بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

«اليقين» يقابل «الشك»، كما إنّ «العلم» يقابل «الجهل»، واليقين يعني وضوح الشيء وثبوته. ويستفاد من الرّوايات أنّ اليقين هو أعلى مراحل الإيمان
جاء في الحديث المأثور عن الامام الباقر - عليه السلام عن اليقين حيث قال :
( انما هو الاسلام ، و الايمان فوقه بدرجة ، و التقوى فوق الايمان بدرجة ، و اليقين فوق التقوى بدرجة ، و لم يقسم بين الناس شيء أقل من اليقين " قال الراوي : قلت : فأي شيء اليقين ؟ قال : " التوكل على الله ، و التسليم لله ، و الرضا بقضاء الله ، و التفويض الى الله)
هكذا جعل الامام أسمى درجات الايمان و أشرفها اليقين ، مما يدل على ان اليقين هو : طهارة القلب من دنس الشرك و الشك و الظنون ، و سائــر وساوس ابليس و همزاته .
وجاء في حديث آخر تفسير اليقين بالتغلب على خوف المخلوق
قال الامام الصادق - عليه السلام - : ليس شيء إلا وله حد " فقال الراوي : فما حد التوكل ؟ قال الامام - عليه السلام - : " اليقين " فقال السائل : فما حد اليقين ؟
قال الامام - عليه السلام - : ( ألا تخاف مع الله شيئا )
أرأيت الذي يصلي و قلبه متصل بنور الله ، و نفسه طاهرة من الرياء ، و العجب و الاستكبار ، و يجاهد ، و نيته لله وحده ، كمن يصلي و قلبه مليء بالوسواس ، و يزكي رياء ، و يجاهد للاستعلاء في الارض ؟!
لذلك كان أئمة الهدى - عليهم السلام - يجأرون الى الله في طلب الزيادة من اليقين ، و يحثون اتبــاعهم علــى مثـل ذلك ، هكذا جاء في الحديث : كان علي بن الحسين ( الامام زين العابدين عليه السلام ) يطيل القعود بعد المغرب يسأل الله اليقين .
و روي عن الامام أمير المؤمنين - عليه السلام - أنه قال في خطبة له : " أيها الناس ! سلوا الله اليقين ، و ارغبوا اليه في العافية ، فإن أجل النعمة العافية ، و خير ما دام في القلب اليقين ، و المغبون من غبن دينه ، و المغبوط من غبط يقينه "
ولا يبلغ الانسان درجة اليقين إلا بعد العروج في درجات التسليم و الايمان و التقوى و كلها تقتضي المزيد من العمل الصالح و الخالص لوجه الله و المنبث على سائر جوارح البدن ، و جوانح النفس ، و حتى بعد الحصول على اليقين عليه ان يسعى جاهدا حتى يتجاوز عقد الشك و الإرتياب بالتفكر و التعلم و الدعاء . ألا ترى كيف سعـــى إبراهيم نحو اليقين حين سأله ربه سبحانه قائلا : " رب أرني كيف تحيي الموتى " . فلما قال له ربه : " أولم تؤمن قال بلى و لكن ليطمئن قلبي " . و لم يكن في قلبه ذره شك و لكنه حسب حديث مأثور عن الامام الرضا - عليه السلام - " أراد من الله الزيادة في يقينه
و علامة صدق اليقين دوام الاستقامة على صراط الحق ، وألا يتخذ الانسان وليجة من دون الله و رسوله ، و يكون مستعدا لكل تضحية و في كل موقع . أولا سمعت قصة الأعرابي الذي جاء الى رسول الله و قال : يا رسول الله بايعني على الاسلام فقال له الرسول - صلى الله عليه وآله - .( على أن تقتل أباك " . فكف الأعرابي يده ، و أقبل رسول الله - صلى الله عليه وآله - على القوم يحدثهم)
وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) قال: «من صحة يقين المرء المسلم أن لا يرضي النّاس بسخط اللّه، ولا يلومهم على ما لم يؤته اللّه... إنّ اللّه بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط».
ومن هذه النصوص وأمثالها نفهم جيداً أنّ الإنسان ـ حين يصل إلى مقام اليقين ـ تغمر قلبه وروحه طمأنينة خاصّة.
ومع هذا، فلليقين مراتب، أشارت إليها الآية أعلاه والآية (95) من سورة الواقعة:
(إنّ هذا لهو حق اليقين)، وهي ثلاثة:
1 ـ علم اليقين: وهو الذي يحصل للإنسان عند مشاهدته الدلائل المختلفة، كأن يشاهد دخاناً فيعلم علم اليقين أن هناك ناراً.
2 ـ عين اليقين: وهو يحصل حين يصل الإنسان إلى درجة المشاهدة كأن يرى بعينه مثلاً النّار.
3 ـ حقّ اليقين: وهو كأن يدخل الإنسان النّار بنفسه ويحسّ بحرقتها، ويتصف بصفاتها. وهذه أعلى مراحل اليقين.
ذكر عند النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ بعض أصحاب عيسى(عليه السلام) كان يمشي على الماء فقال(صلى الله عليه وآله وسلم):
«لو كان يقينه أشدّ من ذلك لمشى على الهواء»
فالحديث ـ كماترى ـ يوميء إلى أنّ الأمر يدور مدار اليقين باللّه سبحانه ومحو الأسباب الكونية عن الإستقلال في التأثير، فإلى أي مبلغ بلغ ركون الإنسان إلى القدرة المطلقة الإلهية انقادت له الأشياء على قدره.
ان اليقين نقطة التقاء العلم بالإرادة ، كما ان الايمان : التسليم و الاذعان للعلم ، و عزم و عقد عزمات القلب علىقبول مشاهدات العلم مهما بلغ الثمن ، و هذا لا يكون بمجرد ظهور آيات الحقيقة للنفس ، بل و ايضا بتصديق النفس لها ، و السكون اليها ، و لذلك يكون يقين المؤمن بالغيب أشد من علم الكافر بالشهود ، و يبلغ اليقين ببعضهم حدا يعايشون الغيب بكل جوارحهم ، و يقول أميرهم الامام علي - عليه السلام - : " و الله لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا " و يقول في صفة المؤمنين :
(فهم و الجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون ، و هم و النار كمن قد رآها فهم فيها معذبون )
وبالطبع فانّ حق اليقين تمثل المرحلة الأخيرة، وهى مرحلة شهود الإنسان الكاملى لعالم الغيب على غرار مشاهدته لضوء الشمس، وهى المرحلة التي بلغها أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) حين قال: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا»
وقد جاء في الحديث أن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: «ألا إنّ الناس لم يعطوا في الدنيا شيئا خيراً من اليقين والعافية، فاسئلوهما اللّه»
وقال أميرالمؤمنين علي(عليه السلام):
(ما أعظم سعادة من بوشر قلبه ببرد اليقين)
ومن الطبيعي أنّ الوصول إلى هذا المقام يتطلب من الإنسان إجتياز طريق صعب شائك بحيث لايغفل طرفة عين فيه عن اصلاح نفسه وتهذيبها، ويشفع أولياءاللّه في نفسه ويلهج قلبه قبل لسانه ببعض ما ورد في الأدعية الشعبانية: «إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، ونر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا ملعقة بعز قدسك».
أخيرا روي عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) في كيفية الوصول إلى اليقين، فقد قال(عليه السلام):
(أين الموقنون؟ الذين خلعوا سرابيل الهوى، وقطعوا عنهم علائق الدنيا).