بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
لكل إنسان أجلان موقوف ومحتوم
المسألة: البعض يقول عندما يموت شخص بسبب مرض معين أو يموت مقتولا انَّ اجله قد حان أو انتهى وإنَّ الحي لا يموت إلا في وقته وساعته. ولكن آخرين يقولون: انَّ ذلك غير صحيح وإنَّ اجل ذلك الشخص مثلا لم يحن ولكن بسبب القتل أو المرض مات ذلك الشخص ولو لم يُقتل أو لم يمرض لعاش أكثر من ذلك. فأيهما صحيح شرعا.
الجواب: الصحيح كما هو المستفاد من القرآن الكريم والروايات الواردة عن أهل البيت (ع) أن للإنسان أجلين أحدهما عبرَّت عنه الروايات بالأجل الموقوف والآخر هو الأجل المحتوم وهو الذي عَّبر عنه القرآن بالأجل المسمَّى في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ﴾(1) وهو الذي عنته الآية المباركة من سورة يونس: ﴿إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾(2).
فالأجل الموقوف: هو الذي قدَّره الله تعالى على عباده بنحو الإقتضاء، ولهذا قد يتفق تقدُّمه نظرًا لعروض مانعٍ يحول دون استيفاء الإنسان لأجله المقدَّر بنحو الاقتضاء. وقد يتفق تأخُّره، لأنه قد فعل ما يستوجب منحه من قبل الله عز وجل عمرًا زائدًا على ما كان قد قُدَّر له بنحو الاقتضاء، فالأجل الموقوف إذن هو المدة التي قُدَّر أن يعيش فيها الإنسان في هذه الحياة بشرط عدم طروء ما يمنع من استيفائها أو ما يُوجب امتدادها لزمنٍ أطول. فإذا لم يطرأ ما يمنع من الاستيفاء أو ما يُوجب الامتداد كان أجل الإنسان هو ما كان قُدَّر له بنحو الاقتضاء.
وأما الأجل المحتوم والذي عبَّر عنه القرآن الكريم بالأجل المسمى فهو الذي لا يتخلَّف، فلا يطرأ عليه تقديم ولا تأخير.
وبتعبير آخر:
هو الأجل الفعلي المُنجَز الذي قضاه الله على عبده لعلمه بأنَّ شرائط وقوعه سوف تتحقق وموانع حدوثه ستكون منتفيه. وهذا النحو من الأجل قد يتفق اتحاده مع الأجل الموقوف، وقد يتقدمه وقد يتأخر عنه.
ويمكن التوضيح للفرق بين الأجلين بهذا المثال:
وهو أنَّ أحدًا لو كان له مولود وكانت بُنيته الجسدية والأجواء التكوينية المحيطة به مقتضية لبقائه مائة سنة، فيمكن أن نفترض أن عمره سيمتدُّ إلى مائة سنة فيكون هذا هو أجله الذي قُدَّر له إلا أن هذا الأجل المقدَّر ليس فعليًا وإنما هو اقتضائي، ولذلك فهو مشروط مثلاً بعدم طروء عارضٍ من مرضٍ أو غرقٍ أو قتل، فلو طرأ مثل ذلك فإنَّ المدة التي قُدَّر له أن يبقى فيها حيًا سوف تنقص.
وكذلك قد تطول المدة عن الأجل المقدَّر اقتضاءً ولكن بشرط أن ينتقل مثلاً إلى أجواءٍ تُضفي على بُنيته قوةً تُؤهله للبقاء أزيد مما كان قد قُدَّر له.
فالأجل الذي افترضناه مائة سنة هو المعبَّر عنه بالأجل الموقوف، والأجل الذي ترتَّب عليه الموت فعلاً هو المعبَّر عنه بالأجل المحتوم والمسمَّى، وكلا الأجلين مكتوبان ومقدران إلا أن الأول قد يتخلَّف وأما الثاني فهو لا يتخلَّف، فالله تعالى وإن كان قد قدَّر للإنسان عمرًا إلا أنه يعلم أن هذا الإنسان سوف لن يستوفي ذلك العمر المقدَّر لأنه سيُقتل أو أنه سيطرأ عليه مرض عارض فيموت بسببه، فهذا الموت الإخترامي هو من الأجل المحتوم، وكذلك قد يُوشك الإنسان على استيفاء العمر الذي قُدِّر له فيصل رحمه أو يبرُّ والديه فيمدُّ الله في عمره. فالأجل المحتوم لهذا الإنسان هو هذا الذي مات بعده والذي هو أطول من الأجل الذي كان قد قُدِّر له بنحو الاقتضاء.
وهذا الذي ذكرناه من الفرق بين الأجلين هو المستفاد من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) والمتصدية لبيان معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ﴾(3).
منها: ما رواه العياشي عن حمران قال: سألت أبا عبد الله عن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ﴾. قال: فقال: هما أجلان: أجل موقوف يصنع الله ما يشاء وأجل محتوم، وفي رواية: أما الأجل الذي غير مسمى عنده فهو أجل موقوف يقدِّم فيه ما يشاء ويؤخِّر فيه ما يشاء، وأجل محتوم.
