ضدُّ اليأس، بمعنى: إرادة الشيء أو الامر المتوقّع والمرجو حصوله.
وحقيقته، أنّه صفة، أو حالة نفسانية تبعث بصاحبها الى التحرك نحو تلبية رغبات النفس فيما يُؤمل أو يُتوقع حصوله من الامور، ماديةُ كانت أو معنوية، وهو على نوعين:-
أـ الطمع الممدوح:
وهو الطمع الذي يكون متعلقه ـ اي الأمر الذي يطمع اليه ـ أمراً خيرياً كطلب العلم، وأعمال الخير من قبيل قضاء حوائج الآخرين والصدقة، والطمع في غفران الذنوب وغيرها. قال تعالى: (ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءَنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين)[1] وقوله تعالى: (إنّا نطمع أن يغفر لنا ربًّنا خطئنا أن كنّا أوّل المؤمنين)[2]. وقال الامام زين العابدين عليه السلام ـ في دعائه -: «إذا رأيت مولاي ذنوبي فَزِعتُ، وإذا رأيت عفوك طَمِعتُ»[3].
ب ـ الطمع المذموم:
وهو الطمع الذي يكون متعلقه ـ الأمر الذي يطمع اليه ـ أمراً شرورياً محظوراً، أو دنيويا ً أو ينتهي الى أمرٍ محظور. وهذا القسم (المذموم) هو محل البحث.
الطمع في ميزان الاعمال:
الطّمع سجيّة أخلاقية دنيئة، ومرض سلوكي خطير مفسدٌ لقلب الانسان ولبّه، يردي صاحبه في أنواع المهالك، ويتسبّب عنه أنواع المفاسد، وآثاره وخيمة على الفرد والمجتمع، وموقع هذه الرذيلة الخلقية من مساوِئ الاخلاق موقع الأصل من الفروع، فعنها (رذيلة الطّمع) تتسبّب الكثير من الذنوب الكبيرة والصغيرة، فكم من سفكِ دماءٍ وهتك أعراضٍ وبهتِ مؤمنين واغتيابهم، وارتكاب كذبٍ الى غير ذلك من الموبقات حصلت بسبب المطامع، لذا فالطمع هو أحد موادّ بحر الذنوب وروافده، وعليه فهو من أشدّ القبائح لدى العقل والشرع، وهذا ما أكدّته مصادر الشريعة وبالأخص منها الروايات المستفيضة في ذلك، التي أشارت بالتفصيل الى عظم خطره، وحذّرت من هيمنته وتغلبه على النفس، وأبانت عن الحياة التعيسة التي يعيشها الطامع، وسوء العاقبة والمنقلب السيء الذي ينتظره يوم الحساب واليك جملة من هذه الروايات:
ــ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إيّاك واستشعار الطّمع، فانه يشوب القلب شدَّة الحرص، ويختم على القلوب بطبائع حبّ الدنيا، وهو مفتاحُ كلِّ سيئةٍ، ورأس كلِّ خطيئةٍ، وسبب إحباط كلِّ حسنة»[4].
وقال (صلى الله عليه وآله): «إيّاكم والطمع، فإنّه الفقرُ الحاضرُ، وايّاكم وما يُعتذرُ منه»[5].
وقال (صلى الله عليه وآله): «الصفا الزّلال الذي لا تثبتُ عليه أقدام العلماء الطمع»[6].
وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «إيّاك أن توجِفَ بك مطايا الطمع، فتوردك مناهل الهلكة»[7].
وقال (عليه السلام): «من أراد أن يعيش حرّاً أيام حياته فلا يُسكن الطمع قلبهُ»[8].
وقال (عليه السلام): «غَش نفسهُ من شربها الطمع»[9].
وقال (عليه السلام): «جمالُ الشرّ الطمع»[10].
قال الامام الصادق (عليه السلام): «ان أردت أن تقر عينك وتنال خير الدنيا والآخرة، فاقطع الطمع عما في أيدي الناس، وعدّ نفسك في الموتى، ولا تحدّثن نفسك أنّك فوق أحد من الناس، واخزن لسانك كما تخزن مالك»[11].
