يبدو أنّ مسألة التلقّي في الصدر الأوّل كانت أمراً مهماً جداً، فالمسلمون جميعاً يجتمعون حول النبيّ(ص) ليستمعوا إلى ما يوحى إليه من القرآن وتختلف مراتب سرعة التلقّي وإحكام الحفظ وإتقانه تبعاً لمستويات المتلقّي وذكائه، وبطبيعة الحال فإنّ المسلـمـين تخـتـلـف مستـويـات ذكائـهم وحفظـهم، فلربّـما حـفظ

أحدهم الآية أو السورة حال سماعه لهما، وربّما لا يحفظ ذلك أحدهم حتّى تتكرّر قراءته لها، بل يبالغ عمر بن الخطاب في إبطائه بحفظ سورة البقرة ليحفظها بعد إثنتي عشرة سنة، فقد أخرج السيوطي ما أخرجه الخطيب في رواة مالك والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر قال: تعلّم عمر البقرة في إثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزوراً، وذكر مالك في الموطأ أنّه بلغه أنّ عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلّمها. وفي رواية أربع
سنين([1]).

لم تكن قابليات عمر بن الخطاب مشجّعةً! فقد أخفق في كثير من قضايا الدولة، ولعلّنا نجد في مواقف عدّة يستعين برعيّته في موقف ينبغي للخليفة معالجته، ففي خبر كعب بن سور الأزدي: أنّ امرأة شكت زوجها إلى عمر فقالت: زوجي يقوم الليل ويصوم النهار وأنا أكره أن أشكوه إليك، فهو يعمل بطاعة الله، فكان عمر لم يفهم عنها وكعب بن سور هذا جالس معه، فأخبره أنها تشكو أنّها ليس لها من زوجها نصيب، فأمره عمر بن الخطاب أن يسمع منها ويقضي بينهما، فقضى للمرأة بيوم من أربعة أيام وليلة من أربع ليال، فسأله عمر عن ذلك فنزع بأنّ الله عزّ وجلّ أحلّ له أربع ليال([2]).
هذه قابليات الخليفة في حفظه وإدراكه، وهو أمر طبيعي أن تتفاوت قدرات الرجال تبعاً لمستويات الذكاء وحدّة الذهن.
فالخليفة عمر ـ والحال هذه ـ سيقع فريسة الوهم والاشتباه بين آيات القرآن الكريم وبين أقوال النبيّ(ص)، وسيستحوذ عليه الخيال طالما هو في العقد السادس من عمره، إذ تتدخّل ذاكرة الشخص في فهمه واستيعابه تبعاً لتقدّم العمر كذلك، فكلّما يتقدم الإنسان في العمر سيؤثّر ذلك على مستوى تلقّيه وتفاعله مع أيّة مادّة ملقاة، وهو ما نراه لدى الأطفال من سرعة الحفظ ودقّة التلقّي، خلاف من تقدّم به العمر. فمثلاً يصرّ عمر بن الخطاب أنّ آية من كتاب الله اُسقطت وهي آية الرجم.
فقد روى مالك، عن يحيى بن سعيد أنّه سمع سعيد بن المسيب يقول: لمّا صَدَرَ عمر بن الخطاب من مِنى أناخ بالأبطح، ثم كوَّم كومة من بطحاء ثم طرح عليها ثوبه، ثم استلقى ومدَّ يده إلى السماء فقال: اللّهم، كبرت سنّي وضعفت قوّتي، وانتشرت رعيّتي، فاقبضني إليك غير مضيّع ولا مفرّط، ثم قدم المدينة فخطب الناس فقال: يا أيّها الناس! قد سُنّت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة، وصفّق بإحدى يديه على الاُخرى، ألا أن لا تضلّوا بالناس يميناً وشمالاً، ثم إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرجم، أن يقول قائل: لا نجد حدَّين في كتاب الله، فقد رجم
رسول الله(ص) ورجـمـنا، وأنّي والـذي نفسي بـيــده، لـولا أن يقـول

الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة» فإنّا قد قرأناها، قال سعيد: فما انسلخ ذو الحجة حتّى قتل عمر([3]).
فقوله كَبُرَ سنّي إشارة إلى ضعف قواه الجسدية ليستشري ذلك إلى إدراكه وتأثيرها على حافظته، بل تخليطه بين آية من القرآن وبين قول النبيّ(ص) فاشتبه عليه الأمر وظنّ أنّ ذلك من القرآن.
لم يكن عمر وحده قد ابتُلي بهذه الظاهرة، فإنّ بعضهم يختلط عليه الأمر بين القرآن وبين الحديث.
فهذه عائشة ضحية التخليط كذلك، فهي تسمع قول النبيّ(ص) تفسيراً لآية ما، فيختلط عليها فتحسبه من ضمن الآية فتذيّل به ما سمعته من القرآن بقول النبيّ(ص).
فقد أخرج مالك، وأحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي داود، وابن الأنباري في المصاحف، والبيهقي في سننه عن أبي يونس مولى عائشة قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذنّي {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} فلما بلغتهاآذنتها، فأملت عليّ «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين» وقالت عائشة: سمعتها من رسول الله(ص).
وفي رواية: فقال لها عمر: ألك بيّنة؟ قالت: لا . قال: فوالله لاندخل في القرآن ما تشهد به امرأة بلا إقامة بيّنة([4]).
وعلى ما يبدو، أنّ عمر لم يعتمد على حافظة عائشة، فطلب منها بيّنة خوفاً من أنّ الأمر قد اختلط عليها.
وفي تعليقة على ذلك قال الباجي: يحتمل أنّها سمعتها على أنّها قرآن، ثم نسخت كما في حديث البراء الذي رواه مسلم، فلعلّ عائشة لم تعلم بنسخها أو اعتقدت أنّها ممّا نسخ حكمه وبقي رسمه، ويحتمل أنّه ذكرها(ص) على أنّها من غير القرآن لتأكيد فضيلتها، فظنّتها قرآناً، فأرادت إثباتها في المصحف لذلك([5]).
والجدير بالذكر أنّ عمراً رفع شعار «حسبنا كتاب الله» وشدّد على منع رواية الحديث ا لنبويّ بحجّة أن لا يختلط القرآن بالحديث، وأنّ المسلمين قريبو عهد بالقرآن وبحديث
رسول الله(ص) فتداول الحديث لعلّه يسبب اختلاطه بآيات القرآن.

كان عمر يتوجّس من ذلك إلاّ أنّه رفع شعاره هذا، للسيطرة على الموقف السياسي، قاطعاً الطريق على وصيّة رسول الله في خلافة عليّ بن أبي طالب، وهو عمل سياسي دقيق حصل عمر على بغيته منه، إلاّ أنّ خوف اختلاط القرآن بالحديث كان أوّل ضحيّته عمر نفسه وعائشة وأمثالهما، فقد خلطوا في رواياتهم للقرآن ولم يفرّقوا بين القرآن و الحديث، فوقعوا في ورطة التحريف شاءوا، أم أبوا ذلك.