هو الاِخبار عن أمرٍ لا واقع له، وهو نقيض الصدق، وقد يقع بالقول، وقد يقع بالفعل كالإشارة الى وقوع أمرٍ لا واقع له مثلاً.

الكذب في ميزان الأَعمال

الكذب موبقة ورذيلة أخلاقية ذات أَثرٍ هدّامٍ مباشر لأخلاقية الفرد والمجتمع، لذا فهي من الأُمور التي حكم بقبحها العقل والشرع. ولِعِظَمِ مفسدةِ هذه الموبقة وما ينبعثُ عنها من الشرور وما تتركه من الآثار السلبية على المجتمع الانساني فرداً وجماعة، نرى الشرع المقدس ـ كتاباً وسنةً ـ قد شدد النكير على مرتكبها وحذر من اقتراف هذه الخطيئة ومقاربتها وأوعد مرتكبيها سوء المنقلب والعقاب الشديد، وماورد في ذل من الآيات والأخبار يصعب احصاؤه. نكتفي هنا بذكر اليسير من ذلك الكثير مبتدئين بـ:

أ ـ الآيات الكريمة:
قال تعالى (()انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفىبه اِثما مبينا)[1])([1]).(
قال تعالى (()اِنَّما يفتري الكذِبَ الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون()).[2]([2])
قال تعالى )((اِنّ الله لا يهدي من هو كاذبٌ كفار()).[3]([3])
قال تعالى )((ويوم القيامة ترى الذين كذَبوا على الله وجوههم مسودّة))(.[4]([4])
قال تعالى ((فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم الى يوم يَلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون)[5])(.([5])
قال تعالى )((اٍنَّ الله لا يهدي من هو مسرفٌ كذاب))(.([6][6])
قال تعالى )((ويلٌ لكل أفاك أثيم))(.([7][7])

ب ـ الأحاديث
قال رسول الله »ص«: »لعن الله الكاذب ولو كان مازحا«.[8]([8])
وقال »ص«: »كبرت خيانة أن تحدّثَ أخاك حديثاً هو لك مصدّق وأنت له به كاذب«.([9][9])
وقال »ص« : »الكذب باب من أبواب النفاق«.[10]([10])
وعنه »ص« عندما سُئلِ؛ أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم. قيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم. قيل له: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لا«.[11]([11])
وقال «ص« : »اِيّاكَم والكذب فاِنهُ يهدي الى الفجور وهما في النار«.[12]([12])
ـ وقال امير المؤمنين »ع«: »أعظم الخطايا عند الله ؛ اللسان الكذوب«.[13]([13])
وقال »ع« : »تحفظوا من الكذب، فاِنه من أدنى الأخلاق قدرا وهو نوعٌ من الفحش، وضربٌ من الدناءة«.([14][14])
وقال »ع«: ثمرة الكذب؛ المهانة في الدنيا والعذاب في الآخرة«.[15]([15])
وقال »ع«: »شرّ القول الكذب«.[16]([16])
وقال الامام علي بن الحسين »ع« لولده : »اتقوا الكذب الكبير منه والصغير، في كل جدّ وهزلٍ، فان الرجل اذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير[17]«.([17])
وقال الامام محمد الباقر »ع« : »اِنّ الكذب خراب الإيمان«.[18]([18])
وقال »ع« : »اِن الله عزّ وجل جعل للشرّ أقفالاً، وجعل مفاتيح تلك الاقفال الشراب، والكذب شرّ من الشراب«.[19]([19])
وقال الامام الصادق »عليه السلام« : »اِن الرجل ليكذب الكذبة فيحرم بها صلاة الليل«.[20]([20])
وقال الامام العسكري »عليه السلام«: »جُعِلت الخبائث كُلها في بيت وجُعل مفتاحهُ الكذب«.[21]([21])

