ذكر علماء الفقه والاخلاق تعاريف متعدّدة للغيبة، نكتفي بذكر ما أورده الشيخ البهائي (رض) في «الاربعين» حيث قال في تعريفها: وعُرِّفت الغيبة بأَنها التنبيه حال غيبة الانسان المعين أو بحكمه على ما يكره نسبته اليه، ممّا هو حاصلٌ فيه ، ويُعدُّ نقصاً بحسب العرف ، قولاً أو إشارةً أو كتابةً أو تعريضاً أو تصريحاً»[1].
والحاصل من معنى التعريف: أن الغيبة هي التنبيه على عيبِ أو نقصِ إنسانٍ غائبٍ معين بالذات والاسم، كأن يقول: فلان بخيل، أو يكون بحكم المعين؛ كالمشار اليه بواسطة القرينة ، كما لو قال:
إنّ النجّارين في شارعنا لا يصدقون بوعدهم. ولم يكن هناك في شارعهم سوى نجّارٌ واحد. وأن هذا الانسان الغائب يكره نسبة ذلك النقص إليه، مع كونه متصفاً بذلك النقص أو العيب، وهو ـ أي النقص أو العيب ـ مما يُعَدُّ عُرفاً كذلك، سواء كان ذلك في خَلْقِهِ (بَدَنِهِ) أو في خُلقِه ـ أي جملة أقوالهِ وأفعاله ـ ، أو في مختصاته، من قبيل نسبه أو داره أو ثيابه أو دابته. ولا ينحصر ذلك التنبيه على القول باللسان بل بكلِّ ما يُفهم ويكشف ذلك النقص والعيب من الفعل والتصريح والتعريض والاشارة والايماء والغمز والرمز والكتابة وغيرها من الوسائل والطرق التي يمكن التنبيه بواسطتها.
وهذا التعريف يستفاد من مجموع جملة من الاخبار نذكر منها:
1ـ ما ورد في الحديث النبوي الشريف أنه (صلى الله عليه وآله) قال: «هل تدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذكرك أخاك بما يكره» . قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أَقوله. قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، فان لم يكن فيه فقد بهته»[2].
2ـ ما ورد في حديث أبي بصير في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لأبي ذرٍّ ، وفيه: قلت: يارسول الله، ما الغيبة؟ قال (صلى الله عليه وآله) :
«ذكرك أخاك بما هو فيه، فقد اغتبته ، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته»[3].
3ـ وما روي، أنّه ذُكِرَ رجلٌ عنده (صلى الله عليه وآله) ، فقالوا: ما أعجزه! فقال (صلى الله عليه وآله) : «اغتبتم أخاكم». قالوا: يارسول الله ، قلنا ما فيه، قال (صلى الله عليه وآله) : «إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتموه»[4].
4ـ وما روي عن عائشة ، أنها قالت: دخلت علينا إمرأة، فلمّا وَلَّت ، أومأت بيدي أنَّها قصيرة، فقال (صلى الله عليه وآله) : «اغتبتها»[5].
5ـ وما نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّهُ سُمِعَ يقول: «الغيبةُ أن تقولَ في أخيك ما سترهُ الله عليه، وأَما الأمر الظاهرُ فيه مثل الحدّة والعَجَلة، فلا ، والبهتان أن تقول فيه ما ليس فيه»[6].
6ـ وما روي أيضاً عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال: إنَّ من الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه، وإنّ البهتان أن تقول في اخيك ما ليس فيه»[7].
7ـ وما روي عن الامام الكاظم (عليه السلام) أنَّه قال: «من ذكرَ رجلاً من خلفه بما هو فيه مما عرفه الناس لم يغتبه ، ومن ذكره من خلفه بما هو فيه مما لا يعرفه الناس، اغتابه، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهتهُ»[8].
