يبدو أنّ الحرب الباردة التي أعقبت القتال بين المسلمين واليهود وظّفت جهدها للنيل من قداسة القرآن الكريم.
فالتحريف عند اليهود حالة تقليدية يتّبعها هؤلاء متى ما اقتضى الأمر ذلك، وصراعهم مع التوراة يشهد له القرآن الكريم، وذلك لقوله تعالى: { مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ}( ).
وقولـه تعالى: { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِـهِ }( ).
وقـولـه تعالى { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عنِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ }( ).
وقـولـه تعالى { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ }( ).
فعن السدي في قـولـه: { يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ } قال: هي التوراة حرّفوها( ).
إذن فاليهود ذوو خبرة في مناوراتهم الفكرية من أجل تأسيس ثقافة خاصّة، تساهم في خلق قاعدة عريضة تعارض جهود الإصلاح وتحاول عرقلة رسالات السماء ... هكذا هو تاريخهم، فقد عرفوا بالمعارضة العنيفة حيال ما يطرحه الأنبياء من جهود، ولعلّ ذلك يتجسّد في توراتهم، فقد أظهرت محاولات التحريف في التوراة حالات خرقٍ واضحة تنسجم وتوجّهاتهم.
هذه الحالة تنعكس في تعاملهم مع القرآن الكريم، فقد أتقنوا اللعبة، وحاولوا أن يستخدموا مع القرآن ما استخدموه مع التوراة من محاولات التحريف.
لم تكن لمحاولاتهم هذه أن تنجح ما لم يكن هناك خرق لبعض المسلمين، إذ بإمكان هؤلاء اليهود أن ينفّذوا مخطّطاتهم عن طريق مَنْ يجدون لديه إمكانية الرغبة في التعامل معهم على أساس الثقة المتبادلة بين الفريقين، ولم يكن هناك ما يعرقل اتصال هؤلاء اليهود بالمسلمين، فالحدود مفتوحة بينهم وبين المسلمين، ووسائط النفوذ والاختراق تتهيّأ يوماً بعد آخر متى ما وجد اليهود خطورة الدين الجـديد آخـذةً بالتـزايـد ، لـذا فلابدّ من بـنـاء جسور العلاقـة
الممتدّة بين الفريقين، بين اليهود من جهة وبين المسلمين الذين لايجدون حرجاً من اتصالهم باليهود وبإمكانية إقامة علاقات الصداقة المتبادلة، فكثير من المسلمين كانت لهم قبل إسلامهم علاقات ودّيّة بهؤلاء اليهود، وهم غير مستعدّين لتقويض مثل هذه العلاقات، فالتجارة في مكة ومثلها في المدينة ترتكز على هؤلاء النفرمن اليهود، فقد أمسكوا بأطراف العلاقات التجارية وتمكّنوا من توثيق عُرى العلاقات هذه بينهم وبين المسلمين، أو بينهم وبين الأقلّيّات المسيحية المتاخمة لحدود الجزيرة، وتتصاعد وتائر الحاجة لهذه العلاقات كلّما تصاعدت وتائر التهديد لكيانهم من قبل الدين الجديد.
لذا فقد شعروا بخطورة موقفهم وحراجة وجودهم إذا ما أبقوا على ما هم عليه من الانتظار دونما النفوذ إلى الوسط الإسلامي عن طريق علاقاتهم التقليدية التي كانت قد اُقيمت قبل الاسلام مع بعض المسلمين، وقد امتازت علاقات الصداقة بينهم وبين عمر بن الخطاب وبعض المسلمين بالنموّ المضطرد كلّما وجدوا ضرورة النفوذ في الوسط الإسلامي، فلا تزال أواصر الصداقة تتوطّد بين عمر بن الخطاب وبين هؤلاء اليهود الذين حرصوا على تمتينها بين الحين والآخر.
نجد أن عمر بن الخطاب ـ بالرغم من دخوله الدين الجديد ـ حريص على تفقّد أصدقائه اليهود وتجديد عهد قديم من العلاقات القديمة الحميمة بينهم، وبالمقابل فقد حرص هؤلاء اليهود على ترسيخ هذه العلاقات بما كانوا يبهرون عمر وغيره بكتبهم القديمة التي تحمل ـ كما يزعمون ــ آفاق المستقبل بأخبار وقائع قادمة أو ما ترويه توراتهم من مغيّبات، والعرب وقتذاك يتطلّعون ببداوتهم وسذاجة طبعهم إلى ذوي الأديان الاُخرى والعقائد المتناثرة بينهم، فقد حرصوا أن يسمعوا عن غيرهم الوقائع القادمة وأخبار المستقبل، لذا فقد حرص عمر بن الخطاب على مراودتهم بين الفينة والاُخرى، وحرصوا هم على أن يقدّموا ما بجعبتهم من أخبار الفتن، وهكذا فقد ظنّ عمر بإخوانه اليهود خيراً ـ هكذا كان يعبّر عنهم ـ فقد جاءت بعض الروايات مشيرة إلى تلك العلاقات الفكرية بين الطرفين.