أبشع أنواع الكذب:
لهذه الموبقة صور وأشكال شوهاء متعددة تختلفُ شدَّتها وبشاعتها في القبح بتفاوت شدّة أضرارها ومفاسدها، ومن أبشعِ هذه الصور والاشكال هي: ـ
1 ـ الكذب على الله ورسوله »ص« والائمة المعصومين (عليهم السلام):
ويعتبر هذا من أشدّ أنواع الكذب ومن الكبائر وأنه من المفطرات للصائم. قال تعالى (()ومَنْ أظلمَ ممن افترى على الله كَذِباً أولئك يعرضون على ربِّهم ويقول الأشهادُ هؤلاء الذين كَذَبَوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظالمين))(.[22]([22])
وقال رسول الله »ص« : »من كَذَب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار«.[23]([23])
وقال الإمام الصادق »ع« : »الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأوصياء من الكبائر«.([24][24])
وقال »ع« : »اِنّ الكذبة لتفطر الصائم« قال الرواي: وأينا لا يكون ذلك منه؟ قال »ع« : »ليس حيث ذهبت، انّما الكذب على الله تعالى وعلى رسوله وعلى الأئمة«.([25][25])

2 ـ اليمين الكاذبة:
وهي قَسَمُ الأنسان على شئ كاذباً، فعلاً أو نتيجةً.
أمّا فعلاً فهي اليمين التي يتحقق بها الكذب بمجرد القَسَم لأن موضوع القَسَم محِقق الكذب كما في:
أ ـ حلف التاجر كذباً على جودة بضاعته أو سعر شرائها أو غير ذلك من الأُمور التي يلجأ اليها في تصريف بضاعته.
ب ـ الحلف الكاذب في الخصومات قضائية أو غير قضائية.
وأمّا نتيجة ً، فهي يمين الشخص على اجراء ما ألْزَمَ نفسه به مع طرفٍ آخر، ثمّ لا يلتزم باجراء ذلك من قبيل، الوعد المشفّع بالقَسَم.
واعلم ان هذه الموبقة هي من العيوب البشعة والذنوب القبيحة التي شدّد الشارع المقدَّس في التحذير منها:
فقد قال رسول الله »ص« : »اِيَّاكم واليمين الفاجره، فانَّها تدع الديار من أهلها بلاقع«.[26]([26])
وقال »ص« : »ثلاث نفر لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر اليهم ولا يزكّيهم: المنان بالعطية، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل اِزاره«.([27][27])

3 ـ شهادة الزور:
وهي الإدلاء بمعلومات كاذبة لصالح أحد الأطراف المتخاصمة لتضييع حق الطرف الآخر في الخصومة، والإيقاع به سواء كان ذلك في مجالس القضاء أو غيرها.
وهذه الأخرى كما يلاحظ: ذنب مقيت وموبقة كبيرة وجريمة نكراء، تهدربها الحقوق، وتظلم النفوس ويُستحّل بها ما حرّمهُ الله تعالى من دماء الأبرياء، وأموالهم وأعراضهم، ذمّها الشارع ووعد مقترفها النار.
قال تعالى )((والذين لا يشهدون الزور واِذا مرّوا باللّغوِ مَرّوا كِراما))(.([28][28])
وقال رسول الله »ص« : »لا ينقضي كلام شاهد الزور من بين يدي الحاكم حتى يتبوأ مقعده من النار، وكذلك من كتم الشهادة«.([29][29])
وقال »ص« : »شاهد الزور كعابد الوثن«.([30][30])

4 ـ خلف الوعد:
وإن كان من مساوئ الأخلاق وقبحه ظاهر إلا أنه ليس من المحرَّمات الإلهية، ولذا فإنه قد عبر عنه في الحديث الآتي بأنه نذرٌ لا كفارة له، وهو عدم وفاء الشخص بما ألزم به نفسه تجاه طرفٍ آخر.
وهذا أيضاً أحد صور الكذب القبيحة الشوهاء ذات النتائج السيئة والمفسدة للعلاقات الإجتماعية والمهددة للثقة المتبادلة بين الافراد.
أكدَّ الشارع المقدس ـ كتاباً وسنةً ـ على ذمّها وأمرَ بالابتعاد عنها تنزيهاً للمؤمن من الأخلاق الذميمة.
قال رسول الله »ص« : »مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليف اذا وعد«.[31]([31])
وقال الإمام الصادق »ع« : »عِدة المؤمن أخاه نذرُ لا كفارة له، فَمَنْ أخلف فبخلف الله بدأ، ولمقته تعرّض، وذلك قوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون مالا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون(.([32][32])

