المتنبي وصمت الرشيد
05/02/2014 08:59
على الرغم من شهرة يوم الجمعة " الثقافية" ولوذ الأدباء والمثقفين برداء المتنبي، والجلسات الفنية والشعرية والبحثية والتاريخية والمعارض وصوت الشبيبة الممتزج بصوت مويجات دجلة، إلا أن الألم الذي ينغرز في القلب ويدميه يرافقنا في رحلة الوصول والعودة ليروي لنا قصة مدينة زاهية اسمها مدينة السلام التي قيل عنها.. من لم ير بغداد فما رأى الدنيا ولا شاهد الناس، لكنها لم تعد تلك المدينة التي تأخذ بتلابيب القلب، يسعد الإنسان برؤياها، ويفرح بمنعطفاتها، ويزهو متباهيا بأنه وريث مدينة كانت قبلة الدنيا في جمالها ورقيها ونظافتها وعمرانها وأمكنتها.
كبرت خيبتي للمرة الثالثة التي زرت فيها" المتنبي" وأنا أدور بحثا عن مكان لأركن به سيارتي مصطحبة معي عائلتي التي أغريتها بأنها ستقضي يوما ممتعا ينسيها صدأ صمت أيام بغداد التي يتآمر الكثيرون في سبيل اتساع رقعة مساحته. مررنا بشوارع مكتظة بالنفايات والعربات التي عفا عليها الزمن وبأرصفة يفترشها فقراء يحاولون بيع بضاعة لا تصلح إلا كأنقاض، ظلال أبنية آيلة للسقوط تحتمي من الانهيار، وهي تتكىء على بعضها البعض وتنمو الحشائش والأدغال فوق سقوفها الخشبية المنهارة، فيما نوافذها وجدرانها متخمة بثقوب إطلاقات مرت عليها وتركت دمارها النفسي لكل الوجوه التي تصافحها.. صمتت عائلتي وهي تحاول أن تجد موقع قدم نظيف تضع خطواتها عليه، فيما أسحب أنا ابتسامة ميتة في محاولة مداراة خيبتي بفشل ما وعدتهم به.. أسحب خطواتهم سحبا، وأنا أرى الدهشة في وجوههم متسائلين أهذا شارع الرشيد الذي نعرفه؟ ليتنا بقينا على فراقنا له ولم نصدم برؤيته قاحلا من الجمال بهذا الشكل الرهيب.
نصل المتنبي وأخفي ارتباكي، وأنا أرشدهم إلى عناوين كتب تهمهم، وواجهات مكتبات حدثتهم عنها، ومدرسة رشدية يعرفون تأريخها وقشلة تم إحياؤها قبل زمن قصير، فاكتظت بالكثير من فوضى الخدمات والنفايات بوقت أقصر من عمر إحيائها.. يصمتون وهم يشاهدون" الجواهري" يبيع القهوة بنصف جسد وكأنه فقد توازنه وسط الخراب.. يتلفتون هربا إلى دجلة و"عبارة "تحاول إعادة الحياة إلى أصوات السبعينات فيصخب الصوت بهدير محركات عفا عليها زمن العمل الحقيقي ومكانها مقبرة العوامات.
يمدون أيديهم إلى الفضاء وأسحب معهم سماء بلادي الحبيبة إلى قلبي، وقلوبهم ولا نلوذ بالمتنبي الشاهد النازف على خراب سيعود لينتظرنا بعد بضعة أمتار. يصمت شارع الرشيد وتغلق محاله ظهرا وتملأ العلب الفارغة أرصفته وشارعه المبقع بالمياه الآسنة والمطبات والحفر.. تختفي الحياة وتدور نظراتنا إلى الأزقة الضيقة في كل مقتربات الشارع بمنازله التي تعود إلى بدايات القرن الماضي، وكأننا في مدينة خارج التأريخ وخارج نطاق الحضارة والعمران ونعيش في أطراف القرى والقصبات. تسألني عائلتي أهذه بغداد بميزانيتها الضخمة؟ أهذه بغداد الزاهية؟ أهذه بغداد الراقية؟ وأشاركهم صب اللعنات على كل من يشارك في إرجاء إعمار البنى التحتية لوطننا وعلى كل من يحاول سرقتها وكل من يباشر نهبها وكل من يأخذ من ثرواتها ليكنز جيوب المرتشين ومزيفي الوطنية والحاقدين على زهو بغداد العظيمة.
نعود مطأطئي الرؤوس لنتعثر بقناني مشروبات كحولية وغازية ومعدنية، أخبئ حزني وأنا أفتعل حوارا من هنا وهناك، فتواجهني نظرات صامتة لا تشاركني محاولتي، أعود حزينة بعد سويعات بحث عن فرح بين أرجاء شارع المتنبي ورواده الباحثين عن غذاء الروح والعقل، فندخل في دوامة محاولة الخروج من مطبات شارع، إذ مازال العمل متعثرا في إنشاء مجسر باب المعظم منذ خمس سنوات، وما زال التلكؤ يحفر أخاديد في كل وجه المدينة. ترى من سيعطيني أجوبة على كل حفلات الدمار التي لاحقت رحلتنا في جمعة " المتنبي"؟!.