قصة عجيبة جدا يرويها د. عبد العزيز الأحمد
مع سائق الأجرة الثري
ليس من عادتي - حينما أزور مدينة أو دولة - أن أستأجر سيارة خاصة للتنقل، وإنما أحبذ الركوب في سيارات الأجرة، لأحقق من ذلك ثلاثة أهداف: الدعم لصاحب سيارة الأجرة في تكسبه، واختصار الوقت لمعرفته الطرق، والتعرف على ثقافة كل بلد وشخصيات أهله من خلال الحديث معهم، إضافة إلى جعله كالدليل السياحي في ذلك البلد.
فإليكم إذا قصة سائق الأجرة الذي كان يملك الملايين، ثم صار مالكاً "فقط" لسيارة أجرة بالأقساط!
كان لدي موعد مهم في إحدى مدن السعودية، فنزلت من الفندق إلى الشارع أنتظر سيارة أجرة ومعي جهازي وحقيبتي، وإذ بسيارة أجرة صغيرة جديدة تقف أمامي، طأطأت رأسي إلى سائقها مسلّماً ومخبراً بوجهتي، فإذ برجل تجاوز الخمسين، تكسوه لحية مهيبة علاها البياض، يفتر ثغره عن بسمة جميلة، ووجه مضيء بالطاعة، فرحب بي، وقال: تفضل، فتحت الباب الخلفي لأضع فيه حاجياتي، لاحظت بعض الخضار المتناثر: "طماطم، خيار، وكوسا" ثم ركبتُ وانطلقنا نتجاذب أطراف الحديث، أخبرته من أنا وما عملي، ثم عرفني بنفسه.
فسألته عن عمله، فقال: أبدأ عملي فجراً بالذهاب لسوق الخضار وشرائها جملة، ثم أبيعها مفرقاً وأكسب قليلاً، وبقية الوقت أقضيه بسيارتي الأجرة، قلت: لذلك رأيت بعض الخضرة في الخلف؟! فابتسم، ثم سألته عن رضاه عن حاله؛ فتأثر تأثراً بالغاً، وتنهد تنهيدة عميقة، وهو يرنو ببصره للسماء، وتلعثمت العبارات في فمه، ورأيت دمعه يتحدر من عينيه، فراعيت الأمر وسكتُ! فقال: لو تعلم حالي من قبل والآن لتعجبت! فشدني ذلك لقصته؛ فحكاها.
قصة أبي مروان، تظهر قدرة الإنسان الخارقة على معالجة أخطائه حتى ولو كان تقدم به العمر، إنّ فيها حشداً من السمو والطهارة التي يملكها الإنسان في قلبه، ليتعالى عن فتنة الملايين من الريالات!
يحكي لي أبو مروان أنه منذ ٣٠ عاماً افتتح مكتباً للتخليص الجمركي والخدمات العامة، فكان مصدراً عظيماً لدخله، يجني منه ملايين الريالات سنوياً.
يقول: ربحت ربحاً كبيراً، فاشتريت قصرا، وملكتُ عدداً من السيارات الفارهة لي ولأولادي، وأرصدتي بالملايين، ولم يكن كلّ كسبي بطرق مستقيمة، إذ كنتُ أستغلّ علاقاتي لإدخال بضائع أحياناً ليست طبقا للمواصفات، وأحياناً أدفع من تحت الطاولة لتسهيل الإجراءات والقفز على الأنظمة.
واسترسل أبو مروان، قائلاً: كان لي ابن ينصحني عن طريقة كسبي المال، وأنه مال حرام، حتى إنّه رفض أخذ سيارة ثمينة مني، واشترى سيارة قديمة بسعر زهيد، فغضبت عليه وطلبت منه عدم إيقافها أمام البيت.
ومع ذلك فقد كان يذكرني ما بين وقت وآخر بالله وبالمال الحلال والخوف من عقاب الله، فكنت لا ألتفت لذلك، فقد أغراني المال وتدفقه بين يدي، وفتنتني الإغراءات!
ذات يومٍ، رن جوالي، وإذ به أحد الجيران يخبرني بحريق في بيتي، وأن الدفاع المدني لتوهم أتوا!
فانطلقت مسرعاً وقد أغلقت الدنيا أمام عيني، وعقلي توقف، وتجمدت أطرافي، وكل الماضي دار في ذهني، وجميع الاحتمالات هجمت علي بغتة؛ وتذكرت كلام ولدي!