دواعي الكذب وأسبابه:[33] ([33])
للكذب بواعث وأسباب متعددة أهمها:
1 ـ الاعتياد على هذه الخطيئة، لكثرة مزاولتها بسبب التأثر بالمحيط الموبوء بهذه الرذيلة، أو الجهل بامور الدين، وترك تزكية النفس.
2 ـ الطمع، من اجل الحصول على مكسب مادي أو معنوي باطل كطلب الجاه أو الرئاسة؛ فهذا الطمع يدفع بصاحبه الى استخدام الوسائل المختلفه من اجل اشباع نهمِه في ذلك ولو بافتعال الكذب.
3 ـ الحسد، فهولا يترك صاحبه دون ان يحاول الإيقاع بمحسودهِ والحطِّ منه بالكذب أو غيره من القبائح.
4 ـ العداء والخصومة، فهما عاملان قويان يدفعان أصحابهما الى تلفيق الأكاذيب وغيرها من اجل الوصول لاغراضهما؛ من هَدْرِ حقٍ أو اشفاء غيظ او غير ذلك.
5 ـ الشعور بالنقص ومحاولة دفعه بالتغطية عليه باصطناع الكمالات النفسيّة بالكذب.
6 ـ إضحاك الآخرين، باصطناع وتلفيق الأكاذيب، وقد ورد فيه تحذير شرعي شديد عن الرسول الاكرم »ص« حيث قال: »ويلٌ للذي يُحدِّث فيكذب ليُضْحِك به القوم، ويلٌ له، ويلٌ له«.([34][34])
7 ـ الإغراء بالمال ونحوه، وعادةً مايكون هذا في أنواع الكذب الشديدة المبغوضة لدى الشارع المقدس، من قبيل شهادة الزور أو اِلصاقِ التُّهم بالابرياء، لإبطال الحقوق وأكلها بالباطل.

آثار ومساوئ الكذب:
أ ـ على الفرد:
يمكن اجمال أهم تلك الآثار والمساوئ بالنقاط التالية:
1 ـ يَقطع عليه سبيل الهداية الالهية. قال تعالى )اِن الله لا يهدي من هو كاذب كفار(.[35]([35])
2 ـ يُسقط مكانته الاجتماعية، فيصبحُ حقيراً، ذليلاً، مهاناً، مبعداً عند الناس.
قال أمير المؤمنين »ع« : »ثمرة الكذب؛ المهانة في الدنيا والعذاب في الآخرة«.([36][36])
وقال »ع« : »الكاذب مهانٌ ذليل«.([37][37])
3 ـ يُبْتلى بنسيان أكاذيبه، فيختلق ما يخالفها، ثمّ يقع في تناقضات تؤدي به الى الفضيحة بين الناس. قال الإمام الصادق »ع« :» اِنّ مِمّا أَعان الله به على الكذّابين النسيان«.([38][38])
4 ـ يذهب الكذب ببهاء وجه صاحبه؛ وهو حسنه وظرافته. قال رسول الله »ص« : »… وكثرة الكذب تُذهب بالبهاء«.[39]([39])
5 ـ يُخرّب إيمان صاحبه ويُفقِدَه طعمه. قال الإمام الباقر »ع« : »اِنّ الكذب هو خراب الايمان«.[40]([40])
وقال الإمام أمير المؤمنين »ع« : »لا يجد عبدٌ طعَمَ الإيمان حتى يترك الكذب، هزله وجدّه«.([41][41])
6 ـ يكون باباً للدخول في الشرور والخبائث . قال الامام الباقر »ع« : »اِن الله عزّ وجل جَعًل للشر أقفالاً وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شرٌّ مِنْ الشراب«.[42]([42]) وقال الامام الحسن العسكري »ع« : »جُعِلت الخبائثُ كلّها في بيت وجُعِل مفتاحه الكذب«.[43]([43])
7 ـ يؤدي الكذب بصاحبه الى النفاق. قال رسول الله »ص« : »الكذب باب من أبواب النفاق«.([44][44]) وقال أمير المؤمنين »ع« : »الكذب يؤدي الى النفاق«.([45][45])
8 ـ يؤدي الى نقصان الرزق . قال رسول الله »ص« : »الكذب ينقص الرزق«.([46][46])

