لم يُعد المجتمع العربي إبّان الصدر الأوّل للإسلام مجتمعاً متحضّراً، فقد كانت البداوة تضرب بأطنابها فيه، والقبائلية شغله الشاغل وقتذاك، أي لم يُتح للمجتمع العربي أن يتعلّم إلاّ في نطاق أعداد محدودة منهم حيث كانت توكل لهم مهمّة كتابة الوحي، وكان أبرزهم عليّ بن أبي طالب(ع)، والأرقم بن أبي الأرقم، وعبدالله بن مسعود.


ولكن تضاعف هذا العدد في العهد المدني إلى نسبة معينة، رغم تشجيع النبيُّ| المسلمين على التعليم، ولعلّ بوادر نشوء المؤسّسات التعليميّة بدأت في المجتمع المدني بعد هجرته المباركة، قال معاذ: سمعت رسول الله(ص) يقول: ما من رجل علّم ولده القرآن، إلاّ توّج الله به يوم القيامة تاج الملك وكُسي حلّتين لم ير الناس مثلهما([1]).
وظهر اهتمام الرسول(ص) بالتعليم في عهد مبكّر فأرسل مصعب بن عمير مع من بايعه بالعقبة الاُولى وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلّمهم الإسلام ... فكان يسمّى «المقرئ» بالمدينة([2]).
وهذا مؤشّر واضح على ترقّي المسلمين في العهد النبويّ الشريف إلى مستوى التعليم، ومحاولة من النبيّ(ص)في محاربة الأمّيّة وخلق مجتمع متعلّم.
على أنّنا لا ننكر ما كان يتمتّع به المجتمع العربي من صفات العبقرية أو محاولات الإبداع بالرغم من ابتعاده عن المؤسسات التعليمية وسبل الحضارة، فكان إزدهار الأدب، وتوهّج الشعر، وذيوع البلاغة له أثره في ترقّي المجتمع وتقدّمه.
والمسلمون كانوا شرائح لهذا المجتمع المتحضّر، أو لذلك المجتمع المتخلّف، فقريش تُعرف بمواهبها التي تقدّمها على باقي القبائل، والهاشميون يحتلّون موقع الصدارة من المجتمع القرشي لما عُرفوا به من الفطنة والذكاء، فاحتلّت مواقع السيادة والشرف، فجمعت بين النسب والحسب فتقدّمت على غيرها من القبائل.
وكانت لبعض هذه القبائل مهمّة العمل والخدمة التي عرفت بها وامتازت بها من بين غيرها، وكانت لقريش رفادة الحاج،
فهي بين من يقوم بضيافته وبين من يقوم بخدمته، حتّى إذا انتهى موسم الحج وأقفل الحجيج من مكة، عادت حياة المكّيين إلى سابق عهدها من العمل والتجارة والزراعة خصوصاً لدى بعض المنابع المائية التي تفيضها عليهم الطبيعة بكرم عيونها المائية المعهودة.

وكانت لقريش رحلة الشتاء والصيف ولهاشم صدارة التجارة وعرف الزهريون وأمثالهم كذلك من كنانة وخزاعة وأسد وهذيل وغطفان وسليم وهوازن وأمثالهم من الأوس والخزرج المدنيين فضلاً عن غسّان وهمدان والأزد ما أهّلهم للاختلاط بغيرهم، فأضافوا لمواهبهم موهبة الكتابة، و بقيت غيرها من القبائل لم ينلها حظ التعليم، فانشغلت بالخدمة أو العمل أو التجارة الداخلية في نطاق الأسواق المكّية، وكان عمر بن الخطاب من بين اُولئك الذين حُرموا من الاختلاط بغيرهم من الأقوام، فقد كان عاكفاً على عمله مشغولاً في بيعه وشرائه أو في رعيه إبله، فقد كانت هذه حرفة المكيّين وغيرهم، لم يتسنّ لعمر وغيره أن يحصلوا على حظّ من ثقافة التعليم حتّى حرمتهم ظروفهم، فقد كان عمر يتعاطى الدلالة ويسعى بين المتبايعين، قال الفيروزآبادي: المبـرطِش: الدلال أو الساعي بين البائع والمشتري، وكان عمر رضي الله تعالى عنه في الجاهلية مبرطـِشاً ([3]). وكان حريصاً على حضوره السوق مرتزقاً ممّا تجنيه خبرته وفطنته في التعامل حتّى ألهاه ذلك عن الأخذ عن رسول الله(ص) .
فقد روى مسلم في صحيحه عن عبيد بن عمير: أنّ أبا موسى استأذن على عمر ثلاثا،ً فوجده مشغولاً فرجع، فقال عمر: ألم تسمع صوت عبدالله بن قيس إئذنوا له، فدعي له فقال: ما حملك على ما صنعت. قال: إنّا كنّا نؤمر بهذا. قال: لتقيمنّ على هذا بيّنة أو لأفعلن، فخرج فانطلق إلى مجلس من الأنصار، فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا ّ أصغرنا، فقام أبو سعيد فقال: كنّا نؤمر بهذا. فقال عمر: خفي عليّ هذا من أمر رسول الله(ص) ألهاني عنه الصفق بالأسواق([4]). حتّى أنّه لم يتوفّر له من الوقت ما يتزوّد به من الحديث، وغيره من المسلمين كانوا كذلك مع حرصهم على التعلّم والاستفادة.
ومن الطبيعي أنّ هذه المستويات المتواضعة لا تقوى على حفظ النصوص أو أنها إذا حفظت شيئاً اختلط عليها ما حفظته من قبل، فتدخل النصوص التي حفظتها بعضها ببعض ما يسبّب ارتباكاً في الحفظ، وتمتدّ هذه المشكلة إلى نصوص القرآن، فيخلطون بعضاً ببعض ويظنّون ـ لقلّة خبرتهم ـ أنّ ما كان من الحديث من القرآن، أو ما كان قرآناً نزل به الوحي هو حديث تفوّه به
رسول الله(ص) في بعض مناسباته، فتتفاقم شبهة التحريف لديهم والخطأ في محفوظاتهم.