بسم الله الرحمن الرحيم
الَلهّمّ صَلّ عَلَىَ محمدوآل مُحَّمدْ الَطَيبيِن الطَاهرين الأشْرَافْ وَعجَّل فَرَجَهُم ياكريم.
﴿صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَإِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ وَفُرْسَانُ الْكِبْرِ وَالْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَاسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ.
اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَدَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ وَأَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ وَأَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَحَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَدَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَقَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَسَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَأَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَعَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ.﴾
معاني الكلمات
الحَمِيَّة: الأنَفة.
جَمَح: (الفرس) عَتَا عن أَمر صَاحبه حتَّى غلبه، و (الرجل) رَكِبَ هواه فلا يمكن ردُّه.
الطمَع: الأمل والرجاء والحرص عليه، وتستعمل غالبا فيما يقرب حصوله.
نَجَمَ الشيء: طَلَعَ وظَهَرَ.
الدلف: مشى رُوَيْداً وقارب الخَطْوَ، والناقةُ التي تنهض بحِملها.
الوَلَجَةُ: كهفٌ تستتر فيه المارَّةُ من مطر وغيره.
ورطات: كل أمر شاق يصعب التخلص منه.
أوطأه: فرسه إذا حمله عليه فوطئه وأوطأوهم جعلوهم يوطئون قهرا.
أثْخَنَهُ بِالجِرَاحِ: أَوْهَنَهُ بِإِصَابَتِهِ بِالجِرَاحِ وأضعفه.
الخزائم: جمع خزامة وهي حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير فيشدّ فيها الزّمام.
أورى: الزند أخرج ناره، وأورى النار أي أشعلها
.
هذا أنا
(هذا أنا) عبارة تتكرر من البعض حين يواجه باعتراض على سلوك غير سوي، وربما أضاف عبارة أخرى فيقول(هكذا خلقت)! أو (هكذا خلقني الله)! يريد بذلك تبرير سلوكه وأفعاله، وإقناع نفسه ومن حوله بالواقع الذي هو عليه والرضا به.
وقد يقع البعض في وحل التبرير للآخرين من منطلق المحاباة أو القبول بالأمر الواقع أو بالحمل على محامل الخير جهلا منه بالتمييز في الحمل الصحيح، فيردد هذه العبارة (لسانه متبرئ منه) ويريد منها أنه طيب القلب خير النية ولا يقصد من سقطات لسانه إلا الخير والإصلاح.
فقد يكون سبابا، شتاما، مغتابا، طعانا، يكثر من الحديث عن معائب الناس، بذيء اللسان وفاحش في القول، ومع ذلك يبرر له بتلك العبارة آنفة الذكر.
وهذه العبائر التبريرية تنطوي على مغالطات تنتهي إلى القول بالجبر وإن كان أصحابها لا يؤمنون به، إلا أنهم ومع هذه الخلفية المنتهية إلى الجبر عمليا ستتوقف عملية التغيير أو التطوير لديهم بل والتفكير فيهما.
والنتيجة الطبيعية لذلك هي المعاناة من النتائج السلبية للسلوكيات الخاطئة عندهم وربما دفعوا أثمانا غالية جراء التماهي في هذا الطريق الخاطئ.
الإنسان المسؤول
الصحيح هو أن الإنسان خلقه الله حرا مريدا مختارا ولذا فإنه مسئول عن معتقداته وأفكاره وثقافته وسلوكه وتصرفاته، وما عليه إلا أن يختار الطريق الذي يريد ولكنه في المقابل عليه أن يتحمل تبعات قراره واختياره.
قال تعالى ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ سورة البقرة، آية 256
فالاختيار بيده وهو من يقرر فيه إلا أن من أبرز وأهم المسئوليات تجاه نفسه هي حسن الاختيار والمضي فيه وإغلاق المنافذ التي يتسرب إليها التشويش أو ما يحرف الاتجاه المختار.