وإذْ بي أمام قصري وسيارات الإطفاء أمامه، نزلتُ بسرعة استطلع الأمر، دخلت فوجدت ابنتي الكبرى تبكي تعلوها آثار الدخان، سألتها عن أمها وأختها، فقالت: في الصالون العلوي، قفزت السلالم قفزاً فوجدت رجال الإنقاذ يحملونها ومعها طفلتي قد خنقهم الدخان وأصابهم بعض الحريق، كان يوماً عصيباً قضيناه في المستشفى، ثم -بحمد الله- تعالجوا وخرجوا.
بعد ذلك رجعت للبيت أبحث عن سبب الحريق، فإذ به توصيلة كهرباء في الصالون العلوي، وإذا بصناعتها رديئة لا تتحمل، فاحترقت وأشعلت البيت؛ فبحثت عن مكان شرائها، فإذ به محل عادي، ذهبت إليه وتناقشت معه فقال هذا الموجود لدى الموردين بالجملة.
فسألته من المورد الذي يتعامل معه؟ فذهبت إليه وهو من الموردين الكبار، فلما أتيته واطلعت على عمله ومعاملاته، وإذ في مكتبي عميل لهم لتخليص المعاملات الجمركية!!
ذهلتُ من ذلك، وكاد يغشى علي! ليست المسألة توصيلة كهرباء فقط! بل رجعت بي الذاكرة إلى مئات المعاملات التي خلصناها لهذا المورد وغيره، وإلى كم من البضائع الرديئة والمغشوشة أدخلتها البلد!
كم من بيوت وشركات وأناس ربما أحرقتهم أو قتلتهم؟! وتذكرت المال السحت الذي أجنيه! استيقظتُ من غفلتي! فليس الخطأ من البائع أو المورد «فقط» بل مني ومن أمثالي حينما نتساهل، بل نساعد في قتل الناس وتدمير البلاد!
رجعتُ وفي قلبي حسرة تشتعل، وفي عيني دمع لا يقف، وعند باب البيت وجدتُ ابني خارجا لصلاة المغرب، نظرت إليه فقال: يا أبي الحمدلله على سلامة الوالدة وأخواتي، وواساني ودعا لي، وذهبنا سويا للصلاة، وبعدها قال: يا أبي، الله رحمنا فأرسل تنبيها ليوقظ قلوبنا، وما حل الحريق إلا بسبب تقصيرنا.
كان يريد أن ينصحني النصيحة المعتادة، لكني أخبرته بالخبر الصادم، وبأنني سبب الحريق، وأنني أنا من أدخل التوصيلة الرديئة للبلد، فقال: إذا توبة لله وصدق في التطهر أخرج من مالك، والحمد لله رحمة الله واسعة وأبواب رزقه الحلال مشرعة ونحن نساعدك.
فشرح الله صدري لكلامه، وفعلاً، أتت جمعية خيرية وسلمتهم قصري وسياراتي ومالي كله، تخلصاً من آثار المال السحت، وانتقلت لشقة صغيرة بالإيجار، وأغلقت مكتبي «المغري» واشتريت سيارة الأجرة هذه بالأقساط، وبدأت بركة هذه الحياة: أصبحتُ أرى أسرتي أكثر، واقتربت من أولادي، وصرتُ أشهد الصلاة، ولي حزب من القرآن الكريم، ثم هملت عيونه بالدموع، وقال: الحمدلله، الآن تغمرني السعادة، فضميري مرتاح وكسبي حلال وسعيد في حياتي، والحمدلله الذي حفظني بسبب صلاح زوجتي، وهداني بدعوات ابني وصبره علي.
هنا انتهت هذه القصة المؤثرة.
أما أنا، فبينما كنتُ مستغرقاً في حديثه وصلت الى مكاني المقصود، فشكرته، وودعته، ودعوت له، ذهبتُ وقد تواردت الأفكار في بالي:
لا شيء يعدل راحة الضمير!
لا يقف شيء أمام إرادتك اذا صدقت!!
سنوات مرت بأبي مروان وهو مفتون مسلوب الإرادة! رغم النصائح من أهله، لكن لما اصطدم بحدث هزه من الأعماق استيقظ الضمير!
لذلك تنازل أبو مروان عن كل ما يملك مقابل راحة قلبه وسلامة آخرته..
فهل ينتظر بعضنا هزات ليستيقظ في مستقبل الأيام؟! أم أنّ التأمل في مسيرة الحياة والمبادرة الإيجابية ستستبق الهزات والمفاجآت؟ أترك الإجابة لأعزائي القراء، وإلى لقاء قادم.
د. عبدالعزيز الأحمد