بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم

وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك

وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله

السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته



قال تعالى في محكم كتابه الكريم: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ

الأَرْضِ)(1) .

لقد دلّت الآية المباركة في إطلاقها على أنّ المضطر إذا دعا ربَّه استحق الإجابة. وهناك رأيان

في المقصود من المضطر هذا، هما:

الرأي الأوّل: ما ذكره السيد الطباطبائي (قُدّس سرّه) في تفسيره الكبير (الميزان)(2) من أنّ

المضطر هو الإنسان المنقطع إلى الله تعالى ؛ وذلك بدلالة آيتين في القرآن الكريم تفسّر

إحداهما الاُخرى
:

الأُُولى: (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(3) . وظاهرها أنّ الدعاء الحقيقي يستلزم الإجابة، مع

السكوت عن ماهيّة وجوهر ذلك الدعاء الحقيقي المستلزم للإجابة.

الثانية: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ). وهذه الآية قد فسّرت معنى الدعاء

الحقيقي المستلزم للإجابة، وهو دعاء المضطر ؛ لأنّه هو الذي قد تيقّن بفشل جميع الأسباب

المادّيّة التي سلكها البشر لكشف ما هم فيه، فالإنسان مثلاً إذا أصابه مرض خطير وأيقن أنّ

جميع الأسباب المادّيّة قد فشلت في علاجه وإبرائه، أو أصابه خطر عظيم وأيقن أنّ جميع تلك

الأسباب قد فشلت هي الاُخرى في خلاصه ونجاته منه، فهو والحال هذه سيتّجه بكلِّ قواه إلى

الله تعالى وينقطع إليه ؛ لأنّه يدرك أن لا سبيل أمامه إلاّ اللجوء إلى بارئه القادر على كلِّ شيء.

الرأي الثاني: أنّ المراد بالمضطر في الآية هو الإمام المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه)، وذلك بدليلين:

الأوّل: الروايات. قال الإمام الباقر (عليه السّلام) في تفسير الآية المشار إليها: (هذه نزلت في

القائم (عليه السّلام)، إذا خرج تعمَّم وصلّى عند المقام، وتضرع إلى ربِّه فلا ترد له راية أبداً)(4) .

وقال الإمام الصادق (عليه السّلام): (نزلت في القائمِ من آلِ محمّد (عليه السّلام)، هو والله

المضطر، إذا صلّى في المقام ركعتين ودعا الله فأجابه، ويكشف السوء، ويجعله خليفةً في الأرض)(5) .

الثاني: القرينة السياقيّة في الآية على أنّ المراد بالمضطر هو الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)؛

لأنّها عبّرت في ذيلها: (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ)، ولم تعبّر بـ (خليفة في الأرض)، وبينهما فرق كبير

؛ فحينما تقول: (إنَّ الإنسانَ خليفةٌ في الأرض) فهو قابل للصدق على الجميع، فكلُّ فرد له قدرة

القيام بدور الخلافة في هذه الأرض.

أمّا إذا قلتَ: (إنَّ الإنسانَ خليفةُ الأرض) فهو أعظم ؛ لأنّه يسيطر على الأرض كلِّها، وتخضع له بكنوزها ومعادنها وبركاتها.

وقد استخدم القرآن الكريم هذا الاُسلوب بعد خطابه للملائكة في خصوص نبيّه آدم (عليه

السّلام): (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)(6) ، وكذا في خطابه لنبيّه داود

(عليه السّلام): (يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ)(7) ، لكنه حينما خاطب اُمّة النبي (صلّى الله

عليه وآله) نجد أنَّ لغة الخطاب قد تغيّرت، فقال: (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ).

إذاً إنَّ هذه الاُمّة قد وُعِدت من الله سبحانه بخلافة الأرض كلِّها بما ضمّت وحوت وليس خلافة

في الأرض؛ لأنّ هذه الخلافة الأخيرة قد قام بها آدم وداود وغيرهما، ولن يتحقق هذا الوعد إلاّ يوم الظهور.

وعليه فالمضطر هو الذي بيده وعلى عاتقه تحقق الاُمّة الإسلاميّة خلافة الأرض جميعاً، وهذا

الإنسان المضطر إنما تنطبق أوصافه حصراً على الإمام المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه): (وَنُرِيدُ

أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)(8) ؛ ولذا فحينما ندعو

بهذه الآية (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ) لا بدّ أن نلتفت إلى أنّنا نقصد بذلك الإمام المنتظر (عجّل الله

تعالى فرجه)، أي كأنّنا نتوسل إلى الله تعالى ببركة هذا الإمام أن يكشف عنّا الضرَّ والبلاء، وهذا
ما يتجسد أيضاً في دعاء الندبة: (أينَ المضطرُّ الذي يُجابُ إذا دعا)(9) .

