الخلق
من جملة الأسئلة المطروحة في مجال الخلق هو السؤال التالي :
هل الله سبحانه بإرادته خلق الأشياء بإفاضة الوجود إليها أم أن الفيض انتشر منه تعالى بنحو جبري من غير الإرادة كانبثاق النور من الشمس ؟
أقول : لا شكَّ أنَّ جميع الموجودات قد صدرت منه تعالى بالإرادة والقصد لا بالجبر والقهر وهذا الأمر يحتاج إلى شرحٍ وإيضاح فنقول :
النور
لا تَقلُّ أهميَّةُ النور في فهم و تنوير الحقائق المعنوية و المعارف الإلهيَّة عن أهميَّته في تنوير الأجسام و الأجرام المادية1 فالخلق ليس هو إلاّ إشعاع النور المطلق على الكيانات المكتومة و الماهيات المظلمة1 وهذا ما تُبيِّنه آية النور ذات المحتوى العرفاني العميق الذي من أجلها سمِّيت السورة بأجمعها بهذا الاسم2.
قال تعالى :
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ... }3
وينبغي أن لا ننسى أنَّ هذا ليس هو إلاّ مثالٌ ، فلا نظنّ بأن الله هو بالفعل نور بالمفهوم الذي نتصوره نحن بذهننا القاصر ،كيف وهو خالق النور ومُنَور النور وربّ النور ! كم من فرق بين الممثَّل الذي هو نور الوجود والمثال الذي هو النور الحسِّي . إليك بعض تلك الفروق:
الأوَّل : النور الحسي قائم بغيره ونور الوجود قائم بذاته
توضيح ذلك : إن النور الحسي له ماهية ووجود ، وحيث أنَّ الأصالة و الحقيقة تعني الوجود4 فالنور لا يتحقق بذاته أي مستقلا عن الوجود بل هو كغيره من الموجودات فقير إليه ، فبفضل الوجود أصبح النور نوراً و منوَّراً ، فلا يمتاز النور على سائر الموجودات من هذه الناحية أعني الفقر الذاتي
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }1
بل المستوى الوجودي للنور أقل من سائر الموجودات حيث أنَّه ليس في أفق الإنسان و لا الحيوان و لا النبات و لعلَّه يعدُّ من الجمادات ، و الحاصل أنَّ النور الحسِّي هو مظهر من الوجود ( النور المطلق ) وقائم به ، ولولا الفيض الدائم المستمر عليه لما كان له أي اعتبار و كيان كما سيأتي زمانٌ تنعدم فيه الأنوار
{ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ }2
الثاني : إن النور الحسي تظهر به المبصرات فقط وأما المسموعات مثلاً فلا يكشفها النور الحسي بل حتَّى المبصرات لا ترى من جميع زواياها و جوانبها من خلال النور الحسِّي بل يمكن رؤيتها على مستوى واحدٍ فقط ، و هو سطح الأشياء وأمّا عمقها فليس للنور أيَّة سلطة عليها .
وأمّا نور الوجود فتظهر به المبصرات والمسموعات و المتذوقات و المشمومات والملموسات والمتخيلات و المعقولات وما وراء الحس و العقل . فالوجود هو الذي يُظهرها جميعاً و هو ظاهر بنفسه . فالمسموع لا يسمع إلا بالوجود ، فلو لم يكن الصوت موجوداً لما سُمع ، ولو لم يكن الطعم موجوداً لما تُذوِّق فكلُّ شيء ببركة الوجود يكون له أثرٌ و انعكاس ، سواء الوجود العيني أو الوجود الذهني3.
الثالث : ما أشرنا إليه في الأمر السابق أنَّ الوجود مسيطر على كل شيء باطنه و ظاهره ، فماذا يبقى إذاً للشيء ؟
بما أنَّ النور الحسِّي يسلط ضوءه على ظواهر الأشياء فتبقى البواطن على حالها خارجة عن نطاق النور ، و لكن إذا كان الوجود هو الذي أظهر جميع الأشياء سطوحها و بواطنها ، فأيُّ شيء يبقى خارجاً عن مملكته وما ذا بعد الحق ( وهو الوجود المطلق ) إلاّ الضلال المبين ! هو الأوَّل والآخر و الظاهر والباطن وهو معكم أينما كنتم وقيام كل شيء به تعالى :
{ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }1
فكلُّ شيءٍ ميِّت و هو الحي وكلُّ شيء فقير و هو الغني القائم و الشاهد و المحيط بكل شيء