صور الغيبةِ وأَشكالها:
إن دلالة الأحاديث الشريفة السابقة، وكذلك التعريف الذي أوردناه ، على أن الغيبة لا تنحصر بالقول الصريح باللسان ، واضحة وقطعية ، ومن خلال هذا البيان ، وعندما يؤخذ بنظر الإعتبار الاسلوب المتَّبع في التنبيه على نقص أو عيب الآخرين يمكننا أن نتصور أشكالاً وصوراً متعدِّدَة للغيبة.
نذكر جملةً منها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر حتى يكون القارىء الكريم على بينة من ذلك ولا يكون ضحية لمكائد ومصائد الشيطان وغوايته[9]:
أ ـ الغيبة بالقول الصريح:
وهي أعرفُ الصور، ومثالها:
أن يقال: إن زيداً جبان.
ب ـ الغيبة بالايماء:
وهي ان يستعين مقترف الغيبة بالايماء للتنبيه على نقص أو عيب الانسان الغائب ، كأن يومىء بيده مُدلاًّ على قِصَرِ من اغتابه. وحديث عائشة السابق يدلُّ عليه دلالة واضحة[10].
ج ـ الغيبة بالمحاكاة:
وفيها يستفاد من التمثيل أو التقليد للتنبيه على نقص الغائب ومثالها:
حكاية مشية الأعرج للتنبيه على عَرجه.
د ـ الغيبة بالتعريض:
وهذه الصورة من الغيبة يستخدم فيها مقترف الغيبة التعريض لبيان نقصان أو عيب الغائب.
كأن يقول معرضاً بمن يريد ان يُظهرُ بُخلَهُ : الحمد لله الذي لم يبتلنا بالبخل، هذا مع وجود قرائن حالية أو مقالية يفهم منها ارادة الانتقاص من ذلك الشخص المعين.
هـ ـ الغيبة بالكتابة:
من المعروف ان الكتابة هي أحد اللسانَين؛ وبهذا فهي نظير القول الصريح في إمكان الاستفادةِ منها في التنبيه على نقص أو عيب الغير، فيكون مستخدمها في هذا الموضوع (الغيبة) مُغتَاباً.
وأمثلة ذلك كثيرة منها: ما إذا ذكر المصنف أو الكاتب شخصاً في مُصَنَّفِهِ أو كِتَابِه ونَبَّه إلى ما فيه من نقص من دون ان يقترن ذكره ذلك بشيء من الأعذار الشرعية المحوجة اليه.
قُبحُ الغيبةِ وشناعتها:
الغيبةُ من الاعمال التي قبَّحها الشارع المقدَّس وشنَّعها ، أشدَّ تقبيح وتشنيع، وحذَّر المؤمنين من اقترافها وعظَّم ذلك؛ لِعِظَمِ مفسدتها على مستوى الفرد والمجتمع. وتوعَّد مرتكبها العقاب الأليم في جهنم ، نستعرض هنا جملة من تلك الآيات الكريمة والروايات الشريفة التي تناولت ذلك:
أ ـ الآيات الكريمة:
1ـ قوله تعالى: )...وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ... ((الحجرات: 12).
ولا يخفى على القارىء الكريم مدى القبح والشناعة التي اشار اليها ظاهر الآية، حيث وصف مرتكب الغيبة كالآكل من لحمِ أخيه الميت، الذي يأباه الطبع الأعمى فكيف بالعقل البصير.
2ـ قوله تعالى: )وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ( (الهُمزة ـ 1).
وأصلُ الهمز هو : الكسر، واللَّمز: الطعن، وشاع استعمالهما في كسر الأعراض بالطعن (الغيبة والبهتان)[11].
3ـ قوله تعالى: )لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ((النساء ـ 148)، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الجهر بالسوء من القول: أن يذكر الرجل بما فيه[12].
4ـ قوله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ((النور ـ 19) فعن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «مَن قال في مؤمنٍ ما رأتهُ عيناه وسمعته اُذناه؛ فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ ) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ...الآية(»[13].
ب ـ الأحاديث:
وأمَّا الأحاديث في هذا المعنى فكثيرة نذكر منها:
1ـ عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «الغيبة أشدُّ من الزنا، فقيل: ولِمَ ذلك يارسول الله؟ قال: أمّا صاحب الزنا فيتوب فيتوب الله عليه، وصاحب الغيبة فيتوب فلا يتوب الله عليه حتى يكون صاحبه الذي يُحِلَّه»[14].
2ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلةِ في جوفه».
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «الجلوس في المسجد إنتظاراً للصلاة عبادةُ مالم يُحدِث . قيل: يارسول الله، وما يحدث؟ قال (صلى الله عليه وآله) : «الإغتياب»[15].
3ـ وما روي عن الباقر (عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب علي (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال على المنبر: «والله الذي لا إله إلاّ هو، ما أُعطي مؤمن قط، خير الدنيا والآخرة، إلاّ بُحسن ظنه بالله عزّ وجلّ، والكف عن اغتياب المؤمن، والله الذي لا إله إلاّ هو، لا يعذب اللهُ مؤمناً بعذابٍ بعد التوبة والإستغفار له، إلاّ بسوء ظنه بالله عزّ وجلّ واغتيابه المؤمنين»[16].
4ـ وما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) من أنّه خطب يوماً، فذكر الربا وعظّم شأنه، فقال: «إن الدرهم يصيبهُ الرجل من الربا أعظم من ستة وثلاثين زنية، وانّ أربى الربا عِرض الرجل المسلم»[17].
5ـ وما روي أيضاً عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال في خطبةٍ له: ومن اغتاب أخاه المسلم بَطل صومه ، ونقض وضوئه فان مات وهو كذلك مات وهو مستحلّ لما حرّم الله... إلى أن قال: ومن مشى في عيب أخيه وكشف عورته كانت أوّل خطوة خطاها وضعها في جهنم ، وكشف الله عورته على رؤوس الخلائق...»[18].
6ـ وكذلك ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه (صلى الله عليه وآله) قال: «يؤتى بأحد يوم القيامة فيوقف بين يدي الرَّب عزّ وجلّ ويدفع اليه كتابه، فلا يرى حسناته فيه، فيقول : إلهي ليس هذا كتابي؛ لا أرى فيه حسناتي.
فيقال له: إنّ ربّك لا يضل ولا ينسى؛ ذهب عملك بإغتياب الناس. ثمَّ يؤتى بآخر ويدفع اليه كتابه، فيرى فيه طاعات كثيرة. فيقول: إلهي ما هذا كتابي؛ فِاني ما عملت هذه الطاعات، فيقال له: إن فلاناً اغتابك ، فدفع حسناته اليك...»[19].
7ـ وجاء فيما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّهُ قال لنوف البّكالي (في حديث طويل): «... اجتنب الغيبة ، فإنها إدام كلاب النار»، ثم قال (عليه السلام): «يانوف كذب من زعم أنّه ولد من حلالٍ وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة»[20].
نستنتج من خلال هذا المقدار المنتخب من الآيات والروايات أن الغيبة هي من الأعمال القبيحة لدى الشارع المقدس، بل من الكبائر ، وهذا ما صرح به كبار العلماء والمجتهدين؛ قال الشيخ الإنصاري (رضي الله عنه) بعد أن أورد جملة من الآيات والروايات الشريفة في حرمة الغيبة: «ثمَّ ظاهر هذه الأخبار كون الغيبة من الكبائر كما ذكره جماعة، بل أشدُّ من بعضها»[21](21).أي بعض الكبائر.
ثمَّ إنّ حرمة الغيبة محل اتفاق بل تعدُّ من ضروريات الفقه، ومن المعاصي الكبيرة والموبقات المهلكة[22].
«بواعث الغيبة ودواعيها»
للغيبة بواعث ودواعٍ كثيرة، أجملها الإمام الصادق (عليه السلام) بعشرة، حيث قال (عليه السلام): «أصل الغيبة تتنوع بعشرة أنواع؛ شِفاء غيظ، ومساعدةِ قوم، وتصديق خبرٍ بلا كشف، وتهمةٍ ، وسوء ظنٍ، وحسدٍ، وسخريةٍ، وتعجيبِ، وتبرمٍ، وتزينٍ»[23].