وبناءً على ما تقدم فإنّنا نحاول أن ننطلق في الحديث عن الإمام المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه)

وعلاقتنا العاطفيّة به وبأهل بيته (عليهم السّلام) ضمن محورين اثنين لا أكثر:

المحور الأوّل: تحليل علاقتنا بأهل البيت (عليهم السّلام)

ينقسم المسلمون إلى اتجاهين اثنين في مسألة العلاقة مع أهل البيت (عليهم السّلام):

الاتجاه الأوّل: الحرفي، وقد تبنّاه بعض السلفيِّين، وفيه عنصران:

الأول: يعتقدون أنّ حبَّ النبيِّ وأهل بيته (عليهم السّلام) ليست له قيمةٌ ولا موضوعيّة، وإنما

المطلوب هو حبُّ الله تعالى فحسب، وأمّا حبّ نبيِّه (صلّى الله عليه وآله) فلأجل أنّه داعيةٌ إلى

الله سبحانه، وإلاّ فحبُّه ليس مطلوباً في ذاته ؛ لأنّه مكوّن من جانبين اثنين: شخصي وهو علاقته

بزوجته وابنته وصهره، والآخر دعوي وهو كونه داعياً إلى الله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً

وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ)(10) ، لذا فنحن نحبُّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله) في جانبه الدعوي لا

الشخصي.

الثاني: أنّ الحبَّ لا قيمة له، وإنّما المدار على العمل لا غير كما صرح القرآن الكريم بذلك:

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ)(11) ، إذاً فالمهم الاتّباع وليس الحبَّ.

الاتجاه الثاني: الموضوعي، وهو ما تبنّته مدرسةُ أهل البيت (عليهم السّلام) وبعضُ المذاهب

الإسلاميّة الاُخرى، فهم يعتقدون أنَّ الحبَّ له قيمةٌ وله موضوعيّةٌ، وذلك بدليلين اثنين:

الأوّل: ليس في تراثنا الإسلامي تفكيكُ شخصيّة الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى جانبين

شخصي ودعوي، بل إنَّ ذات الرسول (صلّى الله عليه وآله) بتمام حركاته وسكناته هي مظهر لله

تعالى وتجلياته، وكذا كلُّ نبيٍّ وإمام، والقرآن الكريم لم يقل: أحبوهم في الجانب الدعوي لا في

الجانب الشخصي، بل قال: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا

أَخْلَصْنَاهُمْ)، أي جعلنا ذواتهم خالصة صافية لله، (بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ

الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ)(12) .

وقال عن النبيِّ موسى (عليه السّلام): (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً)، أي كان

مصفّى، (وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً)(13) ، يعني أنّه بالإضافة إلى كونه رسولاً ونبيّاً في الجانب الدعوي فإنّه

كان مُخلَصاً في الجانب الشخصي.

وقال عن نبيّه يوسف (عليه السّلام) (... إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(14) ، وهذا التعبير يؤكّد أنّ

الأنبياء والأوصياء (عليهم السّلام) ليس لديهم جانبان شخصي ودعوي، بل هم ذاتٌ واحدةٌ صافيةٌ
لله تعالى.

وكيف كان فهناك اصطناع واصطفاء وتخليص، وهذا ما يتجلّى في القرآن الكريم حينما خاطب

أهل البيت (عليهم السّلام) قائلاً: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ

تَطْهِيراً)(15) ، أي أنّ الله تعالى قد نقّاكم من جميع الشوائب والأدران، وجعل ذواتكم صافية طاهرة خالصة له
.

الثاني: إنّ حبَّ النبيِّ وأهل بيته (عليهم السّلام) حبٌّ فطري لا يمكن القول بأنّه لا قيمة له ؛ وذلك

لأنّ علماء العرفان يقسّمون الحب إلى ثلاثة أقسام:

1 ـ الحب الشهوي: وهو الذي يدور مدار اللذة والشهوة، نحو: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ

النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ

مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(16) .

2 ـ الحب الإنساني: وهو حبُّ الإنسان لأبيه واُمّه، وهذا الحب يدور مدار الاُلفة.

3 ـ الحب الفطري: وهو حبُّ الكمال والجمال، يقول القرآن: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)(17) .