وقال الامام الهادي (عليه السلام): «الطمعُ سجيّةٌ سيئةٌ»[12].
وهكذا تلاحظ من خلال هذه الروايات الشريفة كيف أن الطمع سجيةٌ وخصلةٌ سيئة ملوثةٌ لنفس الانسان ممرضةٌ لقلبه ومفسدة للبّه، وسيتضح المزيد من ذلك خلال البحث.
حالات الطمع ودلائله:
لهذه الرذيلة الاخلاقية أعراض وعلامات مذمومة ومقبوحة تظهر على صاحبها، ويمكن معرفتها فيه من خلال تصرفاته وأفعاله من معاملات وعلاقات وغيرها من التقلبات، وأهم هذه العلامات هي:
1ـ الفرح، وينتابه عند نوال مطمعه، بحيث تظهر آثار ذلك الفرح عليه، ومن المعلوم أن الفرح مالم يكن بحق فهو مذموم، قال تعالى: (... قال له قومه لا تفرح ان الله لايحب الفرحين)[13]. وقال تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما ءاتاكم)[14].
2ـ المرح. ويظهر عليه أيضاً عند فوزه ببغيته ومطمعه . والمرح: التبختر والاختيال، قال تعالى (ولا تمش في الارض مرحاً)[15]. وقيل: هو الأشر والبطر، بمعنى الطغيان عند النعمة، قال تعالى (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون)[16].
3ـ اللّجاجة، وهي التمادي، وطرق السبل المختلفة، من أجل الوصول الى المطمع، ولو أدّى ذلگ الى تحمّل الذلّ والاهانة، ومن هنا يكون الطماع ذليلاً، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من لم ينزه نفسه عن دناءة المطامع فقد أذلّ نفس، وهو فيه الآخرة أذل وأخزى»[17].
4ـ التكاثر، وهو الاكثار من المال وغيره من حطام الدنيا، وجمعه والحرص عليه، وعدم انفاقه أو بذله في وجوه البرّ والخير، وهذا هو الآخر من مذموم الصفات ومقبوح العادات، لما فيه من اشغال النفس واللهو، واتلاف الوقت والوقوع في المحظور الشرعي، قال تعالى (ألهكم التكاثر* حتّى زرتم المقابر)[18].
وقد جمع هذه العلامات والصفات المتسببة عن الطمع حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: «شُعب أربع: الفرح، والمرح، واللّجاجة، والتكاثر، فالفرح مكروهٌ عند الله عزّوجلّ، والمرح خيلاء، واللّجاجة بلاء لمن اضطرته إلى حبائل الآثام، والتكاثر لهوٌ وشغلٌ واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير»[19].
البواعث والاسباب:
إنّ انعطاف النفس نحو ممارسة الرذيلة، ومقارفة الذنوب قد يكون بتأثير سبباً أو باعثاً معروفاً، أو بأكثر من سبب وباعث، وليس من الضروري أن يكون السبب أو الباعث مختصاً بالتأثير في ايجاد نوعاً واحداً من الذنوب، فربما اشترك مع غيره فيؤثر في ارتكابه قبائح اخرى أو قد يكون مؤثراً في اقتراف جميع الذنوب ولو بنسبة محددة من التأثير، وبالجملة فان النفس ذات أبعاد وأغوار لا يسبرها الا بارئها ولا يحيط بمجاهيلها الا هو، فأفضل استنتاج وأحسن طريقة للوصول الى معرفة العوامل والاسباب المؤثرة في انحرافها هو ما كان مستنداً في تحديد ذلك الى وحي الشريعة والى تجربة الحكماء والعقلاء في ذلك، ومن هذا المنطلق نقول: ان أهم العوامل والاسباب الحادية بالنفس الى التلوث برذيلة الطمع:
1ـ الجهل وضآلة الوعي في المعارف الالهية، من فقهٍ وعقائدٍ وأخلاق، ومن الثابت أن هذه المعارف لها دور أساس في بناء الشخصية الملتزمة واعطائها الحصانة اللازمة ضد اقتراف وممارسة القبائح والتلوث بها. وهذا ما نطقت به الروايات المستفيضة، قال الامام أمير المؤمنين (عليه السلام): «الجهل أصل كل شر»[20]. وقال (عليه السلام): «إنّ قلوب الجهال تستفزها الأطماع، وترهنها المنى، وتستعلقها الخدائح»[21] وقال (عليه السلام) أيضاً: «الحرص، والشرة، والبخل نتيجة الجهل» ومن الواضح أن الطمع هو المؤثر الاساس في هذه الصفات.
