المناسبات
د/ محمد بن عبد العزيز الخضيري
للمناسبات في القرآن ثلاثة
أنواع:
الأول:
المناسبات في السورة الواحدة.
الثاني:
المناسبات بين السورتين.
الثالث:
مناسبات عامة.
ولـكــل
نــــوع من هذه الأنواع أقسام كثيرة وسنقتصر في هذه العجالة على بعضٍ منها، مما
يتضح به المقصود وينفتح به الباب للطالب الراغب.
النوع الأول
المناسبات في السورة الواحدة، ويتضمن أقساماً، ومنها:
أولاً:
المناسبة بين أول السورة وخاتمتها:
مثاله:
قوله ـ تعالى ـ: في أول ســـورة البقرة: ((الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة
ومما رزقناهم ينفقون)) [البقرة: 3]، ثم قال في آخر السورة: ((آمن الرسول بما أنزل
إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله... )) [البقرة:285] فهو
في أول السورة يذكر صفات المتقين التي يتميزون بها وفـي آخــــر السورة يبين أن
الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه قد امتثلوا تلك الصفات وتحلوا بها.
مـثـال
آخــــــر: في سورة (المؤمنون) افتتح السورة بذكر فلاح المؤمنين ((قد أفلح
المؤمنون)) [المؤمنون: 1]، واختتمها بنفي فلاح الكافرين ((ومن يدع مع الله إلها
آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون)) [المؤمنون: 117]
ثانياً:
المناسبة بين الآية والتي تليها:
مـثـالـــه:
قوله ـ تعالى ـ: إياك نعبد وإياك نستعين الفاتحة: 5 فإنه لما ذكر في أول السورة
استحقـاق الله ـ تـعــالى ـ لكل المحامد، وكونه رباً للعالمين، وهو الرحمن الرحيم،
وهو مع كل هذا الملك المتصـرف في اليوم الذي لا ملك فيه لأحد إلا لله.. كان من شأن
كل عاقل أن يُقبِل على مَنْ هذه صـفـاتــه وتلك عظمته معترفاً بالعبودية له والذل
الكامل لجنابه العظيم ملتجئاً إليه طالباً منه العون والمدد،ثم إنه لما حمد وأثنى
ومجّد واعترف بالعبودية ناسب أن يستشرف للطلب من ذلك الرب المستعان، فيقول: ((اهدنا
الصراط المستقيم)) [الفاتحة: 6]
ثالثاً:
المناسبة بين حكمين في الآيات أو الآية:
وذلك
كما في آيــات الاستئذان حين أعقبها بالأمـر بغض البصر؛ فإن الاستئذان إنما جعـل
مــن أجــل أن لا يقع بصر المستأذن على عورة، ولو صادف أن وقع فإن على المستأذن أن
يـغـــض البصر، ثم إن العلاقة بين الحكمين بيِّنة؛ إذ فيهما ذكر ما تكون به العفة
وحفظ العورات في المجتمع المسلم.
والمناسبة
بين الأمر بحفظ الفرج والأمر بغض البصر تقدمت ـ فيما سبق ـ، وهما حكمان في آية
واحدة.
رابعاً:
المناسبة بين اسم السورة ومضمونها:
مثاله:
المناسبة بين مضمون سورة الكهف واسمها؛ فإن السورة قد ذكرت أنواع الفتن التي تمر
بالمرء؛ إذ ذكرت فيها الفتنة في الدين في قصة الفتية، وفتنة الجلساء
فيقوله:((واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي...)) [الكهف:
28]،وفـتـنــــة المال في قصة صاحب الجنتين، وفتنة العلم فـي قــصـة مـوسـى
والخـضـــر،وفتنة السلطان في قصة ذي القرنين، وفتنة القوة والكثرة في خبر يأجوج
ومأجوج، وذكرت هذه السورة المخرج من كل واحدة من هذه الفتن؛ فكأنها كهف لمن اعتصم
بها من الفتن،وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من حفظ عشر آيات من
أول سورة الكهف عصم من الدجال"(15).
