آية التطهير وعصمة أهل البيت (ع)

المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج4 ، ص 125 ـ 129
الصفحة 125
3ـ آية التطهير وعصمة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ
هناك آية أُخرى تدلّ على عصمة عدّة خاصة من أهل بيت النبي الأكرم .
يقول سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (1).
و أداء حقّ الآية في التفسير ، يتوقف على البحث عن النقاط التالية:
1 ـ ما هو المراد من الرّجس؟
2 ـ هل الإرادة في الآية ، إرادة تكوينية خاصة بأهل البيت ، أو تشريعية
تعمّ كلّ إنسان بالغ واقع في إطار التكليف؟
3 ـ مَن المراد من أهل البيت؟
4 ـ مشكلة السياق في الآية لو كان المراد منهم غير نسائه ـ صلوات الله عليه
وآله وسلم ـ .
5 ـ أهل البيت في حديث النبي ، الذي يكون مفسّراً لإجمال الآية.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــ

(1) - سورة الأحزاب: الآية 33.
الصفحة 126
والبحث عن هذه الأُمور يحوجنا إلى تأليف مفرد ، وهو خارج عن وضع كتابنا (1) ، إلاّ أنّ المهم هنا هو التركيز على أنّ الإرادة في الآية تكوينية ، خاصة بأهل البيت ، وليست تشريعية ، وأمّا المقصود من أهل البيت ، فقد تقدّمت
المأثورات فيهم عند البحث عن حديث الثقلين.
الإرادة تكوينية لاتشريعية إنّ انقسام ارادته سبحانه إلى القسمين المذكورين ، من الانقسامات الواضحة ، ومجمل القول فيهما أنّه إذا تعلقت إرادته سبحانه على إيجاد شيء وتكوينه في صحيفة الوجود ، فالإرادة تكوينية لا تتخلف عن المراد.
قال سبحانه : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2).
و أما إذا تعلّقت بتشريع حكم وقانون ، لفرض عمل المكلّف به ، فالإرادة تشريعية ، ومتعلّقها هو التشريع ، وأمّا امتثال المكلف فهو من غايات التشريع ، ربما يقع ويترتب عليه ، وربما ينفك عنه.
و القرائن تدلّ على أنّ المراد هنا هو الأوّل من الإرادتين ، بمعنى أنّ إرادته سبحانه ، تعلّقت على إذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم من كل شيء يتنفر منه ، على غرار تعلق إرادته بإيجاد الأشياء في صحيفة الوجود
و الذي يدلّ على ذلك أُمور:
1ـ إنّ الإرادة التشريعية لا تختص بطائفة دون طائفة ، بل هي تعمّ
المكلّفين عامة ، يقول سبحانه ، بعد أمره بالوضوء والتيمم عند فقدان الماء:
{ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (3).
ـــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) - قد أفاض الشيخ الأُستاذ الكلام في هذه المواضيع في موسوعته التفسيريّة ، مفاهيم القرآن : ج 5 ،
ص 215 ـ 322.
(2) - سورة يس: الآية 82.
(3) - سورة المائدة: الآية 6.
الصفحة 127
ولكنّه سبحانه خصّص إرادته في الآية المبحوث عنها ، بجمع خاص ، تجمعهم كلمة أهل البيت ، وخصّهم بالخطاب وقال{ عَنْكُمْ ... أَهْلَ الْبَيْتِ } ، أي لا غيركم ، فتخصيص الإرادة بجمع خاص على الوجه المذكور ، يمنع من
تفسيرها بالتشريعية.
2ـ إنّ العناية البارزة في الآية المباركة ، أقوى شاهد على أنّ المقصود هو التكوينية ، لوضوح أنّ تعلّق الإرادة التشريعية لا يحتاج إلى العنايات التالية:
أ ـ ابتداء سبحانه كلامه بلفظ الحصر ، وقال: { إِنَّمَا } ، ولا معنى للحصر
إذا كانت تشريعية ، لعمومها لكلّ مكلّف.
ب ـ عيّن تعالى متعلّق إرادته بصورة الاختصاص ، فقال : { أَهْلَ الْبَيْتِ } ، وهو منصوب على الاختصاص (1). أي أخصّكم أهل البيت.
ج ـ قد بيّن متعلق إرادته بالتأكيد ، وقال بعد قوله: { لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ } ، ( ليطهركم ) .
د ـ قد أكّده بالإتيان بمصدره بعد الفعل ، وقال: { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } ،
ليكون أوفى في التأكيد.
