«وردة الضحايا» نسخة عراقية من مدونة الموت
08/02/2014 09:31
يتردد غالبا في شعر السياب مثل هذا التعالق الحاد بين انتصاب النخل وانحناءة الموت أو على شاكلة ما قاله في موضع آخر (وكلما يعشب الثرى نجوع) أسميه تعالقا، وليس مفارقة كما دأبت بعض النقديات على استسهال هذا المصطلح حد إطلاقه على كل تقابل لغوي بين مفردتين متعاكستين بالمعنى، حتى صار استعمالها سهلا يسيرا لكل من يريد أن يقطع الطريق نحو الدهشة بالقفز على آلية نحت المعنى والاكتفاء بمثل هذه التقابلات، ما يخبرنا به السياب أعمق هو يريد أن ينبهنا على حقيقة وجودية ثقافية في آن، العراق الحي أبدا يموت في كل يوم! اناسه يعطشون بجوار الأنهر ويجوعون كل عام بينما الثرى يعشب! يجرون خطاهم المتثائبة لفرط الفقر على أرض منقوعة بالنفط.

أسوق هذه المقدمة لأفتتح قراءة النسخة العراقية من تدوين الموت وهو العنوان الفرعي لكتاب( وردة الضحايا) الذي أصدره بيت الشعر العراقي، كتاب مختارات اعتمد موضوعة النص معيارا لاختياراته لا اسم الشاعر أو جيله بمعنى أن هناك حسا نقديا تدخل في الاختيار ومهما يكن رأينا بنوع الأسماء التي ضمها الكتاب على صغر حجمه إلا انه وثيقة من نوع خاص، تدوين شعري لعذابات أرض وناس مر بهم الموت طويلا، رثائيات بأنواع شتى، أشياء ترثي نفسها بنفسها على حد جملة نازك الملائكة (يرثي كآبته القمر)، أكثر من سؤال شائك حول جدوى النصر والهزيمة في حال اختلاط حدودهما حد اللامعنى، وكما يقول بلند الحيدري:

ارجع لنا

عيوننا القديمة

لنعرف النصر الذي يلوح في الهزيمة

في ( وردة الضحايا) تختلف أسماء الشعراء الذين تم اختيار نصوصهم وتتمايز أساليبهم الشعرية ولكن تجمعهم وحدة الموضوع الذي تراكم عبر أجيال شعرية متعددة

بغداد.. رؤية أخرى

يكشف لنا الشاعر جليل حيدر وجها آخر للمدينة/ بغداد أثتاء(ظهيرة جمعة في برج السعدون) إذ يقول:

هكذا هي بغداد

سجال بين هاوية ومنائر

بين مرضى وأساطير

ربما الرؤية ذاتها راودت غيره من الشعراء ففيما يروي أنور الغساني ( كنا نركض في الشورجة... بينما الرشاشات تغتال هواجسنا) كل هذا الذي يحدث في بغداد يثير استغراب الشاعر صادق الصائغ في قصيدته (هنا بغداد):

مدينة من أجمل مدن العالم

تهتز أعماقها يوميا للقصف

دون أن تفقد التوازن

هذه القصائد الثلاث اختارت ( بغداد) مرصدا لمعاينة الجرح العراقي النازف بينما ذهب الشعراء الآخرون لتعابير محايثة ك ( البلاد) أو ( المدينة) تعابير تختلف لفظيا إلا انها تتفق في الحزن الذي يصل حد التشاؤم أو حد الياس حتى مما سيجيء! على حد تعبيرات سركون بولص:

هناك أيام تجيء، ليست لنا

.................

هناك من يجيء كالمياه

لساحل ميت

ووفقا لكل هذا يمكن أن نقرأ تشظيات فكرة الموت في قصائد الشعراء الآخرين: (موت بالجملة) لعبد الرزاق الربيعي/ (موتاي الرائعون) لصلاح حسن / ( مقبرة) لعبد الرحمن الماجدي /(أرض الدفن) لنصيف الناصري/ ( أكياس عظام) لدنيا ميخائيل/ ( في قصيدة موته) لرعد عبد القادر:

كتب قصائد موت كثيرة

إلا ان اية واحدة منها لم تكن قصيدة موته

في كتاب (وردة الضحايا) نشعر كأننا ازاء نص واحد طويل تختلف إيقاعاته، الا ان دلالته واحدة هي الموت الذي حاولت أن تؤرخنه هذه القصائد، بل أرادت أن تدون سيرته الذاتية وتفاصيل مروره على أرض وصفت بانها ( أرض الدفن).. كل هذه الطبقات من الموت، كل هذه لأجيال لابد أن تتراكم حتى تصبح ( ثروة) من نوع ما وهذا ما التقطته عين الشاعر مروان عادل المبصرة أكثر مما يجب:

قل وداعا

وتمتع بثروة موتك الطائلة

بهذه السخرية أيضا يتدفق الشاعر عبد الأمير جرص سائلا (أعداد لا تحصى من القتلى ):

ماذا تريدون؟

أجابوا: نريد أن نموت

هل تكفي كل هذه القصائد لتأثيث نسخة عراقية من الموت؟ ولماذا اختار معدو الكتاب هذا المعنى معيارا للاختيار أو عنوانا للكتاب؟ هل لأن الموت هنا مازال دؤوبا على إتمام نسخته المطولة؟ بمعنى أنه كتاب مفتوح لا يكف عن الثرثرة بالأجساد والضحايا ومن ثم،يبقى السؤال الأكبر: هل يصلح الشعر وحده أن يكون سدا ضد شراهة الموت أم انه شاهد فقط ؟ أخيرا نقول: الشعر والشاعر الذي يكتب (قصيدة موته) شاهد و شهيد في آن!