فعن عبدالله بن ثابت الأنصاري ـ خادم رسول الله(ص)ـ قال: جاء عمر بن الخطاب إلى النبيّ(ص) ومعه جوامع التوراة، فقال: مررت على أخٍ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة، أفلا أعرضها عليك؟
فتغيّر وجه رسول الله، فقال [الأنصاري]: أما ترى ما بوجه رسول الله(ص)؟! فقال عمر: رضيت بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمّد رسولاً، فذهب ما كان بوجه رسول الله(ص).
فقال(ص): «والذي نفسي بيده، لو أنّ موسى أصبح فيكم ثم اتبّعتموه وتركتموني لضللتم، أنتم حظّي من الاُمم، وأنا حظّكم من النبيّين»( ).
وعن الشعبي، عن جابر، أن عمر بن الخطاب أتى النبيّ(ص) بكتاب أصابه من بعض الكتب، فقال: يا رسول الله، إنّي أصبت كتاباً حسناً من بعض أهل الكتاب، قال : فغضب| وقال: أمتهوّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة لا تسألوهم عن شيء فيحدّثونكم بحق فتكذّبوا به، أو بباطل فتصدّقوا به، والذي نفسي بيده، لو أنّ موسى كان حيّاً ما وسعه إلاّ أن يتبعني»( ).
إذن فحسن ظنّ عمر بن الخطاب شجّعه على الأخذ من ثقافة اُولئك اليهود المتربّصين، وحاول أن يحتفظ ببعض علاقاته بهم وحرص على السماع منهم والاستماع إليهم.
من هنا جاءت شبهة عمر بن الخطاب في محاولة إقحام آية الرجم في القرآن الكريم، فقد كان يحرص كثيراً على إدخالها.
فقد أخرج النيسابوري عن عمر أنه قال: كنّا نقرأ آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم( ).
وقد تعدّدت روايات آية الرجم إلى حدّ العشرات، ولم يجد اليهود بدّاً من الاعتراف أن آية الرجم وردت في التوراة، كما أخرج الطبري في رواية مطوّلة تتحدّث عن حدّ الزاني في شريعة اليهود المحرّفة إلى أن تقول: وكان النبيّ(ص) قال لهم: «من أعلمكم بالتوراة؟» فقالوا فلان الأعور. فأرسل إليه فأتاه، فقال: «أنت أعلمهم بالتوراة؟» قال: كذلك تزعم اليهود.
فقال النبيّ(ص) : «أنشدك بالله، وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طور سيناء ما تجد في التوراة في الزانين؟» فقال: يا أبا القاسم! ‌يرجمون الدنيئة ويحملون الشريف على بعير، ويحممون وجهه، ويجعلون وجهه من قبل ذنب البعير، ويرجمون الدنيء إذا زنى بالشريفة، ويفعلون بها هي ذلك.
فقال له النبيّ(ص) : «أنشدك بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طور سيناء ما تجد في التوراة؟» فجعل يروغ والنبيّ(ص) ينشده بالله، وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طور سيناء حتّى قال: يا أبا القاسم « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة». فقال رسول الله(ص): فهو ذاك( ).
إذن فقد تأثّر عمر بالتوراة ونسب ما فيها إلى القرآن، وهكذا تزحف التوراة على آيات القرآن عن طريق العلاقات المتبادلة بين بعض المسلمين وبين اليهود الذين استطاعوا أن يجدوا منفـذاً أمـينـاً
يقحمون من خلاله أفكارهم، وليس في وسع عمر أن ينفّذ رغبة اليهود إلا في حدود الاُمنية التي كان يتمنّاها من إدخال ثقافة التوراة ضمن القرآن الكريم، أي تبقى محاولات التحريف إشارات مهمّة لتاريخية العلاقة بين اليهود وبين مركز القرار الإسلامي الذي يتزعّمه الخليفة الأوّل.
على أنّ البعض يشير إلى ظاهرة التحريف في التوراة ويؤكّد على وجود بعض المسلمين الذين يتواطئون معهم في الدفاع عنهم بأنّهم لم يحرّفوا ولم يبدّلوا، وهي إشارة إلى جهد مشترك بين اليهود وبين بعض المسلمين الذين يحاولون تمرير محاولاتهم التحريفيّة، قال صاحب هداية الحيارى ـ بعد أن كتم أسماء اُولئك المتعاونين الذين سهّلوا مهمّة هؤلاء اليهود ـ بوقوع التحريف في التوراة وفريتهم على الأنبياء سبعون كاهناً أجمعوا على تبديل ثلاثة عشر حرفاً من التوراة في فصل، وهذه الطرق يسلكها من يساعدهم على أنّهم لم يحرّفوا ألفاظ التوراة والإنجيل، ولم يبدّلوا شيئاً
منها، فيسلكها نظّار المسلمين معهم من غير تعرّض إلى التبديل والتحريف..( ).
إذن فمحاولات اليهود تختفي خلف سطوة البعض وهيمنة أصحاب القرار.