تُعدّ الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الثلاثة معْلَـماً مهماً من معالم هذه الفترة التي تميّزت بالفتوحات من أجل توسعة رقعة المملكة الإسلامية وتمتين النموّ الاقتصادي الذي بات إحدى أهم موارد الدولة الإسلامية.
فالخطة الاقتصادية إبّان عهد الخلفاء لم تعتمد على التجارة والزراعة بعد أن عانت تراجعاً ملحوظاً شهدته هذه الحقبة، وذلك للتغيّرات السياسية التي حدثت وقتذاك، فكثير ممّن كان يعتمد على الزراعة في مدخـولـه الاقتصادي بات يطمح إلى تغيير هذا التوجّه من نمط حياته.
فقد فتحت الفتوحات باباً واسعاً من التطوّر الاقتصادي الذي يتوخّاه الفرد الملمّ بمردوداته المالية، فطموحاته في الفتوح بتشجيع من الدولة أوهن الحياة الاقتصادية التي تعتمد على الزراعة والتجارة لانشغال الكثير منهم بالالتحاق في الجيوش الفاتحة، فهو سيحصل على غنائم حرب لم يحصل عليها من زراعته أو تجارته، فضلاً عمّا ستوفره هذه الحرب من السبي الذي سيختص به لنفسه.
إذن فالفتوحات الإسلامية فضلاً عن كونها هدفاً لخطة دولة سياسياً واقتصادياً، فإنّها طموحات شخصية استأثر بها بعض المسلمين، فضلاً عمّا تلقيه عملية الفتوحات من عبىء على كاهل الحياة الإسلامية الفتيّة.
فالمسلمون ـ وهم في عهد ديني جديد ـ بحاجة إلى رعاية تربويّة جدّيّة تؤهّلهم لتلقّي ثقافات هذا الدين وما تنطوي عليه من حياة تفتح لهم آفاق التعامل الجديد وتطلّعات الحضارة التي حملها دينهم إليهم.
إلاّ أنّ ذلك لم يحدث؛ فخيبة الأمل التي تحملها أخبار هذه الفتوحات توجب مراجعة جدّيّة لدوافع هذه الفتوحات وما تركته من بصمة العنف التي ارتكبتها الجيوش الفاتحة، فهم بدل من أن يحملوا تسامح الدين الذي يبلّغون عنه، فإنّ حالة العنف والقسوة والإرهاب صاحبت هذه الجيوش، بل مشكلة الاستئثار التي اختص بها اُمراؤهم أبعدت النظرة الطيبة التي كان يتطلّع إليها رعايا البلدان المفتوحة، بل بالعكس فقد أجّجت أكثر الفتوحات روح العداء والكراهية للدين الجديد وأتباعه، فقد أظهر اُمراء الفتح شرههم للمال، وبلغت الضرائب التي جباها مثلاً عبدالله بن أبي سرح من مصر إثني عشر ألف ألف دينار، فقال عثمان لعمرو: درّت اللقاح، قال: ذاك إن يتمّ يضرّ بالفصلان([1])، أي كأنّه حذّره من مغبّة سياسة الضرائب التي يجبيها المسلمون من البلدان المفتوحة.
بل بلغت غنائم أفريقية «ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار.
وروى بعضهم أن عثمان زوّج ابنته من مروان بن الحكم وأمر له بخمس هذا المال»([2]).
فالحروب والفتوحات أنهكت العقلية الإسلامية وأحالتها من عقلية فاتحة تبشّر بالدين الجديد، إلى عقلية غازية تنذر بالدمار والتخريب.
ولا نحتاج إلى شواهد إذا ما استعرضنا قادة الفتوح وقتذاك، فعبد الله بن أبي سرح الذي هدر دمه رسول الله(ص) حتّى لوكان متعلقاً بأستار الكعبة، ومروان بن الحكم ابن طريد رسول الله(ص) لم يستطع أن يبعد لعنة رسول الله(ص) عن أذهان المسلمين، وخروقاته أيام عثمان شاهدة على ذلك حتّى كان سبباً في تأليب المسلمين على عثمان، ولم تجد لمعاوية بن أبي سفيان سابقة الإسلام حتّى عرفه المسلمون بالطليق، إذن فالخروقات التي أحدثتها هذه الفتوحات أمر غير مستبعد، بل هي نتيجة طبيعية لقيادات الفتح وقتذاك.