2ـ عدم الاهتمام بتهذيب النفس وتزكيتها وتربيتها وترويضها بالصبر على الطاعات وترك المعاصي، ومثله عدم المبالاة والتساهل تجاه التكاليف الشرعية وعدم الجدّية في أخذها بنظر الاعتبار في التعامل والعلاقات، فان ذلك يجعلها عُرضة للاصابة بمختلف الامراض الاخلاقية ومنها الطمع. قال تعالى: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)[22]. والروايات في هذا المعنى كثيرة، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ هذه النفس لأمارة بالسوء، فمن أهملها جمعت به الى المآثم»[23].
وقال (عليه السلام): «من لم يتعاهد النقص من نفسه غلب عليه الهوى، ومن كان في نقصٍ فالموت خير له»[24] ومن الواضح أن الطمع من مصاديق الهوى الجليّة.
وقال (عليه السلام): «لا ترخص لنفسك في مطاوعة الهوى وإيثار لذات الدنيا، فيفسد دينك ولا يصلح، وتخسر نفسك ولا تربح»[25].
3ـ التربية الفاسدة، والنشوء في المحيط الملوث، ورفقة السوء، هذه كلها عوامل مهمة ومؤثرة في فساد أخلاق الفرد والمجتمع، وابتلائهما بشتى أنواع الامراض الأخلاقية، والتي منها الطمع، والاحاديث في هذا المعنى مستفيضة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «توقوا مصاحبة كل ضعيف الخير، قوي الشر، خبيث النفس، إذا خاف خنس، وإذا أمن بطش»[26].
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فساد الاخلاق بمعاشرة السفهاء، وصلاح الأخلاق بمنافسة العقلاء، والخلق أشكال فكل يعمل على شاكلته»[27]، وقال (عليه السلام): «خلطة أبناء الدنيا تشين الدين، وضعف اليقين»[28].
4ـ حب الدنيا وتمكنه من النفس، وهو من أخطر العوامل التي تجمع بصاحبها وتورده المهالك في ارتكاب المعاصي، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «حب الدنيا أصل كل معصية وأول كل ذنب»[29] وقال الامام أمير المؤمنين (عليه السلام): «رأس الآفات الوله بالدنيا»[30] ولايخفى ان الطمع من أخطر الآفات، وقال الامام الصادق (عليه السلام): «رأس كل خطيئة حب الدنيا»[31].
5ـ الإغترار بالعروض المغرية، المادية منها والمعنوية أو كليهما، كالعروض المالية الضخمة، أو المناصب الدنيوية الكبيرة من رئاسة وإمرة وجاه وما شاكلها، وهذا السبب والعامل، وان كان داخلاً في عموم سابقه، إلا أن له خصوصية خطيرة وهي تأثيره على أفراد ربما لم تكن لهم سابقة في الانخذال لحب الدنيا، ولهم سيرة ممدوحة عند الناس، فيرديهم في مهلكة الطمع، ويمرض قلوبهم، والتأريخ مليء بالشواهد لهذا.
6ـ صغر النفس وحقارتها، وضعف الايمان، هذه عوامل وبواعث تحط من كرامّ النفس وإبائها الذي يتنافى والطمع وبالتالي تجعلها عرضةً للاصابة بهذه الآفة الخلقية.
7ـ مرض القلب ومعاناته من الابتلاء بهذه الرذيلة، فهو يجعل صاحبه يتوقف الى ما يطمع اليه، ويتحرك الطمع في داخله كلما التمس سبباً ودافعاً لذلك.