وهنا في هذه الخطبة المباركة يؤكد الإمام (ع) على حقيقة وهي: أن الكبر هو من أوسع المنافذ التي يتسلل الشيطان والأهواء والشهوات من خلالها. لذا فإن من أحسن اختياره ومضى في اختياره بجد واخلاص عليه أن يفر من الكبر وإلا ضاع سعيه وسقط اختياره.
حين يصدق إبليس
﴿صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَإِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ وَفُرْسَانُ الْكِبْرِ وَالْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَاسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ).
الحمية والعصبية والكبر والجاهلية وجوه وزوايا تعود إلى جذر واحد وحقيقة واحدة أي التكبر، فالحميّة مثلا"لازم من لوازم الكبر لأنّها مأخوذة من قولك: حميت. إذا غضبت. فكانت حقيقتها تعود إلى الغضب عن تصوّر المؤذى مع الترفّع على فاعله واعتقاد الشرف عليه".(١)
وهنا استعار الإمام (ع) لفظ الأبناء والاخوان والفرسان للمتلبسين برذيلة الحمية والعصبية والكبر والجاهلية ولعه أراد من الأول شدة الملازمة بينهم وبين الحمية حتى أصبحوا أثر اقتفائهم كالأبناء إليها، ومن الثاني العصبية هي الرباط الذي بنيت عليه الأخوة فيما بينهم، ومن الثالث جعله فارسا للكبر والجاهلية يعني أنه على خطر عظيم لأن فرسه هنا أشد من الفرس الجموح.
والتصديق في قوله (ع) (صدقهم) هو في الاختيار الخطأ الذي اختاره والمسلك الذي سلك فيه، وما كان ذلك ليكون إلا حين لزموا الكبر فدخل إليهم الشيطان وسلك بهم مسالك الغواية والضلال.
ولكن ذلك إنما كان نتيجة لتوافق الإنسان وإبليس، فكلما ضعف الإنسان وخارت عزائمه واعتلاه الكبر كلما أوجد في داخلة ارضية الانقياد إلى الشيطان الرجيم ﴿حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ﴾ وحينها يجد ابليس الطريق أمامه سالكا لتنفيذ مآربه وأطماعه ﴿وَاسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ﴾.
والنتيجة: ﴿فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ﴾ أي ظهر الحال من السر إلى العلن فخرج ما كان بالقوة إلى الفعل.
إذا استفحل سلطان الشيطان على أحد
﴿اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَدَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ وَأَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ وَأَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَحَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَدَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَقَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَسَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَأَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَعَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ﴾.
من يسير في خط الله الطريق واضح وبين أمامه والألطاف السماوية ترعاه وتأخذ بيده نحو النجاة، بينما الآخر الذي قرر السير في خط الشيطان فإنه يسير وهو لا يدري من أين وإلى أين لأنه في تيه وضلال.
قال تعالى ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ سورة البقرة، آية257.
فمن ينقاد إلى الشيطان فإن عليه أن ينتظر استفحال أمره أي السطوة التامة والسلطان الكامل والهيمنة من قبل الشيطان عليه وحينها سيسير في خط التسافل حتى يصل إلى الدرك الأسفل في السلوك وما يلازمها.
فجنوده يسارعون الخطى في تزيين الرذائل وتشويه الفضائل ويعملون على بث الفرقة والتباغض والتحاسد والتناحر بين الناس وذلك تمهيدا للعنف والقتل والإرهاب، وما ذلك إلا إلى المزيد من الذل والهوان وصولا إلى النار.
قال الميرزا حبيب الله الخوئيّ: (1268هـ ـ 1324هـ): (فأصبح أعظم في دينكم جرحا وأورى في دنياكم قدحا)أي صار أكثر إخراجا للنار من حيث إخراجه لها أو من حيث الطعن في دنياكم والثاني أظهر.
فلذلك كان جرحه وقدحه أعظم وأشدّ (من الذين أصبحتم لهم مناصبين وعليهم متألّبين) أي من أعدائكم الذين نصبتم لهم العداوة وبالغتم في عداوتهم، وتجمّعتم أي اجتمعتم من ههنا وههنا على قتلهم وقتالهم واستئصالهم دفعا لشرّهم عنكم. (٢)