وذكر العلماء في هذا الباب اُموراً لا تخرج عن فحوى ما أجمله الإمام (عليه السلام) إلاّ بشيء من البيان والتفصيل وأهم ماذكروه في هذا المورد[24]:
1ـ العداء: حيث يكون دائماً سبباً للغيظ الذي يدفع كلاً من الطرفين للايقاع بالطرف الآخر بمختلف الوسائل لإشفاء ذلك الغيظ، ومنها الغيبة.
2ـ الحسد: إذ من المعروف إن الحسد هو: تمني زوال نعمة الغير. فيدفع هذا التمنِّي الحاسدَ إلى تحقيق مأربَهُ في ذلك ويبتغي السبل اليه ولو بالحطِّ من المحسود بذكر معايبه ونواقصهِ.
3ـ الهزل والمطايبة: حيث يكونا غالباً من دواعي ذكر مثالب الآخرين ومعايبهم للَّهو وإثارة الضحك.
4ـ الترفّع والمباهاة: بذكر مساوىء ومعايب الآخرين وإظهار الترفّع عن ارتكابها تباهياً بالنفس.
5ـ المجاراة: للفرد أو الجماعية اللاهية بالغيبة، حتى لا ينفروا.
6ـ التعجّب: الذي يسقط الانسان بهذه الموبقة، عندما يتعجب من صدور منكرٍ من غيره، فيفضحهُ بداعي ذلك التعجّب.
7ـ السخرية والاستهزاء: باستحقار الغائب.
«آثار الغيبة ومساوئها»
1ـ آثارها على الفرد:
يمكن إجمال ما اشارت اليه الروايات من آثار الغيبة على الفرد بالنقاط التالية:
أ ـ أنها تذهب بدين الفرد ، وواضحٌ أن دين الفرد هو عمله الصالح والتزامه.
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «الغيبةُ اسرع في دين الرجل من الأكلةِ في جوفه»[25].
ب ـ أنها تخرج المقترف لها من ولاية الله وتدخله في ولاية الشيطان.
فعن أبي عبد الله (عليه السلام): أنّه قال: «ومن اغتابه بما فيه فهو خارج من ولاية الله تعالى داخل في ولاية الشيطان»[26].
ج ـ إحباط عمل المقترف، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «ما النار في التبن بأسرع من الغيّبة في حسنة العبد»[27].
د ـ اشغال ذمة المقترف بحقوق الله وحقوق الناس. فلا يكفي في توبته ترك الذنب بل يلزم أن يتحلل ممن اغتابه.
هـ سبقت الاشارة إلي انه تنقل إلى المقترف سيئات من اغتابه، وتنقل حسنات المقترف إلى من أُغتيب. فعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «يؤتى بأحدٍ يوم القيامة يوقف بين يدي الربّ عزّ وجلّ ويدفع اليه كتابه فلا يرى فيه حسناته فيه فيقول: الهي ليس هذا كتابي ، فاِني لا أرى فيه حسناتي. فيقال له: إنَّ ربَّك لا يضل ولا ينسى ذهبَ عملك باغتياب الناس. ثمَّ يؤتى بآخر ويُدفع اليه كتابه فيرى فيه طاعات كثيرة فيقول: الهي ما هذا كتابي، فاني ما عملت هذه الطاعات، فيقال له: انّ فلاناً اغتابك فَدُفِعَ حسناته إليك»[28].
و ـ ادخال مقترفها المصرُّ عليها النار أوّل الناس إذا لم يتب، وان تاب فهو آخر من يدخل الجنة. أوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام): «من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصراً عليها فهو أول من يدخل النار»[29].
