دعائم العدالة عند الإمام أميرالمؤمنين عليه السلامما أطيبَ اسم العدل على النفوس المظلومة، وهو الوسام الذي يتشرّف به الحاكم، والأمل الذي يتلهّف إليه الضعيف المظلوم. والعدالة هي من أصعب القوانين الإنسانيّة في التطبيق؛ لأنّها تصطدم بنزعاتِ الأقوياء وأهواء الأغنياء، فهي لذلك تتطلّب الإيمان بالله تعالى واليوم الآخِر إيماناً صادقاً، ولا تنهض إلاّ بالتقوى واستحضار رقابة الله جلّ وعلا في الضمير في كلّ وقت وكلّ واقعة، كما تتطلّب العدالةُ عزوفاً عن المحرّمات والأهواء، ونزعاً لحبّ الدنيا والتعلّق بها من القلب، وتحتاج إلى إرادة قويّة تتغلّب على كلّ هاجسٍ شيطانيّ، وعصبيّة جاهليّة، وغضبٍ جنونيّ، وتستلزم العدالةُ صبراً على ما قد تجرّه على مُقيمها من سخط الناس وعداواتهم!
ولقد أخذت العدالة أزهى صورها في سيرة الإمام عليّ عليه السلام؛ إذ كان أخشى الناس لله تبارك شأنه، وكان أتقى الناس وأزكاهم، فضلاً عن كونه أقضاهم ـ كما أقرّ الصحابة بذلك ـ، ولم يكن يبتغي إلاّ مرضاة ربِّه عزّوجلّ، فلم يُبالِ أنّ تلك العدالة التي أقامها والتزم بها قد نغّصت عليه حياته الشريفة، أو سلبته الراحة والاستقرار من عيشه وحكومته، أو جرّت عليه الحروب والنوائب والمصاعب والنكبات، وهو القائل سلامُ الله عليه: «ما تركَ الحقُّ لي مِن صديق»، ومع ذلك كان سلام الله عليه مُصرّاً على إقامة الحقّ إرضاءً لخالقه وإن سخط المخلوقون، فهو القائل صلوات الله عليه من قائل: «لا يَزيدُني كثرةُ الناسِ حَولي عِزّةً، ولا تَفرُّقُهم عنّي وحشةً» (الكتاب 36 من نهج البلاغة)، بل كان يوصي قائلاً: «أيُّها الناس، لا تستوحشوا في طريقِ الهدى لقلّةِ أهلِه» (الخطبة 201 من نهج البلاغة).
ولا غروَ في ذلك، وأمير المؤمنين عليه السلام هو أديبُ رسول الله صلّى الله عليه وآله، ورسول الله أديب الله عزّ شأنه، وقد قال في خطبته القاصعة، الناصعة: «وقد عَلِمتُم موضعي من رسول الله صلّى الله عليه وآله بالقرابة القريبة، والمنزلة الخَصيصة. وَضَعني في حِجْره وأنا ولدٌ يَضُمُّني إلى صدره، ويَكنُفُني في فراشه، ويُمِسُّني جسَدَه، ويُشِمُّني عَرْفَه...
ولقد كنتُ أتَّبِعُه آتِّباعَ الفَصِيلِ أثَرَ أُمّه، يَرفع لي في كلِّ يومٍ مِن أخلاقه عَلَماً، ويأمرُني بالاقتداءِ به. ولقد كان يُجاورِ في كلِّ سنةٍ بِحِراء فأراه ولا يَراه غيري، ولم يَجمَع بيتٌ واحدٌ يومئذٍ في الإسلام غيرَ رسول الله صلّى الله عليه وآله، وخديجةَ وأنا ثالثُهما، أرى نورَ الوحي والرسالة، وأَشُمُّ ريحَ النبوّة.
ولقد سَمِعتُ رنّةَ الشيطانِ حين نزَلَ الوحيُ عليه صلّى الله عليه وآله، فقلت: يا رسولَ الله، ما هذه الرنّة ؟ فقال: هذا الشيطانُ قد أَيِس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلاّ أنّك لستَ بنبيٍّ ولكنّك لَوزير، وإنّك لَعلى خير» (الخطبة 192 من نهج البلاغة).
وأيُّ خيرٍ ذلك وقد أقرّه الصادق المصدَّق محمّدٌ المصطفى صلّى الله عليه وآله؟! إنّه الخير الأكمل، والأفضل، والأشمل، فهو كلُّ خير، ومِن ذلك الخير حُكمُه بالحقّ والعدل كما أراد الله تعالى وقضى وحكم، لا كما يريد أصحاب الأهواء المريضة، وأهل النفاق والعصبيّات الجاهليّة السقيمة، وذَوُو المطامع والشهوات المتمادية!
إنّ الإمام عليّاً عليه السلام لم يَعش إلاّ في بيت الوحي والرسالة، ولم يُرافق إلاّ النبوّة المحمّدية الخاتمة، على خلاف بقيّة الصحابة، فما فتح عينَيه الطاهرتين إلاّ في وجه أشرف الخلق رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومِن هنا قال فيه: «أنا أديبُ الله، وعليٌّ أديبي» ( مكارم الأخلاق لأبي نصر الحسن بن الفضل الطبرسي:17).. ومن هنا أيضاً قال عليه السلام: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أدَّبَه الله عزّ وجل، وهو عليه السلام أدَّبَني، وأنا أُؤدِّب المؤمنين، وأُورِّثُ الآدابَ المُكْرَمين» ( تحف العقول لابن شعبة الحرّانيّ:119 ).
وهنا يحسن أن نذكر لابن أبي الحديد قوله في (شرح نهج البلاغة): (كان عليٌّ عليه السلام محظوظاً من دون الصحابة بخلواتٍ كان يخلوها مع رسول الله لا يطّلع أحدٌ من الناس على ما يدور بينهما، وكان كثيرَ السؤال للنبيّ عن معاني القرآن، وإذا لم يسأل ابتدأه النبيّ بالتعليم، ولم يكن أحدٌ من أصحاب النبيّ كذلك).
ولا يمكن لأحدٍ منهم أن يكون كذلك، كيف وهو الذي امتلأ إيماناً وهدىً ونوراً وعلماً، وخشيةً من الله تعالى وتقوىً وطاعةً لربّه جَلّ وعلا ؟! وهو القائل: « إنّ العدلَ ميزانُ الله سبحانه الذي وَضَعَه للخَلْق، ونَصَبَه لإقامةِ الحقّ، فلا تُخالِفْه في ميزانِه، ولا تُعارضْه في سلطانِه» (غرر الحكم للآمدي:103)، فيصرّح هو صلوات الله عليه أنّ الظلم يعني مخالفةَ الله في ميزانه، ومعارضتَه في سلطانه، وأمير المؤمنين أخشى لله من أن يخطر له ظلم ولو مَلَك به الدنيا أضعافاً، وهو القائل سلامُ الله عليه مِن قائل: «واللهِ لو أُعطِيتُ الأقاليمَ السبعةَ بِما تحتَ أفلاكها، على أن أَعصيَ اللهَ في نملةٍ أسلُبُها جُلْبَ شَعيرةٍ ما فعلتُه. وإنّ دُنياكم عندي لأهونُ مِن ورقةٍ في فمِ جَرادةٍ تَقضَمُها. ما لِعليٍّ ولنعيمٍ يَفنى، ولذّةٍ لا تبقى ؟! نعوذُ باللهِ مِن سُبات العقل، وقُبحِ الزَّلَل، وبه نستعين» (الخطبة 224 من نهج البلاغة).