مشـكلــة النـص
05/02/2014 09:08
النص الديني غير مسؤول عما يحدث له من قهر وتلاعب به يوميا، ونحن أبناء هذا النص بقدر ما يقهر نقهر معه وبقدر ما يتلاعب به يتلاعب بنا، وحين كنا نتحدث عن القدر أو عن (قدرنا) كنا نعني التحولات التي تتعاقب على حظوظنا من جراء سقوط النص أو صعوده.تم إنهاك النص الديني على طول تأريخنا وكان ضحية نزاعات دائمة وأوامر بالقتل وكمائن خداع لا حصر لها
وجرى تصنيعه مئات المرات ليتوافق مع حالات مكائد البشر وتحت سوط الشر روض واستسلم كي ينتزع منه الإيمان ليكون نصا فارغا محشوا بوجهات نظر المتنازعين، حتى وصل إلينا اليوم عبارة عن خرقة يضعها المرء على كتفيه أو يحملها بيده أو يزين بها صالة جلوسه أو يرفعها راية.
في النهاية لافائدة من نص ديني فارغ من تنشيط الإيمان في القلوب، نص ينشط نزعة السلطة فينا هو نفسه النص الذي تعصّب به "داعش" رؤوس مقاتليها، وهو نفسه النص الذي تحول إلى وثيقة تمسكها كل طائفة بوجه الطائفة الأخرى، وعندما يختفي الإيمان من قلب النص الديني معناه يصل مستوى الأخلاق فيه إلى الصفر.
تصفير الأخلاق في النص الديني ساعد على زيادة منسوب شهوة السلطة فيه، وقد قرأت أكثر من مرة تعليقات
يائسة على صفحات ال"فيس بوك"، يعلق أحدهم قائلا (ما ان أسمع كلمة الله أكبر حتى أقول لنفسي ان عملية تفجير حدثت أو قطع رؤوس لمواطنين أبرياء).
يقدم الكاتب والروائي اللبناني أمين معلوف في كتابه "اختلال العالم" الصادر العام2009 ترجمة ميشال كرم وصفا لهذه المشكلة على النحو التالي ( يمتاز العالم العربي بتدني وعيه الأخلاقي) بنفسه وبمن معه، وانه يستجيب بسرعة إلى تدمير ذاته أو تدمير المدن التي يسكنها أو تدمير الناس الذين حوله ويمتاز (الغرب بزيادة وعيه الأخلاقي) في الوقت الذي يستخدم العالم العربي تدني وعيه الأخلاقي لتحطيم نفسه يستخدم الغرب وعيه الأخلاقي أداة سيطرة وليست أداة تمدين الآخرين "ففي العراق قدم ديمقراطية لشعب لا يريدها" يرزح تحت ظل انقسام طائفي غير قادر ان يهضم ديمقراطية شبيهة بالديمقراطية الأميركية لذلك اختنق بها.
بنى أمين معلوف كتابه بصفحاته الـ300على هذه الفكرة، محاكمة أخلاق الغرب تجاه الذين يعانون من مستوى تدني وعيهم الأخلاقي وقد" أسهم السلوك الخاطئ لأميركا في إغراق البلاد في عنف طائفي، لكن كما يرى معلوف حين يقعد انتحاري مسلم وراء مقود شاحنته المفخخة ويمضي ليفجر نفسه في سوق شعبية ترتادها عائلات شيعية، ثم يوصف هذا القاتل، مازال الكلام لمعلوف، بالمقاوم والبطل والشهيد من قبل خطباء متزمتين فلا تعود هناك فائدة من اتهام أميركا، بل يتوجب على العالم العربي أن يقوم بفحص ضميره أي كفاح يخوض؟
عن أية قيم يذود؟ وأي معنى سيعطيه لمعتقداته؟"
ويرى معلوف أن المشكلة في الإسلام السياسي من جانب، وفي أنانية الغرب من جانب آخر، من غير أن يفصّل في مادة المشكلة، بمعنى ماهو النشوء المبكر للعناصر التي تجمع منها الإسلام السياسي، لذلك يجد الحل في أن يتخلى الغرب عن أنانيته، وأن يعيد النظر بالطريقة التي سيستخدم بها وعيه الأخلاقي من خلال تقديم تضحية ملموسة على غرار أنموذج السيد المسيح، من أنه لاينوي السيطرة على هذه الشعوب، إنما يساعدها على تخطي تخلفها المريع وانتشالها من الدرك الأسفل أيضاً. على العالم العربي أن يدرك أن الوقوف ضد الغرب وهي الفرضية التي سادت في الخمسينات والستينات والسبعينات سقطت بسقوط جمال عبد الناصر، وحلت محلها فرضية أخرى.. ان الشعب الذي يجني فوائد أكثر هو الذي يقف الى جانب الغرب، والسعودية وإسرائيل كانموذجين واقعيين، طبعا هذا حل لا يرضي فضول القراء، لكن استطراده حول تسارع تقدم الصين والهند قوّى فرضيتي التي شرحتها في أول المقال حول مشكلة النص الديني، لا توجد سلطة دينية قاهرة في الصين والهند ما إن يغير الزعيم السياسي برنامجه الاقتصادي حتى تتسارع خطى البلد نحو التقدم والاستقرار.