2ـ آثارها على المجتمع:
تتركز آثار الغيبة علي المجتمع في جانبين:
الاول:ـ عدوى هذه الموبقة وتفشيها في المجتمع. والعدوى: هي انتقال الابتلاء بهذه الموبقة من شخص إلى آخر. فكما نعلم اِنّ العدوى تسري في الامراض العضوية، إذا توفرت الظروف الملائمة لها، كالجذام، والسلّ، والزكام، وغيرها، كذلك الامراض الأخلاقية، كالغيبة، والزنا وشرب الخمر، وغيرها، إذا توفرت لها ظروفها المناسبة، أيضاً تنتقل من شخص إلى آخر، حتى تتسع رقعة ذلك المرض في المجتمع.
وعادةً ما تنتقل الغيبة في مجتمعنا بواسطة الآباء المصابين إلى الأبناء، ومن الاساتذة إلى التلاميذ، ومن أصحاب النفوذ والاموال والوجهاء إلى الاتباع والمؤيدين، ومن الاصدقاء والاقران إلى أمثالهم. وغالباً ما تكون طرق العدوى في هذه الموارد إما بالتقليد أو التأثير أو بكليهما.
الثاني:ـ ما يتسبب عن تفشيها في المجتمع، فلا اشكال في انها متى أُشيعت في المجتمع أصبحت سبباً للضغينة، والحسد والعداوة والبغض، وترسيخ جذور الفساد في المجتمع، وغرس شجرة النفاق فيه، وضعضعة وحدة المجتمع وتضامنه[30].
وبهذا نلاحظ إنّ الغيبة تصيب المجتمع متى ما تفشت فيه في أهم عنصر له، ألا وهو وحدتهُ وترابطهُ وتآزره، الذي أكَّد (عليه السلام) أشدَّ تأكيد وأمرَ بالمحافظةِ عليه وحذَّر من التفريط والإخلال فيه؛ لما فيه من الأهمية البالغة في منعة المجتمع الاسلامي وقوته وعِزَّته أمام أعدائه في الداخل والخارج.
فاذا تفشت الغيبة وبرزت معالمها الآنفة الذكر، تحوَّل المجتمع إلى مجتمع متفكك ضعيف جاهلي قد انطمست فيه معالم التحضّر الاسلامي، تبرز فيه معالم الفساد والانحلال والتفسخ وبالتالي يصبح مطمعاً لأعدائه في الداخل من حكام الجور والظلمة أو في الخارج من دول ومجتمعات الكفر.
استثناءات الغيبة
غيبة المؤمن ـ كما ذكرنا سابقاً ـ محرمة، وقد استثني من تلك الحرمة موارد؛ لانها تستهدف متوقف عليها، وهذه الموارد كما ذكرها العلماء[31] هي:
1ـ التظلم والشكاية عند من له رتبة الحكم واحقاق الحقوق، كالقضاة والمفتين والسلاطين، فان نسبة الظلم والسوء إلى الغير عندهم لاستيفاء الحق جائز.
2ـ نصح المستشير في أمرٍ ما كالتزويج والأمانة، فيحق للمستشار أن يذكر مثالب المسؤول عنه، ويصح كذلك تحذير المؤمن من صحبة فاسقٍ أو مضلٍّ بذكر مساوئهما في الفسق والضلال، صيانة له من شرهما وإضلالهما. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «أترعوون عن ذكر الفاجر حتى لا يعرفه الناس؟ اذكروه بما فيه يحذرهُ الناس».
وأيضاً يصح جرح الشاهد إذا ما سئل عنه.
3ـ ردَّ من ادعى نسباً مزوراً.
4ـ القدح في مقالة فاسدة، أو باطلة شرعاً.
5ـ الشهادة على مقترفي الجرائم والمحارم.
6ـ ضرورة التعريف، وذلك بذكر الأوصاف أو الالقاب المعربة عن عيبٍ أو نقصٍ، التي يتوقف عليها تعريف أصحابها. كالأعمش والأعرج وغيرها.
7ـ النهي عن المنكر: وذلك بذكر مساوىء شخص ومعايبه عند آخر يستطيع إصلاحه أو نهيه.
8 ـ غيبة المتجاهر بالفسق، كشرب الخمر، ولعب القمار ، بشرط الاقتصار على ما يتجاهر به، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «من ألقى جلباب الحياء من وجهه فلا غيبة له». وقال (صلى الله عليه وآله) : «ليس لفاسقٍ غيبة».
