لم تعد تعدّد القراءات بالقضية اليسيرة، فهي مشكلة شائكة معقدة، وتعقيدها ينجم عن الإصرار على تصحيحها رغم خطئها، إذ تُعدّ مشكلة هذا التعدّد من أوضح نماذج التحريف الذي تورّطت به المذاهب الإسلامية وعدّته إحدى «حقوق» القرّاء الذين «خوّلتهم» فطنتهم وحذاقتهم بالاجتهاد في قراءات عدّة، حتّى عدّوا منها أربع عشرة قراءة، أمّا المشهور منها فسبعة.
تكشف تعدّد القراءات عن مدى تنامي الصراع بين اُولئك الذين سمحوا لأنفسهم أن يقرأوا القرآن حسب اجتهادهم مخالفين في ذلك الأصل المنزل على النبيّ(ص)، وتُعدّ هذه القراءات محاولات تأسيسية لكيانات علمية سعى أصحابها للوصول إلى غاياتهم عن طريق مخالفة أصل القرآن بحجّة الاختصاص بقراءةٍ خاصة.
كان للتنافس الإقليمي بين البلدان الإسلامية أثره في إضفاء الشرعية على تعدّد القراءات، فللقرآن قداسته وعظمته بين المسلمين، ولغرض أن يتصدر بلد ما أولوية الاهتمام بالقرآن ابتدع لنفسه اُسلوباً خاصاً للقراءة، فالعصبية التي تحملها البلدان الإسلامية من أجل منافسة غيرها دفعتها إلى الاختصاص بلون معين من القراءة القرآنية، ولعل ذلك منشؤه تعاظم خطورة التحزّبات السياسية التي كان كل بلد ينتهجها ويرى أحقّيته من غيره، فالملاحظ أن نشوء القرّاء السبعة كان في العهدين الاُموي والعباسي، ويبدو أنّ العهد الاُموي أكثر العهود حزبيّة، إذ فتح الباب على مصراعيه للصراع الحزبي والسياسي فنشوء الخوارج والمرجئة والأشعرية والمعتزلة وغيرهم كان إبّان العهدين الاُموي والعباسي وكان كل واحد من هؤلاء القرّاء ينتمي إلى إحدى هذه الكيانات الحزبية والفكرية وإن لم يصرّح في هذا الشأن، إلاّ أنّ انتماءاتهم الإقليمية كانت تقتضي انتماءهم الفكري، فاحتفاء الشام بعبدالله بن عامر اليحصبي وقراءته ينمي عن تبنّيه لتوجّهات أهل الشام.
وكذا الحال في نزوع أهل مكة لمقرئهم عبدالله بن كثير الداري، وهكذا لأهل المدينة والكوفة والبصرة.
إذن فالتزام كل بلد بقراءةٍ معينةٍ يكشف عن تبنّي مقرئها لتوجهات ذلك البلد، فهم يتفاخرون بقراءة مقرئهم.
ويمكننا أن نستعرض هؤلاء القرّاء ونماذج من قراءاتهم كما ورد، لنرى اختصاص كل بلد بمقرئه:
1 - عبدالله بن عامر اليحصبي قارئ الشام المتوفي 118هـ..
2- عاصم بن أبي النجود الأسدي قارئ الكوفة المتوفي 128هـ..
3- أبو عمرو بن العلاء المازني قارئ البصرة المتوفي 154هـ..
4- عبدالله بن كثير الداري قارئ مكة المتوفي 120هـ..
5- حمزة بن حبيب الزيّات قارئ الكوفة أيضاً المتوفي 156هـ..
6- نافع بن عبدالرحمن الليثي قارئ المدينة المتوفي 169هـ..
7- علي بن حمزة الكسائي قارئ الكوفة كذلك المتوفي 189هـ..
أمّا التحريفات التي خلّفتها هذه القراءات فمنها:
في قولـه تعالى: { وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ } حرّفت إلى: «وهل يجازى».
في قولـه تعالى: { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } حُرّفت إلى «بعد اُمه».
وقولـه تعالى: {وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا } حرّفت إلى «ننشرها».
وقـولـه تعالى: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } حرّفت إلى «فرغ».
وقـولـه تعالى: { يَقُصُّ الْحَقَّ } حرّفت إلى «يقضي».