قال تعالى: (... فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلف قولاً معروفاً)[32]
المساوئ والآثار:
الطمع وكما اشرنا اليه في صدر البحث، من الروافد والبواعث لأنواع متعددة من المعاصي الكبيرة وغيرها، لذا فان الاضرار والمفاسد والمساوئ التي تنتهي الى تأثيره كلاً أو جزءاً، عظيمة وكبيرة على الفرد والمجتمع وليس من السهل استقصائها واحصائها وأهم ما يمكن ذكره منها وعلى المستويين ـ الفرد والمجتمع ـ هو ما يلي:
أـ على الفرد:
1ـ الشقاء في الدنيا، لما يقاسيه ويعانيه من الجهود الفكرية والعضلية وتبديد هذه الطاقات لاشباع نهمه وطعمه الذي لا يقف عند حد، وكذا الشقاء في الآخرة، لما ينتظره من المصير الى شديد العقاب في جهنم، والتي ربما ينتهي به الامر الى الخلود فيها ـ والعياذ بالله ـ اذا كان مقترفاً وبسبب طعمه لمعاصي تقتضي ذلك.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ثمرة الطمع الشقاء»[33].
2ـ اذهاب الورع، وهو الحصانة التي يتمتع بها الفرد من التقحم في المعاصي والهلكات والشبهات، والروايات المشيرة الى هذا كثيرة، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا يجتمع الورع والطمع»[34] . قال (عليه السلام): «من لزم الطمع عدم الورع»[35].
3ـ افساد الفرد، بهدم مقومات شخصيته واتلافها، من دين وخلق ومروءة وغيرها. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ما هدم الدين مثل البدع، وما أفسد الرجل مثل الطمع»[36].
4ـ ذهاب العقل، الذي بواسطته يتسنى للانسان أن يرقى مدارج الكمال، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع»[37].
5ـ افساد العالم، وذلك بإذهاب الحكمة عنه، وابعاده عن دوره العظيم في هداية المجتمع وتوعيته، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الطمع يذهب الحكمة من قلوب العلماء»[38]، ويؤدي هذا بدوره الى فساد الناس وانحرافهم وتلف دينهم. جاء في حديث طويل لامير المؤمنين (عليه السلام): «... والله ما أتلف الناس الا العلماء الطماعون، والزهاد الراغبون، والتجار الخائنون، والغزاّ المراؤون، والحكام الجائرون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون»[39].
6ـ الافتقار، وذلك بجعل صاحبه دوماً يعيش حالة الافتقار والحاجة الى ما يطمع بالحصول عليه، ولما لم يكن الطماع يقف عند حدٍ في طمعه فهو يعيش مستشعراً ومعانياً من حالة الفقر دائماً لاهفاً وراء اشباع مطامعه التي لا تنتهي الى حد. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إياك والطمع فانه الفقر الحاضر»[40].
7ـ الاذلال في الدنيا والآخرة، في الدنيا، لما يعتريه من حالة الذل عند السعي وراء مطمعه، وفي الآخرة، لما اعدّ له من عذاب الهون فيها، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ثمرّ الطمع، ذل الدنيا والآخرة»[41]. وقال (عليه السلام): «الطامع في وثاق الذل»[42].
8ـ الاسترقاق، بحيث يصبح الطماع عبداً مطيعاً لطعمه ورقاً له، فيكون الطمع بمثابة السيد والمالك، والطمّاع بمثابة العبد والرق له. قال الامام أمير المؤمنين (عليه السلام): «الطمع رق مؤبد»[43]. وقال (عليه السلام): «عبد المطامع مسترق، لا يجد أبداً العتق»[44].
9ـ الازدراء والاحتقار، فعادةً ما يوقع الطمع صاحبه بانتهاكات لحقوق الناس، فيكون نصيبه في ذلك، أن يكون محلاً لازدرائهم واحتقارهم وشتمهم فيدنس بذلك عرضه، قال الامام موسى الكاظم (عليه السلام) لهشام وهو يعظه ـ : «إيّاك والطمع، وعليك باليأس مما في أيدي الناس، وأمت الطمع من المخلوقين، فان الطمع مفتاح للذل، واختلاس العقل، واختلاق المروات، وتدنيس العرض والذهاب بالعلم»[45].
10ـ الذهاب بالعلم، فمتى ما استسلم العالم لطعمه وانقاد له، وأورده ما يحذر منه من المحظورات، حرمه الله تعالى من فيوضات نعمة العلم وسلبها منه، وهذا ما يثبته الحديث السابق، الوارد عن الامام الكاظم (عليه السلام).
11ـ احباط الاعمال الحسنة، ومحوها من ديوان الحسنات، واقحام صاحبه في ارتكاب انواع المعاصي، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اياك واستشعار الطمع فانه يشوب القلب شدة الحرص، ويختم على القلوب بطبائع حب الدنيا وهو مفتاح كل سيئة، ورأس كل خطيئة، وسبب احباط كل حسنة»[46].
12ـ اخراج الايمان من القلب، فعن أبان بن سويد، قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) ـ: ما الذي يُثبت الايمان في العبد؟ قال: «الذي يثبته فيه الورع والذي يخرجه منه الطمع»[47].
ب ـ على المجتمع:
ان أهم ما يمكن اثباته من الآثار والمساوي للطمع على المجتمع لا على سبيل الحصر والاستقصاء هو ما يلي:
1ـ انتشار الدعاوي والخصومات، والتي ربما ينجر بعضها الى سفك الدماء وانتها: الامراض، كل ذلك يحصل نتيجة الاعتداءات والانتهاكات التي تحصل بسبب الاطماع.
2ـ ارباك التعامل في المجتمع والاضرار باساس ذلك التعامل الذي يفترض أن يقوم على اساس الثقة، واحلال محله اساس عدم الثقة، الذي يؤدي بالنتيجّ الى الاستفادة من اساليب معقدة في التعامل من أجل الحفاظ على الحقوق من الاطماع، ولا يختص هذا بالتعامل التجاري، بل في كل تعامل من شأنه أن يكون موضوعاً للطمع.
3ـ اضمحلال وفقدان القيم والاخلاق والاصول والاعراف الخيرة، القائمة على اساس البذل والايثار والتضحية، من المجتمع بالتدريج، كلما اشتدت واتسعت رقعة الابتلاء بهذه الرذيلة في ذلك المجتمع.
4ـ القعود بالطاقات البشرية للمجتمع وتسييرها نحو الهدم دون البناء، مما يؤدي الى تأخر المجتمع في مختلف الميادين الحياتية المهمة.
5ـ تفكك المجتمع وتضعضع وحدته، التي هي من أهم عناصر قوته التي توفر له الحماية والامن من أعدائه.
6ـ ارباك حالة الأمان والاستقرار في المجتمع، وذلك لان الطمع يحدوا بأصحابه الى الغارّ ومحاولة الاستيلاء على ما يطعمون اليه من أمور مادية أو معنوية فمن هي تحت تصرف وامتلاك غيرهم، وبالطبع ان ذلك يشتد (حالة الارباك الامني) مع اشتداد وانتشار الطمع في المجتمع.
7ـ العدوى وانتقال الابتلاء بهذه الرذيلة الى الاصحاء، بل أگثر من هذا، اذا اتسعت رقعة هذا الوباء الاخلاقي في المجتمع بشكل كبير، سيصبح ذلك خلقاً وتربيةً تتوارثها الاجيال وتنشأ عليها، فيكون عندئذ ظاهرة عامة مميزة لذلك المجتمع يصعب علاجها والتخلص منها.
8ـ الظلم والاضطهاد، عندما يكون المبتلون بهذه الرذيلة هم أصحاب النفوذ من الرؤساء والأمراء وغيرهم، فيستخدم هؤلاء ما تمتعوا به من سلطان في قهر الناس وظلمهم من أجل الحصول على مطامعهم.
9ـ الاخلال بالسوق الاقتصادية وبروز مظاهر التعسف فيها من غلاء للاسعار واحتكار للبضائع والغش فيها وغير ذلك.
علاج الطمع:
ان أهم الامور التي يمكن التزامها للتخلص من شر هذه الآفة على النفس هي:
1ـ رفع مستوى الوعي العلمي في جوانب التشريع المختلفة، من فقه وعقائد وأخلاق وأصول، ورفع ظلة الجهل في ذلك عن النفس، فان ذلك، هو الركن الاساس في بناء الشخصية المسلمة الناجحة، وهو الذي يرفدها بالمنعة والحصانة تجاه اقتراف المنكرات واجتثاث جذورها وبواعثها من النفس، والآيات والروايات في هذا المعنى كثيرة جداً يصعب احصاؤها ولا يتناسب سردها مع هذا المختصر، قال أمير المؤمنين (ع): «العلم حجاب من الآفات»[48].
2ـ الاهتمام بتهذيب النفس وبذل الجهد في ذلك، والمثابرة والمواظبة على ترويضها الرياضة المناسبة في الصبر على الطاعات وترك المعاصي والتوسل في ذلك والاستعانة بالطرق السليمة الكفيلة بذلك، المستقاة من نهج القرآن وأهل البيت (عليهم السلام) . قال تعالى (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها)[49]. وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا تترك الاجتهاد في اصلاح نفسك، فانه لا يعينك الا الجد»[50].
3ـ التملي من التفكير والتروي والتأمل في مساوئ هذه الآفة الاخلاقية وما تؤدي اليه من الشرور وما تنتهي اليه بصاحبها الى سوء العاقبة، بمراجعة ماورد بذا الخصوص من الآيات والاحاديث الشريفة، واشعار النفس الخوف والرهبة من مخاطرها، فلعل ذلك يكون سبباً في الخلاص منها.
4ـ مقاطعة رفاق السوء المبتلين بهذه الآفة والابتعاد عن كل محيط ملوث بها.
5ـ التزام القناعة والاكتفاء بالكافي في الاحتياجات في الملبس والمأكل والمنزل وغيرها، والاستقامة على ذلك، فانه يورث في النفس سجية وملكة عظيمة تسموا بها في مدارج الكمال وتقلع جذور الطمع منها.
قال أبو عبدالله (عليه السلام): «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ابن آدم إإن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك، فان أيسر ما فيها يكفيك، وان كنت انما تريد مالا يكفيك فان كل ما فيها لا يكفيك»[51].
6ـ التحلي بالورع حالة استشعار النفس للطمع عند حصول ما يستدعي تحركه فيها من المطامع المادية والمعنوية. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ضادوا الطمع بالورع»[52].
7ـ اللجوء الى الله تعالى، بالاستعاذة والدعاء للخلاص من شر هذه الرذيلة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «تعوذوا بالله من ثلاث: من طمع حيث لا مطمع، ومن طمع يرد الى طبع، ومن طمع يرد الى مطمع»[53].
8ـ اقتفاء طرائف الحكم ولطائف العبر من أقوال وحكايات تزهد في الدنيا وتعظم خطر الآخرة، واستعراض تاريخ من أهلكه طمعه وأرداه الى أسوء العواقب، والاعتبار والاتعاظ بأحوالهم.
قصة وعبرة:
صحب رجل عيسى بن مريم (عليه السلام) فقال: أكون معك وأصحبك، فانطلقا حتى أتيا الى شاطئ نهر فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة فأكلا رغيفاً وبقي رغيف فقام عيسى (عليه السلام) الى النهر فشربه ثم رجع فلم يجد الرغيف فقال للرجل: من أخذ الرغيف؟ فقال: لا أدري، فانطلق ومعه صاحبه فرأى ظبية ومعها خشفان لها، فدعا أحدهما فأتاه فذبح فاشتوى منه فأكل هو وذلك الرجل، ثم قال للخشف: قم باذن الله، فقام فذهب، فقال للرجل: أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف؟ قال: لا أدري، قال: ثم انتهيا الى وادي ماء فاخذ عيسى (عليه السلام) بيد الرجل فمشيا على الماء فلما جاوزا قال (عليه السلام): أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف؟ قال: لا أدري، قال: فانتهيا الى مفازة فجلسا فاخذ عيسى صلوات الله عليه يجمع تراباً أو كثيباً ثم قال: كن ذهباً باذن الله فصار ذهباً فقسمه ثلاثة أثلاث فقال: ثلث لي وثلث لك وثلث لمن أخذ الرغيف قال: فأنا أخذت الرغيف، قال (عليه السلام): فكله لك وفارقه عيسى (عليه السلام) فانتهى اليه رجلان في المفازة ومعه المال، فأرادا أن يأخذاه منه ويقتلاه فقال: هو بيننا أثلاثاً، فابعثوا أحدكم الى القرية حتى يشتري لنا طعاماً قال: فبعثوا أحدهم، فقال الذي بعث : لأي شيء أقاسم هؤلاء في هذا المال، لكني أضع في هذا الطعام سماً فأقتلهما فأخذ هذا المال وحدي، قال: ففعل، وقال ذانك الرجلان: لأي شيء نجعل لهذا ثلثاً ولكن اذا رجع قتلناه واقتسمنا المال بيننا، قال: فلما رجع اليهما قتلاه وأكلا الطعام فماتا فبقي ذلك المال في المفازة واولئك الثلاثة قتلا عنده، فمر بهم عيسى (عليه السلام) على تلك الحال فقال لأصحابه: هذه الدنيا فاحذروها[54].