الاستماع للغيبة
وهو أيضاً من المحرمات ، بل على ما يظهر من بعض الروايات أن المستمع مثل المغتاب في كل الامور.
عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «المستمعُ أحد المغتابين»[32] وعن علي (عليه السلام) قال: «السامع أحدُ المغتابين».
لذا ينبغي على المؤمن المستمع، كما اشارت الروايات الكثيرة أن يردَّ على المغتاب ان استطاع ذلك، ليأمن جريرة الاشتراك في الاثم أوّلاً ويحصل على جزيل ثوابِ الرّد ثانياً.
عن الصادق (عليه السلام) في حديث مناهي النبي (صلى الله عليه وآله) : «أَن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن الغيبة والاستماع اليها... إلى أن قال: ألا ومن تطوّل على أخيه في غيبةٍ سمعها فيه في مجلس فردّها عنه ردّ اللهُ عنه ألف باب من الشرّ في الدنيا والآخرة، فاِن هو لم يردها وهو قادر على ردّها كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرّة»[33].
وفي وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام): «يا علي من اغتيب عنده اخوه المسلم فاستطاع نصره فلم ينصره خذله الله في الدنيا والآخرة»[34].
وفي وصيةٍ له (صلى الله عليه وآله) (لأبي ذرٍّ) قال: «يا أبا ذرّ من ذبّ عن اخيه المؤمن الغيبة كان حقّاً على الله أن يعتقه من النّار، يا أبا ذرّ مَن اغتيب عنده أخوه المؤمن وهو يستطيع نصره فنصره، نصره الله عزّ وجلّ في الدنيا والآخرة، وإن خذله وهو يستطيع نصره، خذله الله في الدنيا والآخرة»[35].
وشرط الاستطاعة المذكور في الروايات ، يستدعي ان يكون الرد باللسان فان لم يستطع فليغير الحديث أو ينفر من المجلس فان لم يستطع فلينكر بقلبه.
كفارة الغيبة[36]
للتكفير عن هذه الموبقة الكبيرة ينبغي للمؤمن المقترف لها:
أولاً: أن يخرج من حق الله تعالى الذي ترتَّب عليه بمعصية أمره تعالى ، ويكون ذلك بالندم الشديد على اقتراف ذلك الذنب، ثمَّ التوبة إلى الله بالعزم على عدم مخالفة أمره وارتكاب ذلك ثانية. فإن الله توابٌ يقبل التوبة رحيمٌ بعباده.
ثانياً: أن يخرج من حق العبد المؤمن الذي اغتابه، ويمكنه ذلك باِمتثال ما يلي: ـ
أ ـ إن كان المغتاب ميتاً، أو حياً لا يمكن الوصول اليه، أو حياً يمكن الوصول اليه، ولم تبلغهُ الغيبة، ويخاف عند ابلاغه والتحلل منه وقوع الفتنة والعداوة ، فعليه الاكثار من الاستغفار والدعاء له.
ب ـ ان كان المغتاب حياً ويمكن الوصول اليه ، ولا يخاف عند ابلاغه ، والتحلل منه وقوع العداوة والفتنة ، فعليه والحال هذه الذهاب اليه والتحلل منه والالحاح عليه بالاعتذار وقبول العذر حتى يطيب خاطره.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «كفارة من اغتبتهُ ان تستغفر له»[37].
وقال الامام الصادق (عليه السلام): «إن اغتبت فبلغ المغتاب ، فاستحل منه وإن لم تبلغه فاستغفر الله له»[38].
علاج الغيبة[39]
إنّ أهم ما يمكن الالتزام به للتخلص من ارتكاب هذه الموبقة، وتحمّـل جريرتها هو الالتزام بالامور التالية: ـ
1ـ الاهتمام بتزكية النفس وتطهيرها، والابتغاء لذلك أنجع الوسائل وأَفضلها من طلب العلم النافع في هذا الخصوص ، والمثابرة على العمل الصالح والتعاهد له، فإن هذا أهم علاج للنفس من ارتكاب الغيبة وغيرها من الخطايا.