والخير هو الجمال والكمال. والإنسان حينما يُحبُّ الرسولَ الأكرم وأهلَ بيته (عليهم السّلام) لأنّهم

يمثلون ذروة الكمال، وهذا الحبُّ لا يختص بشيعتهم واتباعهم (عليهم السّلام)؛ فكلُّ إنسان يطلع

على سيرة أهل البيت (عليهم السّلام) فإنّه يحبهم بفطرته ويميل إليهم، فهذا الشاعر المسيحي

بولس سلامة قد قرأ شخصيّة الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) فقال:

جلجلَّ الحقُّ في المسيحيِّ حتّى ** عُـدَّ من فرط حبِّه علويّا

أنا مَن يعشق الفضيلةَ والإلهامَ ** والعدلَ والخِلاقَ الرضـيّا

فـإذا لم يكـن علـيٌّ نـبـيّاً ** فـلقـد كـان خُلقُـهُ نَبويّا

يا سماءُ اشهدي ويا أرضُ قرّي ** واخشـعي إنّني ذكرتُ عليّا


المحور الثاني: علاقتنا العاطفيّة بالإمام المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه):

هناك من يقول: إنّ الاستغراق في عاطفة البكاء عند قراءة الأدعية والأذكار ربما تشغل الإنسان

عن المبادئ والقيم؛ فالإغراق في الحزن على حساب المبادئ والقيم تربية سيّئة وخاطئة كما جاء

في دعاء الندبة: (إلى متى أحارُ فيك يا مولاي وإلى متى؟! وأيَّ خطابٍ أصفُ فيك وأيَّ نجوى؟!

عزيزٌ عليَّ أن اُجاب دونك واُناغى، عزيزٌ عليَّ أن أبكيك ويخذلُك الورى، عزيزٌ عليَّ أن يجري

عليك دونهم ما جرى)، ثمَّ يقول: (هل من مُعينٍ فاُطيل معه العويل والبكاء؟! هل من جزوعٍ

فاُساعد جزعَه إذا خلا؟! هل قذيت عينٌ فساعدتها عيني على القذى؟!). والجواب عن ذلك:

أوّلاً: لقد اُمرنا بالمودّة وليس بالمحبّةِ، قال تعالى: (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي

الْقُرْبَى) (18) . وبينهما فرق ؛ فكثير من المسلمين إن لم نقل جميعهم يُحبون أهل البيت (عليهم

السّلام)، ولكن المطلوب منهم هو المودّة، وهي إظهار الحبِّ.


ومن جملة مظاهر الحبِّ هو دعاء الندبة، فهو يجعلنا نحسُّ بوجود الإمام (عليه السّلام) معنا، وأنّه

يعيش بين ظهرانينا. إنّ هذا الدعاء يربِّينا على شيء طلبه القرآن الكريم منّا ألا وهو إظهار المحبّة المعبّر عنها بالمودّة.

ثانياً: غيرُ صحيح أن نقتطع جزءاً من الدعاء ثمَّ نأخذ بعض فقراته ونتمسك بها ونترك البعض

الآخر، فكما يربِّينا الدعاء على حبِّ أهل البيت (عليهم السّلام) ومودّتهم يربِّينا على العمل أيضاً،

نحو: (وأعنّا على تأديةِ حقوقه إليه، والاجتهادِ في طاعتِهِ، واجتنابِ معصيتِهِ... وأقبلْ إلينا بوجهكَ

الكريمِ، واقبَلْ تقرُّبَنا إليكَ، وانظرْ إلينا نظرةً رحيمةً).

وهذه هي ميزة التراث الشيعي عن غيره، فإنّه يؤكّد على أمرين مهمّين: الحبِّ والعمل، ولا يمكن

التفكيك بينهما في مسيرة الإنسان التكامليّة، فلا عمل بدون عواطفَ ولا عواطفَ بدون عملٍ.

وعليه فالإنصاف يقتضي أنّه لو كانت لنا مودّةٌ حقيقيّةٌ مع النبيِّ وآله (عليهم السّلام) فمن اللازم

علينا أن نحتفل بذكرى ميلاد سبط رسول الله الإمامِ المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) كما نحتفل

بمرور السنة الهجريّة ويُهنئ بعضنا الآخر، ولو كان الاحتفال بهذه الذكرى بدعة كما يزعم البعض

فكذا الاحتفال بمرور السنة الهجريّة بدعة أيضاً، وهذا لم يردنا لا عن السُّنّة القطعيّة ولا عن
الصحابة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين