بسم الله الرحمن الرحيمإعلم أن مساوئ الأخلاق كلها إنما تعالج بمعجون العلم والعمل، وإنما علاج كل علة بمضاد سببها .
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
فلنبحث عن سبب الغيبة أولا، ثم نذكر علاج كف اللسان عنها، على وجه يناسب علاج تلك الأسباب .
فنقول جملة ما ذكروه من الأسباب الباعثة على الغيبة عشرة أشياء، قد نبه الصادق (عليه السلام) اجمالا بقوله:أصل الغيبة يتنوع بعشرة أنواع :
1- شفاء غيظ ، 2- ومساعدة قوم ، 3- وتصديق خبر بلا كشفه، 4- وتهمة ، 5- وسوء ظن، 6- وحسد، 7- وسخرية، 8- وتعجب، 9- وتبرم، 10- وتزين. مصباح الشريعة : ص 205
ونحن نشير اليها مفصلة :
الأول : تشفي الغيظ ، وذلك إذا جرى سبب غضب به عليه، فإذا هاج غضبه يشفى بذكر مساويه، وسبق اللسان إليه بالطبع إنْ لم يكن ديّن ورع. وقد يمتنع من تشفّي الغيظ عند الغضب، فيتحقق في الباطن فيصير حقدا ثابتا، فيكون سببا دائما لذكر المساوئ.
فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة.
الثاني : موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام، فإنهم اذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض، فيرى أنه لو أنكر أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه فيساعدهم، ويرى ذلك من حسن المعاشرة، ويظن انه مجاملة في الصحبة، وقد يغضب رفقاءه، فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم اظهارا للمساهمة في السراء والضراء، فيخوض معهم في ذكر العيوب والمساوئ.
الثالث: ان يستشعر من انسان أنه سيقصده ويطول لسانه فيه، أو يقبح حاله عند محتشم أو يشهد عليه بشهادة، فيبادر قبل ذلك ويطعن فيه، ليسقط أثر شهادته وفعله، أو يبتدي بذكر ما فيه صادقا ليكذب عليه بعده، فيروج كذبه بالصدق الأول ويستشهد به فيقول: ما من عادتي الكذب، فاني اخبرتكم بكذا وكذا من أحواله فكان كما قلت.
الرابع : أن يُنسب إليه شيء فيريد أن يتبرأ منه فيذكر الذي فعله. وكان من حقه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعله ولا ينسب غيره إليه، أو يذكر غيره بأنه كان مشاركا له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله .
الخامس : ارادة التصنع والمباهاة، وهو ان يرفع نفسه بتنقيص غيره، فيقول: فلان جاهل، وفهمه ركيك، وكلامه ضعيف، وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه، ويريهم أنه أفضل منه، أو يحذر ان يعظم مثل تعظيمه، فيقدح فيه لذلك .
السادس : الحسد، وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه ويكرمونه، فيريد زوال تلك النعمة عنه ، فلا يجد سبيلا اليه الا بالقدح فيه، فيريد ان يسقط ماء وجهه عند الناس حتى يكفوا عن إكرامه والثناء عليه، لأنه يثقل عليه ان يسمع ثناء الناس عليه وإكرامهم له. وهذا هو الحسد وهو عين الغضب والحقد. والحسد قد يكون مع الصديق المحسن والقريب الموافق.
السابع : اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك، فيذكر غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة والتعجب.
الثامن : السخرية والاستهزاء استحقارا له، فإن ذلك قد يجري في الحضور، فيجري ايضا في الغيبة، ومنشأه التكبر واسصغار المستهزأ به.
التاسع : هو مأخذ دقيق، ربما يقع فيه الخواص وأهل الحذر من مزال اللسان، وهو أن يغتم بسبب ما يبتلي به أحد فيقول: يا مسكين فلان قد غمني أمره وما ابتلى به، ويذكر سبب الغم، فيكون صادقا في اغتمامه، ويلهيه الغم عن الحذر عن ذكر اسمه فيذكره بما يكرهه، فيصير به مغتابا، فيكون غمه ورحمته خيرا، ولكنه ساقه إلى شر من حيث لا يدري. والترحم والتغمم ممكن من دون ذكر اسمه ونسبته إلى ما يكره، فيهيجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه وترحمه .
العاشر : الغضب لله تعالى، فإنه قد يغضب على منكر قارفه انسان، فيظهر غضبه ويذكر اسمه ليبطل به على غير وجه النهي عن المنكر. وكان الواجب ان يظهر غضبه عليه على ذلك الوجه خاصة، وهذا مما يقع فيه الخواص ايضا، فانهم يظنون ان الغضب اذا كان الله تعالى كان عذرا كيف كان، وليس كذلك .
اذا عرفت هذه الوجوه التي هي أسباب الغيبة، فاعلم أن الطريق في علاج كف اللسان عن الغيبة يقع على وجهين :
أحدهما على الجملة والآخر على التفصيل .
أما على الجملة: فهو ان يعلم تعرضه لسخط الله تعالى بغيبته، كما قد سمعته في الأخبار المتقدمة، وان يعلم انه (أنها) تحبط حسناته فإنها تنقل في القيامة حسناته إلى من اغتابه بدلا عما اخذ من عرضه، فإن لم يكن له حسنات نقل اليه من سيئاته، وهو مع ذلك متعرض لمقت الله تعالى ومشبه عنده بأكل الميتة.
وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: ما النار في اليبس بأسرع من الغيبة في حسنات العبد. احياء علوم الدين : ج3 ص 140
وروي أن رجلا قال لبعض الفضلاء: بلغني أنك تغتابني، فقال: ما بلغ من قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي!.. فمهما آمن العبد بما وردت به الأخبار لم ينطلق لسانه بالغيبة خوفا من ذلك، وينفعه أيضاً أن يتدبر في نفسه فإن وجد فيها عيبا فينبغي أن يتسحيي من أن يترك نفسه ويذم غيره، بل ينبغي ان يعلم ان عجز غيره عن نفسه في التنزه عن ذلك العيب، كعجزه ان كان ذلك عيبا يتعلق بفعله واختياره، وإن كان أمراً خلقيا فالذم له ذم للخالق، فإن من ذم صنعة فقد ذم الصانع. قال رجل لبعض الحكماء: يا قبيح الوجه!.. فقال: ما كان خلق وجهي إليَّ فأحسنه. وإن لم يجد عيبا في نفسه فليشكر الله ولا يتلوث نفسه بأعظم العيوب، فإن ثلب الناس وأكل لحم الميتة من أعظم العيوب، فيصير حينئذ ذا عيبٍ، بل لو أنصف من نفسه لعلم أن ظنه بنفسه أنه برئ من كل عيب جهل بنفسه وهو من أعظم العيوب.
وينفعه ان يعلم ان تألم غيره بغيبته كتألمه بغيبة غيره له، فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يغتاب فينبغي ان لا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه .
فهذه معالجات جمليّة.
وأما التفصيل: فهو أن ينظر إلى السبب الباعث له على الغيبة ويعالجه، فإن علاج العلة بقطع سببها .
وقد عرفت الأسباب الباعثة..
- أما الغضب فيعالجه بأن يقول: إن أمضيت غضبي عليه لعل الله تعالى يمضي غضبه عليَّ بسبب الغيبة، إذ نهاني عنها فاستجرأت على نهيه، واستخففت بزجره، وقد قال (عليه السلام): إن لجهنم بابا لا يدخلها إلا من شفى غيظه بمعصية الله تعالى. تنبيه الخواطر : ج1 ص 121
وقال رسول الله:من اتقى ربه كلّ لسانه، ولم يشف غيظه.[تنبيه الخواطر : ج1 ص 121]، وقال (صلى الله عليه وآله):من كظم غيظا وهو يقدر على أن يمضيه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى خيّره الله من أي الحور العين شاء. تنبيه الخواطر : ج1 ص 121
وفي بعض كتب الله تعالى:يابن آدم!.. اذكرني حين تغضب،أذكرك حين أغضب، فلا أمحقك فيمن أمحق. تنبيه الخواطر : ج1 ص 121
- وأما الموافقة فبأن تعلم أن الله تعالى يغضب عليكإذا طلبت سخطه في رضا المخلوقين، فكيف ترضى لنفسك أن توقرغيرك وتحقّر مولاك، فتترك رضاه لرضاهم إلا ان يكون غضبك لله تعالى، وذلك لا يوجب أن تذكر المغضوب عليه بسوء، بل ينبغي أن تغضب لله أيضا لرفقائك إذا ذكروه بالسوء فإنهم عصوا ربك بأفحش الذنوب وهو الغيبة .
- وأما تنزيه النفس بنسبة الخيانة إلى الغير، حيث يستغني عن ذكر الغير، فتعالجه بأن تعرف أن التعرّض لمقت الخالق أشد من التعرّض لمقت الخلق، وانت بالغيبة متعرّض لسخط الله تعالى يقينا، ولا تدري أنك تتخلص من سخط الناس أم لا، فتخلص نفسك في الدنيا بالتوهم، وتهلك في الآخرة أو تخسر حسناتك بالحقيقة، وتحصل ذم الله نقدا، وتنتظر رفع ذم الخلق نسيئةً وهذا غاية الجهل والخذلان .
- وأما عذرك كقولك ان أكلت الحرام ففلان يأكل وان فعلت كذا ففلان يفعل كذا أو ان قصرت في كذا من الطاعة ففلان مقصر ونحو ذلك، فهذا جهل لأنك تعتذر بالاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به، فإن من خالف امر الله لا يُقتدى به كائنا من كان. ولو دخل غيرك النار وأنت تقدر على أن لا تدخلها لم توافقه ولو وافقته سفه عقلك، فما ذكرته غيبة وزيادة معصية أضفتها إلى ما اعتذرت عنه وسجّلك مع الجمع بين المعصيتين على جهلك وغباوتك، وكنت كالشاة تنظر إلى العنز تردى نفسه من الجبل فهي ايضا تردي نفسها ولو كان لها لسان وصرحت بالعذر وقالت العنز أكيس مني وقد أهلك نفسه فكذا فعلت لكنت تضحك من جهلها وحالك مثل حالها .ثم لا تنعجب ولا تضحك من نفسك .
- وأما قصدك المباهاة وتزكية النفس بزيادة الفضل، بأن تقدح في غيرك، فينبغي ان تعلم انك بما ذكرته أبطلت فضلك عند الله، وانت من اعتقاد الناس فضلك على خطر، وربما نقص اعتقادهم فيك إذا عرفوك تثلب الناس، فتكون قد بعت ما عند الخالق يقينا بما عند المخلوق وهماً، ولو حصل لك من المخلوق اعتقاد الفضل لكانوا لا يغنون عنك من الله شيئا.
- وأما الغيبة للحسد، فهو جمع بين عذابين لأنك حسدته على نعمة الدنيا، وكنت معذبا بالحسد فما قنعت بذلك حتى أضفتإليه عذاب الآخرة فكنت خاسرا في الدنيا فجعلت نفسك خاسراً في الآخر لتجمع بين النكالين، فقد قصدت محسودك وأصبت نفسك وأهديت اليه حسنتك، فأنت إذاً صديقه وعدو نفسك إذ لا تضره غيبتك وتضرك وتنفعه إذ تنقل إليه حسنتك أو تنقل إليك سيئته ولا تنفعك، وقد جمعت إلى خبث الحسد جهل الحماقة وربما يكون حسدك وقدحك سبب انتشار فضل محسودك فقد قيل: واذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود.
- وأما الاستهزاء فمقصودك منه اخزاء غيرك عند الناس باخزاء نفسك عند الله وعند الملائكة والنبيين، فلو تفكرت في خزيك وحيائك وحسرتك وخجلتك يوم تحمل سيئات من استهزأت به وتستاق إلى النار لأدهشك ذلك عن اخزاء صاحبك ولو عرفت حالك لكنت أولى ان تضحك منه فانك سخرت به عند نفر قليل واعرضت نفسك لأن يأخذ بيدك يوم القيامة على ملأ من الناس ويسوقك تحت سيئاته كما يساق الحمار إلى النار مستهزئاً بك وفرحا بخزيك ومسروا بنصرة الله اياه وتسليطه على الانتقام.
- وأما الرحمة له على اثمه فهو حسن، ولكن حسدك ابليس واستنطقك بما تنقل من حسناتك إليه مما هو اكثر من رحمتك، فيكون جبرا لاثم المرحوم ليخرجعن كونه مرحوما، وتنقلب انت مستحقا لأن تكون مرجوما، اذ حبط اجرك ونقصت من حسناتك.
- وكذلك الغضب لله لا يوجب الغيبة، فانما حبب الشيطانإليك الغيبة، ليحبط أجر غضبك وتصير معرضا لغضب الله تعالى بالغيبة.
وبالجملة فعلاج جميع ذلك المعرفة والتحقيق لها بهذه الأمور التي هي من أبواب الإيمان، فمن قوي ايمانه بجميع ذلك انكفّ عن الغيبة لا محالة .