّ(ع) من أول الأمر ومحاولة حجبه، فعلى الرأيين إن كان الجمع، يعني جمع القرآن في مصحف واحد، أوجمع الناس على قراءة واحدة، فانّ نفس التلكّؤ والتأخير أوجدا فاصلاً زمنياً ليس قليلاً إنبثقت من خلاله محاولات التحريف، وهذه المحاولات إمّا كانت عن عمد أو عن جهل، فقد أوجد عدم القبول بمصحف عليّ(ع) من أول الأمر مناخاً مناسباً لتنامي الاحتمالات وحالات الوهم، ومحاولات الوضع طريقها إلى الواقع، أي واقع البحث العملي دون المساس بقرآنية القرآن الكريم.
ولابدّ لنا من التسليم بأنّ القراءات بدأت تنشأ في الفترة التي حظر فيها التعامل مع قرآن عليّ(ع) بعد رفضهم لقبوله بُعيد رحيل النبيّ(ص) وبالتأكيد فإنّ باب الاجتهاد والتكلّف في القراءة بدأت تتصاعد وتائرها، بل بدأ التنافس بين المسلمين يتنامى في ظل غياب القرآن الجامع المحظور وهو الأمر الذي يدفعنا الى إدانة القيادة زمن الشيخين في تلكّئها بقبول القرآن الذي جاء به عليّ(ع)، فإن التنافس السياسي والشحناء التي امتازت بها تحرّكات القيادة ضد معارضيها فرّطت بأقدس ما يملكه المسلمون وهو القرآن الكريم، إلاّ أنّ الله حفظه لهم وأعاده إليهم بعد ما حاول أصحاب القرار السياسي أن يتصرّفوا وفقاً للمقاييس السياسية التي تضمن لهم الربح والخسارة في شأن جمع القرآن وتداوله.
والروايتان الآتيتان تحتّمان علينا القبول بنشوء القراءات إبّان عهدي الشيخين ونَمَت في عهد الخليفة الثالث.
الرواية الاُولى:
روى زيد بن ثابت، قال:

>أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل يمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر: أنّ عمر أتاني فقال: إنّ القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن وأنّي أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وأنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتّى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر.
قال زيد: قال أبو بكر: إنّك رجل شاب عاقل لا نتّهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله(ص) فتتبّع القرآن فاجمعه، فو الله لوكلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ ممّا أمرني من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله(ص)؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتّى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر< فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتّى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره:
{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ، فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }.
حتّى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتّى توفّاه الله ثم عند عمر في حياته، ثم عند حفصة بنت عمر([9]).
الرواية الثانية:
روى ابن شهاب أنّ أنس بن مالك حدّثه:

«أنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فافزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الاُمّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثمّ نردّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتّى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل الى كل اُفق بمصحف ممّا نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة، أو مصحف أن يحرق»([10]).
هاتان الروايتان تثبتان أنّ هناك فترة زمنية بين وفاة النبيّ(ص) وبين جمعهم للقرآن، وبالتأكيد فقد نشأت خلال الفترة التي سبقت الجمع قراءات عدّة واجتهادات تدخّلت في اختيار القراءة التي تتناسب وذوق المقرئ واجتهاده، وهذا لعمري أول سبب على ما نراه لنشوء التحريف ومحاولات المحرّفين الزجّ بآرائهم من أجل تحقيق أغراض تستثمر مصالحها جهاتٌ خاصّة لم توفّق في مهمتها ونواياها.