وقـولـه تعالى: { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } حرّفت إلى «زقية واحدة».
وقولـه تعالى: { كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ } حرّفت إلى «كالصوف المنفوش».
وقـولـه تعالى: { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } حرّفت إلى «وجاءت سكرة الحق بالموت».
وقوله تعالى: { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } حرّفت إلى «وما عملت».
وقـولــه تعالى: { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } حرّفت باضافة: «اُنثى».
وقـولـه تعالى: { إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا }. وزيدت إليها: «من نفسي فكيف أظهركم عليها».
وقـولـه تعالى: { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنهَارُ } حرّفت «من تحتها الأنهار»([1]).
هذه هي مشكلة القراءات التي جعلها بعضهم متواترة في حين ينفي الشيعة تواترها ويعدّونها أخبار آحاد لم تثبت قرآنيتها، فقد قال السيد الخوئي&: «والمعروف عند الشيعة أنها غير متواترة، بل القراءات بين ما هو اجتهاد من القارئ وبين ما هو منقول بخبر واحد([2])».
على أنّنا لا ننفي تدخّل الولاءات غير العربية في اختيار القراءات وتعدّدها، فالقرّاء لم يكونوا عرباً إلاّ ما ندر، وولاءاتهم لمواليهم ستكون سبباً في الرغبة للتميّز عن غيرهم من القرّاء الآخرين، فضلاً عن السعي إلى الشهرة والتخلّص من خمول الذكر الذي يصاحبهم ولإثبات شخصيّاتهم وذواتهم المضيعة والمختفية خلف العرب الأسياد الذين ينظرون إلى مواليهم نظرة إستعلائية إستكبارية.
قال أبو عمرو الداني: «ليس في القرّاء الشيعة من العرب سوى إثنين: عبد الله بن عامر اليحصبي قارئ دمشق، وأبي عمرو بن العلاء المازني قارئ البصرة».
قلت: أمّا ابن عامر فكان يزعم أنّه من حِمْير، غير أنّ ابن حجر ذكر أنّه ممّن يُغمز في نسبه.
وكذا أبو عمرو بن العلاء قيل: «إنّه من مازن تميم، لكن حكى القاضي أسد اليزيدي أنّه من فارس ـ شيراز ـ من قرية يقال لها «كازرون» وهي معمورة اليوم([3])».
وللتوجّهات السياسية من جهة وهيمنة الحكومات على المجريات الثقافية من جهة اُخرى أثرها في تعدّد هذه القراءات، فبعض القرّاء أو ممّن روى عنهم كانت لهم علاقات حميمة مع النظام السياسي آنذاك، وكانت لسلطته هذه أن مُنح تخويلاً في الاجتهاد بقراءته بغضّ النظر عمّا تخلّف هذه القراءة أوتلك من تحريف في القرآن الكريم، كما أنّ السلطة ترى أنّ لها تقدماً ملحوظاً في الجانب الديني، أي أنّ الإصلاح الديني من أولويات النظام وانتماء أحد القرّاء لهذه السلطة أو تلك لا يعني إلا ّ أنّ هذا القارئ قد تحرّك تحت نظر السلطة فيما يخص القراءة القرآنية وهي إحدى الخطوات الإصلاحية التي كانت تقدّمها السلطة للدين، وبذلك تحاول السلطة الحصول على شرعية ما لأ نّها القيّمة على النظام الإصلاحي الديني، ومثالاً على ذلك فإنّ عبد الله بن عامر اليحصبي كان «رئيس أهل المسجد زمان الوليد بن عبدالملك... وقال أبو عمرو الداني: ولي قضاء دمشق بعد بلال بن أبي الدرداء، ثم كان على مسجد دمشق، لا يرى فيه بدعة إلا ّ غيّرها... »([4]).
كما أنّ راوي ابن كثير قارئ أهل مكة قنبل وهو محمد بن عبدالرحمن بن محمد بن خالد المخزومي مولاهم المكي، كان على الشرطة بمكة، قال ابن حجر العسقلاني: ولّي الشرطة فخربت سيرته... ([5]).
وهكذا تتدخل الولاءات السياسية في ترويج القراءات وتفضيل أحدها على الآخر.