والحمد لله رب العالمين
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة المائدة الآية 84.
[2] سورة الشعراء ـ الآية 51.
[3] ميزان الحكمة، ج 6، ص 2300.
[4] ميزان الحكمة، ج 6، ص 2298.
[5] كنز العمال، ج 3، ص 198، ح 7577.
[6] كنز العمال، ج 3، ص 199، ح 7579.
[7] ميزان الحكمة، ج 6، ص 2298.
[8] تنبيه الخواطر، ج 1، ص 49.
[9] ميزان الحكمة، ج 6، ص 2297. (عن غرر الحكم).
[10] ميزان الحكمة، ج 6، ص 2297. (عن غرر الحكم).
[11] بحار الأنوار، ج 70، ص 168.
[12] ميزان الحكمة، ج 6، ص 2296.
[13] سورة القصص، الآية 76.
[14] سورة الحديد، الآية 23.
[15] سورة لقمان، الآية 18.
[16] سورة غافر، الآية 75.
[17] غرر الحكم: 887.
[18] سورة التكاثر، الآيتان 1، 2.
[19] ميزان الحكمة، ج 6، ص 2300.
[20] غرر الحكم: الحكمة 819.
[21] تحف العقول ص 219.
[22] سورة الشمس، الآيتان 9، 10.
[23] ميزان الحكمة، ج 10، ص 4386.
[24] أمالي الصدوق، ص 322.
[25] غرر الحكم : الحكمة 10400.
[26] ميزان الحكمة، ج 5، ص 2100.
[27] ميزان الحكمة، ج 10، ص 4399.
[28] غرر الحكم، الحكمة: 5072.
[29] تنبيه الخواطر، ج 2، ص 122.
[30] ميزان الحكمة، ج 3، ص 1201.
[31] اصول الكافي، ج 2، ص 315.
[32] سورة الاحزاب، الآية 32.
[33] غرر الحكم، الحكمة 4609.
[34] غرر الحكم، الحكمة 8169.
[35] ميزان الحكمة، ج 6، ص 2296.
[36] شرح نهج البلاغة، ج 19، ص 25.
[37] كنز العمال، ج 3، ص 198، الحديث 7573.
[38] ميزان الحكمة، ج 8، ص 3202.
[39] ميزان الحكمة، ج 8، ص 3202.
[40] جامع السعادات، ج 1، ص 361.
[41] غرر الحكم، الحكمة: 4639.
[42] شرح نهج البلاغة، لابن ابي الحديد، ج 19، ص 30.
[43] نهج البلاغة، الحكمة 180، ص 692.
[44] غرر الحكم، الحكمة: 6299.
[45] ميزان الحكمة، ج 6، ص 2297.
[46] ميزان الحكمة، ج 6، ص 2297.
[47] البحار، ج 70، ص 168.
[48] غرر الحكم، الحكمة: 720.
[49] سورة الشمس. الآيتان 9، 10.
[50] ميزان الحكمة، ج 10، ص 4399.
[51] بحار الأنوار، ج 70، ص 176.
[52] غرر الحكم، الحكمة 5916.
[53] كنز العمال، للمتقي الهندي، ج 3، ص 199، الحديث 7580.
[54] المحجّ البيضاء، ج 6، ص 103.