ب ـ على المجتمع:
تتركز آثار ومساوئ الكذب هنا في محورين:
1 ـ العدوى والتفشي، فالكذب ينتقل من الفرد المصاب الى الفرد الصحيح اذا توفرت الظروف والشرائط الملائمة لذلك الانتقال، وحاله في هذا يشبه حال الامراض العضوية المعدية مِنْ انتقالها من المرضى الى الاصحاء عند توفر الشروط والظروف الملائمة لذلك، كالسل والجذام وغيرها.
وبهذا اذا لم تُتَخَذ الاجراءات السليمة للوقاية من هذا التفشي من قبيل ارساء قواعد التربية الصحيحة في المجتمع عِبرَ قنواتها المختلفة، والتوعية والتبليغ، وغير ذلك مماله تأثير ايجابي في هذا المجال، يصبح المجتمع مستنقعاً موبوءاً لهذه الرذيلة ومرتعاً خصبا لها تنمو وتكثر في ربوعه، وربَّما تصبح من ظواهره ومميزاته التي تميّزه عن غيره من المجتمعات، اذا اشتَدَّ تجذّرها وتعمّقها فيه.
2 ـ ما يتسبب من الأضرار والفساد عن ذلك التفشي، ويمكن اجماله في النقطتين التاليتين: ـ
أ ـ الآثار والمساوئ التي يصاب بها الفرد الكذَّاب خاصة، تأخذ طريقها في العموم في المجتمع كلَّما ازداد تفشي ظاهرة الكذب في المجتمع، لذا تقل الأرزاق، وتقطع الهداية، ويخرب الايمان، وتكثر الشرور و ... الخ.
ب ـ فقدان الثقة والاطمئنان الذي يقوم عليه أساس التعامل في المجتمع في مختلف المجالات، فيعم الفساد والاضطراب جميع أوضاع المجتمع المبنيّة على ذلك الأساس، من قبيل الوضع الاقتصادي، والوضع الاجتماعي من حيث العلاقات والروابط، وكذلك الوضع السياسي وإدارة البلاد.

الكذب المرخص به:
مع ما للكذب من الأضرار والأخطار التي مرّ ذكرها، وموقف الشريعة المتشدّد منه في التحريم، نرى هناك موارد متعددة منه قد رخَّصّ الشارع المقدس فيها، بل أوجبه في بعضها، وأهم هذه الموارد هي:
1 ـ الكذب في مشروع اصلاح ذات البين، الذي يتبنّاه فرد أو جماعة لحّل وفضّ الخصومات والنزاعات بين المسلمين أفراداً أو جماعات وإقرار الصلح والائتلاف بينهم، فقد أباح الشارع الاستفادة مِنْ الكذب في هكذا مشروع وأكّد على ذلك وشجّع عليه.
2 ـ الكذب في كيد العدو عند محاربته، فقد جعل الشارع أبعاداً وحدوداً معينةً لمكر العدو في الحرب ورخَّص في تلك الحدود والأبعاد ما حرّمه في غيرها، مثل الكذب والخديعه وغيرها.
3 ـ كذب الرجل على زوجته عند عِدَتهِ لها ليترضّاها بذلك للمحافظة على صفاء جو العائلة من الكدورات التي قد تعكّره أسباب يمكن دفعها بذلك الكذب.
4 ـ الكذب في دفع شرور وأضرار الظلمة، من قبيل إنقاذ النفس أو المال المحترم، أو العِرض، فذلك جائز سواءً كان ذلك (النفس أو المال المحترم أو العِرض) للكاذب أو لغيره من المسلمين.
ويمكن اجمال هذه الموارد وغيرها في قاعدة كلية مفادها: أن الكذب يرخَّص به اِذا توقّف عليه دفع مفسدة أهم من مصلحة اِجتنابه، ولا يمكن دفع تلك المفسدة بالصدق. ويكون هذا الترخيص واجباً، اذا كان دفع تلك المفسدة واجباً من قبيل انقاذ النفس أو المال المحترم أو العرض، امّا اذا كان تحصيل المصلحة راجحاً فيكون الكذب عندئذٍ مباحاً من قبيل اصلاح ذات البين والكذب على الزوجة وكيد العدو. وينبغي في جميع ذلك الاحتراز عن الكذب ما امكن والاقتصار على المقدار الضروري. وإذا أمكن المواراة فهي مقدمة على الكذب، وكل ذلك مستفاد من الروايات العديدة الواردة عن النبي »ص« والأئمة »ع« : قال رسول الله »ص« : »مالي أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار كل الكذب مكتوب كذباً لامحاله إلاّ أن يكذب الرجل في الحرب، فإنَّ الحرب خِدعةٌ، أو يكون بين رجلين شحناء فيصلح بينهما، أو يحدث امرأته يرضيها«.[47]([47])
وقال الامام الصادق »ع« : »كلّ كذب مسؤول عنه صاحبه يوماً إلا في ثلاثة، رجلٌ كائد في حربه فهو موضوع عنه، أو رجلٌ أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى ذاك، يريد بذاك الاصلاح بينهما، أو رجلٌ وعدَ أهله شيئاً وهو لا يريد أن يُتمّ لهم«.[48]([48])
وقال »ع« : »ليس شئٌ مما حرّم الله إلا وقد أحلّهُ لِمَنِ اضطُّرَّ اليه«.[49]([49])
وقال أمير المؤمنين »ع« : »إحلِفْ بالله كاذباً ونجِّ أخاك من القتل«.[50]([50])
وقال »ع« : »كلّ الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجلٌ كذب بين رجلين يصلح بينهما«.[51]([51])
وقال الامام الصادق »ع« : »الكذب مذموم إلا في أمرين: دفع شرِّ الظلمة وإصلاح ذات البين«.[52]([52])