النوع الثاني
المناسبات بين السورتين: ويتضمن أقساماً منها:
أولاً:
المناسبة بين فاتحة السورة وخاتمة التي قبلها:
مثاله:
في آخر سـورة الإســــراء قـال تـعـالـى: ((وقــل الحمد لله الذي لم يتخذ
ولدا...)) [الإسراء: 111]، وفي أول سورة الكهف التي تليها قال: ((الـحـمـد لله
الـذي أنـزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا... )) [الكهف: 1].
مثال
آخر: في آخر سورة الطور قال: ((ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم)) [الطور: 49]،وفي
أول سورة النجم قال: ((والنجم إذا هوى)) [النجم: 1]
ثانياً:
المناسبة بين مضمون السورة والتي تليها:
مثاله:
في سورة الضحى ذكرٌ للـنـعـم الحـسـيـة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وفي
سورة الشرح ذكر للنعم المعنوية عليه.
مثال
آخر: في ســورة الـبـقــــرة ذكـــر للطوائـف الثلاث: المنعم عليهم ويمثلهم
المسلمون، والمغضوب عليهم ويمثلهم اليهود، والـضــالـون ويمثلهم النصارى. وقد ذكر
في سورة البقرة الطائفتين الأوليين بما هو ظاهر، وفي سورة آل عمــران ذكر الطائفة
الثالثة فيما يزيد على "120" آية من أولها.
النوع الثالث
مـنـاسبات عامة:
وهي
المناسبات التي يذكرها العلماء مطلقة في القرآن وهي كثيرة جداً أذكر منها نموذجاً
للبيان.
- افتُتحت
سورتان بقوله: يا أيها الناس وهما: سورتا النساء، والحج، وذكر في الأولى بدء الخلق
والحياة للإنسان: ((يا أيـهـــا الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق
منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء)) [النساء: 1]، وفـي سـورة الحج ذكر
لنهاية هذه الحياة وبداية حياة أخرى: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة
شيء عظيم)) [الحج: 1]
شبهة
وجوابها:
قد
يـقـــول قـائـــل: كيف تطلب المناسبات بين الآيات والسور علماً بأنها نزلت مفرقة
كل واحدة منها في زمن يخالف زمن الأخرى، وفي قضية مغايرة لمضمون ما جاورها؟وقد
أجاب عن هذا التساؤل الزركشي فيما نقله عن بعض مشايخه المحققين فقال: "قد وهم
من قال: لا يطلب للآية الكريمة مناسبة؛ لأنها على حسب الوقائع المتفرقة؛ وفصل
الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلاً وعلى حسب الحكمة ترتيباً؛ فالمصحف كالصحف
الكريمة على وفق ما في الكتاب المكنون مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف"(16).
ويزيد
هذا الجـــــواب إيضاحاً الشيخ محمد عبد الله دراز فيقول: "إن كانت بعد
تنزيلها جمعت عن تفريق فـلـقـــــد كانت في تنزيلها مفرقة عن جمع، كمثل بنيان كان
قائماً على قواعده فلما أريد نقله بصـــورته إلى غير مكانه قدرت أبعاده ورقمت
لبناته ثم فُرِّق أنقاضاً، فلم تلبث كل لبنة أن عرفت مكانها المرقوم، وإذا البنيان
قد عاد مرصوصاً يشد بعضه بعضاً كهيئته أول مرة"(17).
- وانظر في تناسب السور مثلا إلى سورتي الفيل وقريش ، فلما ذكر في الأولى قصة أصحاب الفيلوفي سورتي الفلق الاستعاذة من الشرور الخارجية ، وفي الناس الاستعادة من الشرور الداخلية كما في البحر المحيط
وهلاكهم ، ذكر في سورة قريش نعمته عليهم بالأمن والمال وإبعاد الخوف عنهم . وانظر
إلى سورتي (الماعون ، والكوثر) فلما ذكر في سورة الماعون الذي يمنع المسكين ويدُعّ
اليتيم والمرائي في صلاته ، ذكر في سورة الكوثر فضل الله على رسوله وما أكرمه به
من الخير الكثير ، وأمره بالكرم والإخلاص لله وحده بأن تكون صلاته لربه وأن ينحر ،
وهذان الأمران لا يكونان من المرائي والبخيل.