لم تكن تلك الآثار السلبية هي حصيلة فتوحات غير رشيدة، وحركات غير ناضجة فحسب، بل جعلت البلدان الإسلامية متلقّياً سيّئاً لثقافات تلك البلدان المفتوحة.
فالمسلمون لم يكونوا بعد محصّنين بثقافة إسلامية تمكّنهم من درء مخاطر الغزو الفكري والاختلاط الثقافي، واللغة الاُم ضحية هذا الاختلاط، فضلاً عن ثقافة وفكر المجتمع المتلقّي، والجزيرة العربية تتطلّع إلى حضارات الآخرين وتفاعلها مع الشعوب المفتوحة تفتح لهم آفاق كل جديد ـ بغضّ النظر عن كون هذا الجديد القادم إيجابياً أم سلبياً ـ ومن الطبيعي أنّ شعوب الدول الفاتحة تختلط ثقافاتها بثقافة شعوب الدول المفتوحة، لذا ترى أنّ هذا التمازج الثقافي ترك آثاره على طبيعة اللغة وألفاظها، فضلاً عن اُولئك الموالي الذين عاشوا وسط المجتمع الإسلامي وتثقّفوا فيه وتثقّفوا منه.
فقد «كان العرب محصورين في جزيرتهم القاحلـة، وهم أهـل
بادية وخشونة وشظف من العيش يسمعون بالرومي أو الفارسي، فيعظمون قدره ويتمثّلون بسطوة قيصر وكسرى، ولم يتجاوزوا جزيرة العرب إلاّ قليلاً. فلمّا ظهر الإسلام واجتمعت كلمة العرب، نهضوا للفتح وأوغلوا في البلاد، وفتحوا الأمصار، ولم يستطع شيء أن يوقف تيّارهم، فانساحوا في الأرض حتّى نصبوا أعلامهم على ضفاف الكنج شرقاً، وشواطئ المحيط الأطلسي غرباً، وضفاف نهر لورا شمالاً، وأواسط أفريقيا جنوباً. وملأوا الأرض فتحاً ونصراً، واحتلّوا مدائن كسرى وقيصر، وأقاموا في المدن، وركنوا إلى الحضارة، وتعوّدوا الترف، واختلطت أنسابهم بتوالي الأجيال والقبائل التي قامت بنصرة الإسلام ونشره قبائل مضر وأنصارها من العدنانية والقحطانية.
ولم ينتشر العرب بالفتح فقط، ولكنهم هاجروا أيضاً بأهلهم وخيامهم وأنعامهم التماساً لسعة العيش في البلاد العامرة من مملكتهم الجديدة.
ولا يخفى ما يترتّب على مثل هذا الاختلاط من الانقلاب في اللغة والآداب، لكنه لم ينضج ويظهر إلاّ في عصر الاُمويين فما بعده»([3]).
هذه الظاهرة ألقت بظلالها على الوسط الثقافي وكان لحفظ القرآن شأنه من هذا الاختلاط، فعبثت به بعض هذه الثقافات الهجينة بعيداً عن البلاغة التي عهدناها لدى عرب الجزيرة، وكانت ظاهرة التحريف إحدى نتائج هذه الاختلاط، فركاكة التأليف في الآيات التي زعموا أنها سقطت من القرآن، تشير إلى مشكلة هذا الاختلاط حتّى أنّك تتلمّس في هذه الآيات المفتريات ثقافة اُخرى لم تعهدها بلاغة العرب، فمن آيات التحريف مثلاً:
1- أخرج البخاري وغيره عن عمر بن الخطاب إنّه قال وهو على المنبر: إنّ الله بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً وأنزل عليه الكتاب، فكان ممّا أنزل آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها. رجم رسول الله(ص) ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلّ بترك فريضة أنزلها الله والرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، ثمّ كنا نقرأ فيما يقرأ في كتاب الله، ألا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم([4]).
فما معنى ألا ترغبوا عن آبائكم. ومعنى فإنّه كفر بكم؟
2- «واصطفى الملائكة وجعل من المؤمنين أولئك في خلقه»، فماذا اصطفى من الملائكة، وماذا جعل من المؤمنين؟
3- «لقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون فصبر جميل» فما معنى هذا؟
4- « ولقد آتينا بك الحكم كالذي من قبلك من المرسلين وجعلنا لك منهم وصيّاً لعلّهم يرجعون»([5]).
وما إلى ذلك من منكرات القول وركاكة الألفاظ وتفاهة المعنى.