قال تعالى: )قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ـ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا[40](.
وقال تعالى: )تَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ([41].
2ـ التفكير بمساوىء الغيبة واستعظام خطرها، واستشعار الخوف والرهبة من عواقبها الوخيمة الدنيوية والاُخروية التي مرت الاشارة اليها خلال البحث ، من قبيل تصوير الآية الشريفة للمغتابِ، بأَكلِ لحمِ أخيه الميت، واخبار الروايات المستفيضة بإنّ عاقبةَ المغتاب هي النار إن لم يتب ، وان تاب وقبلت توبته فهو آخر من يدخل الجنة، وهكذا ينبغي التأمل في بقية أخطارها ومساوئها، وتعميق أثر ذلك في النفس ، علَّها ترعوي عن اقتراف هذه الجريمة.
3ـ الابتعاد عن مجالس اللهو والغيبة ومقاطعة رفاق السوء الذين لا ينتهون عمّا يفعلون من منكر.
قال الإمام أمير المؤمنين: «مجالس اللهو تفسد الايمان»[42].
وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدنَّ في مجلس يعاب فيه إمام أو يُنْتَقَصُ فيه مؤمن»[43].
وقال (عليه السلام): قال لي أبي (عليه السلام): « يابُني من يصحب صاحب السوء لا يسلم ومن يدخل مداخل السوء يُتَّهم ومن لا يملك لسانه يندم»[44].
وعن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال عيسى بن مريم (عليه السلام): إنَّ صاحب الشرَّ يُعدي، وقرين السوء يُردي فانظر من تُقارِن لعلّه زائد [45].
4ـ الإهتمام بصحبة الصلحاء الأخيار ومخالطتهم والاكثار منهم وتعاهد مجالس الذكر وإحيائها.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل»[46].
وقال (صلى الله عليه وآله): «ما استفاد امرؤٌ مسلمٌ فائدة بعد الاسلام مثل أَخ يستفيده في الله»[47].
5ـ ترويض النفس على ترك الغيبة، بمراقبة اللسان، وتقديم التروي في كلّ كلام قبل النطق به، فإن تضمن غيبة حبسه ولم يخرجه من فيه، ومن ثم المواظبةَ على ذلك حتى يرتفع عن نفسه الميل إلى اقتراف تلك الخطيئة.
البهتان
تتميماً لما مرَّ من الكلام ، تجدرُ الاشارة هنا إلى هذا الاثم الذي ورد ذكره في بعض أخبار الغيبة. والبهتان هو: رمي المسلم بما يكرهه مما هو ليس فيه، فإن كان حال غيبته فقد جمع بين الغيبة والكذب ، وإن كان بحضوره فهو من أشدِّ أنواع الكذب[48]. وهو على كل حال وتقدير أشدُّ إثماً من الغيبة والكذب. وقد حذَّرت الآيات والأخبار الشريفة منه أشدَّ تحذير وأوعدت مقترفه النار.
قال تعالى: )وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا[49](.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من بهت مؤمناً أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه، أَقامه الله يوم القيامة على تـلّ من نار حتى يخرج مما قال فيه»[50].
وقال (صلى الله عليه وآله): «من اغتاب مؤمناً بما فيه لم يجمع الله بينهما في الجنة أبدا، ومن اغتاب مؤمناً بما ليس فيه، فقد انقطعت العصمة بينهما، وكان المغتاب في النار خالداً فيها وبئس المصير»[51].
قد مرّو له (صلى الله عليه وآله) ـ في كلام له لأبي ذرّ ـ: «إعلم أَنّك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته»[52].
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «من بهت مؤمناً أو مؤمنة بما ليس فيه، بعثه الله عزّ وجلّ في طينة خبال حتى يخرج ممّا قال» قلت الراوي وهو: ابن أبي يعفور : وما طينة خبال؟ قال: «صديد يخرج من فروج المومسات»[53].