التورية والتعريض:
وهي طريقة شرعية يستخدمها المتكلم للتخلص من الكذب ـ عندما يكون الاخبار بالواقع متنافيا ومصلحته المشروعة ـ دون أن يخلَّ بمصلحته هذه، كاستعمال لفظٍ له معنيان أحدهما وهو الأظهر مخالفٌ للواقع، والآخر هو عين الواقع، فينصرف ذهن المُخاطَبِ إلى الأظهر المخالف للواقع. وبهذا يصل المتكلم إلى مراده دون أن يقع في محذور الكذب أو الإخبار بالواقع المضرّ للمصلحة.
وتوضيح ذلك: أن الانسان عندما يرى نفسه في حال اذا قال فيها بالصدق (اخبر بالواقع) ، انكشف له سرٌّ لا يحبُّ أن يبوحَ به، أو ترتب على ذلك أثرٌ مضرٌّ بمصلحته، وان قال بالكذب ارتكب المحرَّم، فماذا يفعل والحال هذه ؟ بحيث لا يرتكب اثم الكذب ولا يضرُّ مصلحته بالصدق (الإخبار بالواقع).
له في مثل هذه الحالة أن يختار لفظاً له معنيان، معنى مخالف للواقع وآخر مطابق للواقع، بحيث يكون المخالف للواقع أقوى ظهوراً وانسباقاً الى الذهن، فينصرف ذهن المُخَاطَبِ إليهِ بمجرَّد سماع اللفظ ولا يتبادر الى ذهنه المعنى الواقعي الذي يريد المتكلم إخفاءَه (لِما علمناه من مضرّته له) لأَنَّهُ أقل ظهوراً وانسباقاً في الاول، وبهذا تمكن المتكلم من عدم ارتكاب الاثم بالكذب ومن عدم الإخبار بالواقع حيث يضرّه.
ولزيادة التوضيح نذكر فيما يلي بعض الامثلة والشواهد لذلك:
أ ـ شخصٌ يسأل من آخر: هل أنت ترتكب المعاصي؟
فيجيبهُ: أستغفر الله وأستجير به من ذلك.
فيفهم السائل من ذلك أنه لا يعمل ذلك في حين أن قصد المجيب هو الاستغفار واللجوء الى الله من الذنب.[53] ([53]) فهو بهذا قد تخلص من الكذب اذا اجاب بكلاّ لوقوع معصية منه سابقاً. وايضاً تمكن من الهرب من الجواب بنعم، الذي يسبب له الاحراج والحياء.
ب ـ شخص يأتي الى آخر في بيته فيطرق الباب، في حين أَنَّ صاحب الدار لم يكن مستعداً لاستقبال احد لظرفٍ خاص، فيأمر أحد عياله بأن يجيب الطارق للباب والسائل عن صاحب البيت، بأنه غير موجود هنا وهو يشير الى جانبٍ في البيت أو غرفةٍ خالية من صاحب الدار.
حـ ـ ومن الشواهد ما اجاب به سعيد بن جبير، الحجاجَ بن يوسف عندما سأله عن نفسه (نفس الحجاج) . فقال له: أنت عادل: وهو يريد العادل بمعنى الكافر المشرك بالله لا العادل بمعنى العادل في حكمهِ للرعية.
وينبعي الإشارة هنا الى أن التوريه اذا كانت ممكنة في موارد الترخيص بالكذب فهي أولى منه، كما في قصة سعيد بن جبير حيث كان سعيد يعلم أنّ الحجاج يريد أن يفتك به وفي هذا الحال له أن يكذب لانقاذ نفسه، لكنه لما رأى أن التورية تفي بغرضهِ ورَّى.
ثم إن التورية هي من الأبواب التي شرّعها الشارع لمعالجة المواقف المحرجة للمكلف، وحتى لا يكون عليه في الدين من حرج، ولتسهيل الأمر فلا تصح الاستفادة منها في جميع الحالات غير الضرورية، لان ذلك يسبب تسامحاً يؤدي الى سوء الاستفادة من مُباحات الشريعة.
ومما يدلُّ عليها ما روي عن الامام الصادق »ع« عندما سُئل عن قول الله تعالى في قصة ابراهيم »ع« )((قال بل فعله كبيرهم هذا فَسْئَلوهُم إن كانوا ينطقون))(.[54]([54]) قال: ما فعله كبيرهم وماكذب ابراهيم. قيل: وكيف ذلك؟ فقال: إنّما قال ابراهيم فاسألوهم إن كانوا ينطقون. أي: إن نطقوا فكبيرهم فعل. وان لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئاً، فما نطقوا وماكذب ابراهيم.
وسُئل (ع) عن قوله تعالى )((أيتها العير إنكم لسارقون))(.[55]([55])
قال: إنهم سرقوا يوسف من أبيه، ألا ترى أنه قال لهم حين قالوا: ماذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك، ولم يقولوا: سرقتم صواع الملك. انما سرقوا يوسف من أبيه.
وسئل عن قول إبراهيم »ع« : )((فنظر نظرةً في النجوم فقال إني سقيم))(.([56][56])
قال: ما كان ابراهيم سقيما، وما كذب، انما عنى سقيماً في دينه، أي مرتاداً«.[57][57]