في أثناء زيارتي الأخيرة لبغداد لمست شيئا من يقظة لدى طيف واسع من الناس عدم اكتراثه للخطابات الدينية المتشنجة وعادة يطلقون على أصحابها جماعة (مرتزقة) تعتاش على تطرفها وتبيعه لدافعين أغراب. وفي الجانب المجاور تزدهر ببطء مقاه ومطاعم ومحلات بيع تميل إلى طراز حديث يقترب قليلا مما رأيته في بيروت في الأقل.
أكثر من هذا حدثني شخص له مكانة رفيعة في حزب ديني من أن حزبه ليس حزبا دينيا بالمعنى الأرثوذكسي، فهو يتفهم الحاجة إلى ملاءمة معقولة بين الدين والحياة المدنية المتسارعة، من تلك المحال الجميلة، مقهى التقيت به الأصدقاء، وهناك مكان أجمل ضمني مع صديقين وكان حديثنا حول الشاعر الأميركي جان اشبري وتقنياته الفريدة في كتابة الشعر. وذكرني أحد الصديقين من أن الشاعر قال ذات يوم انه يستطيع أن يصنع قصيدة من أي شيء حتى من الملعقة التي أمامه، هناك رغبة في حديث آخر غير السياسة، لكن المشكلة مركبة والأهم فيها كيف يتسنى للمثقف العراقي أن يفحص جذور المشكلة بشيء من الحياد، من غير أن تتلوث يداه بوحل الطائفية.
هناك باحث عربي فرانكفوني مقيم في فرنسا "محمد أركون" شأنه شأن أمين معلوف، لكن اركون يقدم حلا للمشكلة يختلف عما يراه معلوف من أن المشكلة في تعالي النص الديني على الزمن، والحل أن نجد زمنا للنص كي نحدد سلطته علينا ونحبسه في لغته البشرية التي هي لغتنا، ليتكيف مع كل فترة من فترات حياتنا ويساعدنا في البناء ولا يحرضنا على الهدم تقريبا كتابه، نحو نقد العقل الاسلامي، كله يتحدث عن مردود مغر ونافع للمسلمين، فيما لو يسروا مهمة الباحثين لصناعة إطار تاريخي أو منهجية تاريخية للنص الديني.
سأختلف مع أمين معلوف الذي اتخذ من تجربة العراق انموذجا لأنانية اميركا، التي لم تكبح رغبتها في رؤية الفوضى حولها في العراق، وبدت كأنها عاجزة عن إيقافها.
وفي العراق لايوجد انقسام طائفي حول الإيمان، الانقسام حول السلطة والنص الديني الذي وصل إلينا بقلب صناعي حافل بشهوة السلطة، يشجع هذا الجانب من الانقسام ويبرر إبادة الآخر وتسويته بالأرض. لا أعتقد أن المشكلة كلها في الأخلاق الأميركية، جزؤها الأكبر عندنا أيضاً لا توجد أية فائدة عملية للبشر من نقل النص الديني من الأعلى الى الأسفل، من نص مقدس إلى نص يخضع للتحليل الزمني التاريخي، وأمامنا التجربة الصينية واليهودية والهندية والمسيحية، النص لديهم مقدس مملوء بالإيمان فقط، وخال من شهوة التسلط، في مدينة "جونية" اللبنانية أتطلع يوميا أثناء تسكعي في المدينة إلى منحوتات صغيرة تمثل السيد المسيح أو العذراء أو للقديسين في أمكنة نظيفة محفوفة بالورود في زاوية شارع أو ركن حديقة، ولا توجد لهذا الرمز الديني أية سلطة على الشارع أو على الناس سوى أنه يشع بالطمأنينة من بعيد فللناس حياتهم وللرمز الديني وجوده الرحيم لا أكثر.
مهمة الباحثين الذين تعنيهم مشكلتنا اليوم العودة إلى النص الديني وإزالة التخريب العميق الذي حل به، يجب طرد نزعة السلطة من قلب النص، وعودة الإيمان اليه من خلال العودة إلى نقطة الضوء، التي وضعها في طريقنا قبل تسعين سنة المفكر العلامة الكبير الشيخ علي عبد الرازق في كتابه ذائع الصيت" الإسلام وأصول الحكم"، اذ قال بفصل الدين عن الدولة، الدين يختص بالإيمان، والدولة تختص بالسياسة.
هذا هو الحل الأسلم الذي يحمي الدم والعرض والمال.