هـ ـ إنّه سبحانه قد أتى بالمصدر نكرة ، ليدلّ على الإكبار والإعجاب ، أي تطهيراً عظيماً معجباً.
و ـ إنّ الآية في مقام المدح والثناء ، فلو كانت الإرادة تشريعية ، لما ناسب الثناء والمدح.
و على الجملة : العناية البارزة في الآية ، تدلّ بوضوح على أنّ الإرادة في المقام تغاير الإرادة العامة المتعلقة بكلّ إنسان حاضر ، أوباد. وللمحقّقين من الشيعة الإمامية كلمات وافية حول الآية تلاحظ في مواضعها (2).
ـــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) - الاختصاص من أقسام المنادى ، يقول ابن مالك:
الاختصاص كنداء دون يا * كأيّها الفتى بإثر ارجونيا
(2) - تفسير التبيان : للشيخ الطوسي ، ( ت 383 ـ م 460) ، ج 8 ، ص 340. ومجمع البيان :
=
الصفحة 128
فالإرادة في الآية الشريفة ، نظير الإرادة الواردة في الآيات التالية:
{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (1).
{ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} (2).
{ وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3).
وأمّا دلالتها على العصمة : فتظهر إذا اطّلعنا على أنّ المراد من الرجس هو القذارة المعنوية لا المادية. توضيح ذلك : إنّ الرجس في اللغة هو القذر (4) ، وقد يعبّر به عن الحرام ، والفعل القبيح ، والعذاب ، واللعن ، والكفر ، قال
الزجاج : « الرّجس ـ في اللغة ـ كل ما استقذر من عمل ، فبالغ الله في ذمّ أشياء سماها رجساً » . وقال ابن الكلبي : « رجس من عمل الشيطان ، أي مأثم » (5).
والمتفحص في كلمات أئمة أهل اللغة ، والآيات الواردة فيها تلك اللفظة ، يصل إلى أنّها موضوعة للقذارة التي تنفر منها النفوس ، سواء أكانت مادية كما في قوله تعالى: { إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ
رِجْسٌ } (6) . أو معنوية كما في الكافر وعابد الوثن ، وصنمه ، قال سبحانه:
{ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ } (7).
=
للشيخ الطبرسي ، ( ت 471 ـ م 548) ، ج 4، ص 307. ورياض السالكين : للسيّد علي المدني (م 1118)، الروضة 47، ص 497.
(1) - سورة القصص: الآية 5.
(2) - سورة الأنفال: الآية 7.
(3) - سورة المائدة: الآية 41.
(4) - مقاييس اللغة : ج 2، ص 490، ولسان العرب : ج 6 ص 94.
(5) - لسان العرب : ج 6، ص 94.
(6) - سورة الأنعام: الآية 145.
(7) - سورة الحج: الآية 30.
الصفحة 129
وقال سبحانه : { كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (1)
فلو وصف العمل القبيح بالرجس ؛ فلأنّه عمل قذر ، تتنفر منه الطباع السليمة.
وعلى ضوء هذا ، فالمراد من الرّجس في الآية ، كلّ عمل قبيح عرفاً أو شرعاً ، لا تقبله الطباع ، ولذلك قال سبحانه بعد تلك اللفظة : { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } ، فليس المراد من التطهير ، إلاّ تطهيرهم من الرجس المعنوي الذي
تعدّ المعاصي والمآثم من أظهر مصاديقه.
وقد ورد نظير الآية في حق السيّدة مريم ، قال سبحانه : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} (2).
ومن المعلوم أنّ تعلّق الإرادة التكوينية على إذهاب كلّ رجس وقذارة ، وكلّ عمل منفّر عرفاً أو شرعاً ، يجعل مَن تعلّقت به الإرادة، إنساناً مثالياً ، نزيهاً عن كل عَيْب وشَيْن ، ووصمة عار (3).
إلى هنا ظهر بوضوح أنّ العصمة شرط للإمام بالمعنى الذي يتبنّاه الإمامية في مجال الإمامة ، والآيتان الأوليان تدلاّن على عصمة الإمام مطلقاً ، والآية الثالثة تدلّ على عصمة أهل البيت الذين نزلت فيهم الآية ، وفسّرت في غير واحد من
الروايات ، وهم مَن كان إماماً وخليفةً للرسول كعلي والحسنين ـ عليهما السَّلام ـ ، ومَن كانت طاهرةً مطهّرةً كالسيّدة فاطمة الزهراء ـ عليها السَّلام ـ ، وإن لم تكن إماماً