المبالغة:
وهي استفادة المتكلم من ألفاظ مخالفة للواقع لاثبات معنىً في الكلام لاعلى سبيل الحقيقة بل على سبيل تأكيد المعنى وتضخيمه من حيث القلة أو الكثرة أو الحجم أو غيرها من الاوصاف.
ومثال ذلك؛ قول القائل: مررت بدارك مائة مرّة، في حين إن مروره لم يبلغ ذلك الحد، ولم يرد هو العدد مائه بالذات، بل يريد أن مروره كان كثيراً، فالقصد منصب على كثرة المرات لا على العدد بالذات. وهكذا قول القائل: فلان لا تسعه باب الدار. في حين ان الباب تسعه ولكنه لا يريد حقيقة هذا المعنى بل يريد ضخامته وبدانته.
وهذا النوع من الكذب والذي يسمى بالمبالغة جائز ولا إثم عليه ولا يوجب الفسق أو الكفّاره لأنه من قبيل استعمال التشبيهات والاستعارات والمجازات اللغويه لغرض بيان المبالغة في الوصف لا بيان الحقيقة. هذا واذا كان المعنى لا يحمل أَدنى الوصف المتعارف تتحول المبالغة الى الكذب المحرّم. مثلاً اذا كان القائل في المثال (مررت بدارك مائة مرّة) وقد مرَّ مرَّة واحدة، تكون المبالغة هنا كذباً مُحرّماً.

علاج الكذب:
أهم ما يمكن اثباته من الوصايا في هذا المقام هو: ـ
1 ـ تقوية الإيمان بالله، وإرساء قواعدهِ بالنفس وابتغاء السبل والوسائل السليمة الى ذلك، فإنه الأساس لكل فضيلة.
2 ـ الاهتمام بتزكية النفس وتعاهد حالاتها والسعي على تعزيز الايجابي منها وتلافي السلبي.
3 ـ الابتعاد عن مجالس اللهو ومقاطعة رفقة السوء والمحيط الملوَّث بهذه الموبقة.
4 ـ إلتزام الأقران الصالحين وتعاهد مجالس الذكر وإحيائها من قبيل: مجالس التعزية، ومجالس تدريس وقراءة القرآن، ومجالس المحاضرات الاخلاقية، وغيرها.
5 ـ التفكير بالموت والمعاد ويوم القيامة، مع استحضار ما أُعِدَّ للكذَّابين من صنوف العذاب وتهويل ذلك في النفس ليكون رادعاً لها عن ممارسة هذه الموبقة وغيرها.
والحمد لله ربّ العالمين