ومنها: ما ورد في تفسير العياشي أيضاً عن حمران عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن قول الله تعالى ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ﴾ قال (ع): المسمَّى ما سُمِّي لملك الموت في تلك الليلة، وهو الذي قال الله ﴿إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾(4)، وهو الذي سمى في ليلة القدر.
ومنها: ما ورد في تفسير العياشي أيضاً عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (ع) في قوله: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ﴾ قال: الأجل الذي غير مسمَّى موقوف يقدِّم منه ما يشاء ويؤخِّر منه ما يشاء، وأما الأجل المسمى فهو الذي ينزل مما يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها من قابل، فذلك قول الله: ﴿إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾.
ويمكن أن يُستفاد هذا الفرق الذي ورد بين الأجلين من قوله تعالى: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾(5) فالمحو لا يكون إلا لما هو مكتوب، والإثبات هو الإبقاء على ما هو مكتوب ثم إنَّ عنده تعالى أمُّ الكتاب والذي فُسِّر في الروايات بالقضاء المحتوم.
ورد في تفسير العياشي عن عمار بن موسى عن أبي عبد الله (ع) إنَّه سئل عن قول الله تعالى: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قال: إنَّ ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء ويُثبت فمِن ذلك الذي يردُّ الدعاءُ القضاءَ، وذلك الدعاء مكتوب عليه الذي يُردُّ به القضاء حتى إذا صار إلى أمِّ الكتاب لم يغنِ الدعاءُ فيه شيئاً".
كما يمكن أن يُستدل على أنَّ ثمة أجلين بآيات عديده، فمنها قوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾(6) فقوله ﴿وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ﴾ معناه أن لهذا الإنسان عمراً مقدَّراً إلا إنه قد أُنقص مما كان قد قُدِّر له من عمر، إذْ لا معنى للإنقاص إلا أن يكون ثمة حدٌ مقدَّر لم يتم استيفاؤه، وقد أفادت الآية أن كلاً من الاستيفاء وعدم الاستيفاء للعمر مكتوب عنده تعالى أي أنه مقدَّر عنده تعالى. غايته أن أحدهما حتمي الوقوع وهو المقدَّر- كما في الروايات - في اللوح المحفوظ والآخر اقتضائي قد يتخلَّف وهو المقدَّر في لوح المحو والإثبات.
وهنا تجدر الإشارة إلى ما يُمكن أن يكون منشأً لجعل الأجلين، وهو يتضح بالتأمل في الأثر الذي يترتب على شعور الإنسان بأنَّ له أجلاً محتوماً سواءً عليه سعى من أجل تغييره أو لم يسعَ، إنَّ شعوراً من هذا القبيل لو انتاب إنساناً فإنه سيُصاب باليأس والإحباط، فلو أنَّ هذا الشعور استحكم في نفوس كلِّ الناس فإن الحياة ستُصاب حتماً بالشلل التام. فلا المريض سيسعى من أجل أن يُعافى من مرضه ولن يتصدَّى أحدٌ للبحث عن الأدوية الناجعة لعلاج الأمراض، لأن من غير الممكن أن يتغيَّر واقعٌ عن واقعه، ولا معنى لأن يُراعى الطفل ويُحتضن لأنه سوف يستوفي أجله على أيِّ تقدير، ولا معنى للبحث عن الرزق فسواءً أكل الإنسان أو لم يأكل فإنه لن يموت إلا في الوقت المقدَّر له، ولا معنى لأنْ يحتمي الإنسان من الآفات الكونية ويبتكر ما يُساهم في المزيد لحمايته لأنَّ شيئاً لن يحميه من أجله المحتوم.
وهذا على عكس ما لو شعر الإنسان بأن واقعه يمكن تغييره وإنَّ عناءه يمكن أن يتحَّول إلى رخاء وإنَّ عمره يُمكن أن يطول وإنَّ ثمةَ أسباباً تقتضي إطالة العمر لو أخذ بها، وأسباباً تمنع من تأثير الآفات المقتضية لبتر العمر فيسعى من أجل تحصيلها أو ابتداعها فتكتسب الحياة بذلك فاعليَّة وحيويَّة.
وإذا شعر الإنسان أنَّ الله تعالى سيمنحه أجلاً طويلاً إذا أحسن لوالديه ووصل أرحامه وقضى حوائج إخوانه فإن ذلك سيبعثه نحو المسارعة إلى فعل الخيرات والمبرَّات، وهو ما يُنتج التقويم للبناء الاجتماعي وتقوية أواصره، وهكذا حينما يعلم بأن بعض الذنوب تقصم العمر وتبتر الاجل فإنه سيُحجم عنها حرصاً على حياةٍ أطول، ولذلك جاءت الآيات والروايات لتؤكد هذا الشعور لما له من أثر بالغ الأهمية على انتظام الحياة وفاعليتها وتكامل الإنسان فيها.
قال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾(7) ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ﴾(8) فالسير في الأرض والاستفادة من تجارب الماضين والإيمان والتقوى كلُّ ذلك يُساهم في تغيير واقع الإنسان الاقتضائي ويُساهم في تنميته وتحسينه، ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: "يعيش الناس بإحسانهم أكثر مما مما يعيشون بأعمارهم ويموتون بذنوبهم أكثر مما يموتون بآجالهم" وعن الإمام علي (ع) أنه قال: "بالصدقة تُفسح الآجال".
والحمدلله رب العالمين