- ومن اللطائف تناسب الألفاظ والحروف والأصوات
مع موضوع الآيات ، فالوسوسة مثلا يكثر فيها حرف السين ، فناسب أن يكثر في سورة الناس التي
يستعاذ فيها من الوسوسة هذا الحرف ،وهكذا .
وقال ابن القيم في بدائع الفوائد (3/692 ، 693) :
تأمل سر { ألم } كيف اشتملت على هذه الحروف
الثلاثة :
فالألف : إذا بدئ بها أولاً كانت همزة ، وهي
أول المخارج من أقصى الصدر .
واللام : من وسط المخارج ، وهي أشد الحروف
اعتمادا على اللسان.
والميم : آخر الحروف ، ومخرجها من الفم .
وهذه الثلاثة : هي أصول مخارج الحروف ، أعني : الحلق ، واللسان، والشفتين ، وترتيب في التنـزيل من البداية
إلى الوسط إلى النهاية .
فهذه الحروف معتمد المخارج الثلاثة التي تتفرع
منها ستة عشر مخرجا فيصير منها تسعة وعشرون حرفا ، عليها دار كلام الأمم الأولين والآخرين
، مع تضمنها سرّاً عجيباً وهو :
أن الألف : البداية
واللام : التوسط
والميم : النهاية
فاشتملت الأحرف الثلاثة على البداية ، والنهاية
، والواسطة بينهما.
وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف الثلاثة : فهي مشتملة على بدء
الخلق ، ونهايته ، وتوسطه : فمشتملة على تخليق العالم ، وغايته، وعلى التوسط بين
البداية والنهاية من التشريع والأوامر .
فتأمل ذلك في البقرة ، وآل عمران ، وتنـزيل
السجدة ، وسورة الروم .
وتأمل اقتران الطاء بالسين والهاء في القرآن ،
فإن الطاء جمعت من صفات الحروف خمس صفات لم يجمعها غيرها وهي : الجهر ، والشدة
، والاستعلاء ، والإطباق ، والسين مهموس رخو مستفل صفيري منفتح ، فلا يمكن
أن يجمع إلى الطاء حرف يقابلها كالسين والهاء .
فذكر الحرفين اللذيْن جمعا صفات الحروف .
وتأمل السور التي اشتملت على الحروف المفردة
كيف تجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف :
فمن ذلك " ق " ، والسورة مبنيَّة على
الكلمات القافية : من ذِكر القرآن ، وذِكر الخلق ، وتكرير القول ، ومراجعته مراراً ،
والقرب من ابن آدم ، وتلقي الملكين قول العبد ، وذكر الرقيب ، وذكر السائق
والقرين ، والإلقاء في جهنم ، والتقدم بالوعيد ، وذكر المتقين ، وذكر القلب ، والقرون ،
والتنقيب في البلاد ، وذكر القيل مرتين ، وتشقق الأرض ، وإلقاء الرواسي فيها ،
وبسوق النخل ، والرزق ، وذكر القوم ، وحقوق الوعيد .
ولو لم يكن إلا تكرار القول والمحاورة .
وسر آخر :
وهو أن كل معاني هذه السورة مناسبة لما في حرف القاف من الشدة
والجهر والعلو والانفتاح .
وإذا أردت زيادة إيضاح هذا :
فتأمل ما اشتملت عليه سورة " ص " من
الخصومات المتعددة :
فأولها : خصومة الكفار مع النبي { أجعل الآلهة لها واحداً } إلى أخر كلامهم ، ثم
اختصام الخصمين عند داود ، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام
الملأ الأعلى في العلم وهو الدرجات والكفارات ، ثم مخاصمة إبليس واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم ، ثم
خصامه
ثانياً في شأن بنيه : حلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم .
فليتأمل اللبيب الفطن :
هل يليق بهذه السورة غير " ص " وسورة
" ق " غير حرفها ؟!
وهذه قطرة من بحر من بعض أسرار هذه الحروف .