1] سورة النساء ، الآية ـ 50 ـ .
[2] سورة النحل ، الآية / 105 .
[3] سورة الزمر ، الآية ـ 3 ـ .
[4] سورة الزمر ، الآية ـ 60 .
[5] سورة التوبة ، الآية ـ 77 ـ .
[6] سورة غافر ، الآية ـ 28 ـ .
[7] سورة الجاثية ، الآية ـ 7 ـ .
[8] الاخلاق والآداب الاسلامية ، ص:66.
[9] الأخلاق والآداب الاسلامية ، ص: 66.
[10] الأخلاق والآداب الاسلامية ، ص: 66.
[11] ميزان الحكمة ، ج8 ، ص: 343.
[12] ميزان الحكمة ، ج8 ، ص: 340.
[13] ميزان الحكمة ، ج8 ، ص: 340.
[14] ميزان الحكمة ، ج8 ، ص: 341.
[15] الأخلاق والآداب الاسلامية ، ص: 67.
[16] ميزان الحكمة ، ج8 ، ص: 340.
[17] ميزان الحكمة ، ج8 ، ص: 345.
[18] ميزان الحكمة ، ج8 ، ص: 343.
[19] جامع السعادات ، ج2 ، ص: 97.
[20] الاخلاق والآداب الاسلامية ، ص: 67.
[21] الاخلاق والآداب الاسلامية ، ص: 66.
[22] سورة هود ، الآية ـ 18 ـ .
[23] المحجة البيضاء ، ج5 ، ص: 247.
[24] جامع السعادات ، ج2 ، ص: 97.
[25] جامع السعادات ، ج2 ، ص: 97.
[26] أخلاق أهل البيت ، ص:
[27] جامع السعادات ، ج2 ، ص: 102.
[28] سورة الفرقان / الآية ـ 72 ـ .
[29] أخلاق أهل البيت / ص: 23.
[30] جامع السعادات ، ج2 ، ص: 102.
[31] جامع السعادات ، ج2 ، ص: 103.
[32] اصول الكافي ، ج2 ، ص: 363.
[33] راجع : ـ الأخلاق والآداب الاسلامية ، ص: 67.
ـ جامع السعادات ، ج2 ، ص: 94 ـ 95.
ـ أخلاق أهل البيت ، ص: 22.
[34] المحجة البيضاء ، ج5 ، ص: 240.
[35] سورة الزمر ، الآية ـ 3 ـ .
[36] الأخلاق والآداب الاسلامية ، ص: 67.
[37] الأخلاق والآداب الاسلامية ، ص: 67.
[38] اصول الكافي ، ج2 ، ص: 341.
[39] الأخلاق والآداب الاسلامية ، ص: 67.
[40] اصول الكافي ، ج2 ، ص: 339.
[41] اصول الكافي ، ج2 ، ص: 340.
[42] اصول الكافي ، ج2 ، ص: 338.
[43] الأخلاق والآداب الاسلامية ، ص: 66.
[44] الأخلاق والآداب الاسلامية، ص: 66.
[45] الأخلاق والآداب الاسلامية ، ص: 67.
[46] الأخلاق والآداب الاسلامية ، ص: 67.
[47] المحجة البيضاء ، ج5 ، ص: 245.
[48] اصول الكافي ، ج2 ، ص: 242.
[49] بحار الانوار، ج101 ، ص: 284.
[50] وسائل الشيعة ، ح 32 ص225 / حديث4 / باب / 12 كتاب الإيمان.
[51] المحجة البيضاء ، ج5 ، ص: 245.
[52] بحار الانوار ، ج69 ، ص :263.
[53] اخلاق در قرآن ، ج3 ، ص: 340.
[54] سورة الانبياء / الآية ـ 63 ـ .
[55] سورة يوسف / الآية ـ 70 ـ .
[56] سورة الصافات / الآيتين (88 ـ 89).
[57] جامع السعادات ج2 ص: 101.