حين يكون الماضي حين يكون المستقبل ظلّاً للماضي..ذاكرة (محمود شبر) في (مدونات رافدينية)
حسن عبد الحميد
منتصف كانون الثاني/ من عام2014 احتضنت قاعة(الأرجوان) في بيروت المعرض المشترك لثلاثة فنانين من العراق هم(فاخر محمد/عاصم عبد الأمير/ومحمود شبر) حمل عنوان(مدونات رافدينية)كنا قد تناولناها -هنا في صفحة تشكيل وعمارة- عبر مقالات سابقة توقفت عند معطيات تجارب(فاخر وعاصم)، ونواصل متممات ذلك العرض الحاني بكل ما حمل من مهارات وصدق رؤى وتوضيحات وجدانية لعمق عطاءات وتفردات الفن التشكيلي في العراق ،ونتوحد -هنا... أيضا- عند توريدات ما قدم ثالث أضلاع مثلث ذلك العرض ونعني نواتج ما أوردته تجارب الفنان(محمود شبر- تولد محافظة بابل/ 1965- دكتوراه في فنون الرسم/جامعة بابل) في رهان وهو يؤكد معادلة من يدعي؛( أن الأشياء لا تكون شاعرية إلا بالقوة) .ولعل ما يسند هذا الرأي ويعزز من حجم الاحتماء به والترويج له، هو الإيمان الحتمي والقاطع بأن الحب الذي هو من يمدنا حياتنا بالحيوية والشاعرية كما هي ملحقات التماثل مع القوة الممكنة من أجل مقاومة الضجر واليأس الذي يهدد ويحاصر حياتنا ويجتاحها ،وليس من فكاك من قبضته سوى التماهي بقدرة الفن على إعادة صياغة مفردات الحياة على نحو ذلك الحنو والثقة المثلى من فرط ما يتغلغل ويتوسد و ينام في دواخلنا من أحلام وذكريات ،نسعى لاستعادتها كلما دعت الضرورة إلى ذلك، وفق نسق وطبيعة الاستجابة التي تفرضها ذخائر وحيثيات ولوازم محتويات كل ذاكرة على حدة،فضلا عن مسارب وسبل محاولات استرجاعها بما يتناسل ونزعات التعبير رسما باهرا ،كما حاول وبرع الفنان التشكيلي (محمود شبر) في وخز ذاكرته المدججة بهواجسها وتشظيات وعيها على انتقاء ما أراد البوح به والإمساك بعروة ما توفر له من انزياحات أشكاله وتناسل علاقات أبطال ملاك معرضه المشرك كما هي محصلات معرضه الشخصي في حزيران من عام/2013 على قاعة جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت في بيروت،متلبسا وصارخا بصدى عنوان كبير وعام هو؛(ذاكرة عراقٍية-IRAQI MEMORY) ليكمل صدى قيمة التذكير –مجددا- بما كان قد توضح في معرضه الشخصي على قاعة (حوار للفنون)ببغداد منتصف آذار/2013 حاملا عنوان (مذكرات رجل من مواليد عام/(1956.
تتحد لتسمو ذاكرة(محمود شبر)- بخزين وعيها وملاذات استرجاعاتها الاختيارية وتصفيتها وتحليتها بمياه طفولة العذبة والمتكدرة في ذات الوجود والتجسيد التصويري على مجسات وسطوح لوحات -بعناد خاص ومحتدم- تفاقمات الظروف والاستثناءات التي وسمت واقع وظروف العراق منذ قرابة أكثر من نصف قرن،بومضات ضمير يقظ ومراقب لمجمل التحولات التي اختزنتها تلك الذاكرة الانتقائية القادرة على تمرير أقسى عذاباتها من بوابات أفراح و مرح الطفولة ومباهج تماهياتها العفوية مع واقع أحزانها المحضة وتبجيلاتها النقية لمعنى نقاء وصفاء صفحات الماضي الفردي والجماعي-معا- ذلك الذي كنا قد اختبرنا تفاصيله وعشناها ،بعد أن أعطاه الزمن تأشيرة الدخول والقبول إلى أرواحنا-حتى وإن كانت تفاصيله ويومياته المدقعة بأحزانها- لكن بمجرد العبور على قناطرها وتركها، هكذا مركونة وراء ظهورنا يعد تمجيدا لذلك الحنين المخلص لها،وثمة من يقول؛(إن أجمل مافي الماضي أنه مضى) ،فيما يستغيث لائذاً بنعت الماضي بأنه ذلك (السر الحزين) الهارب منا دوماً.
تعلن أعمال (محمود شبر) عن فداحة قسوة الماضي بجراحات أفراحه على ذاكرة الفنان حين يرتل سحر عذاباته واستنهاضاته اللاذعة في أنساق لوحات معرضه المشترك(مدونات رافدينية) نافضا غبار الماضي عبر توالي شحنات عاطفية ولحظات حرجة ،تنساق فيها مساحات تلك اللوحات لاستقبال جوانب ولقطات ومشاهد غاية بالتلقائية والحيوية الغارقة بصفاء خوفها ودبق حنينها المرهف لكل ما يسعى لاستعادة خطوط بملامح وأشياء ومقتنيات مختارة أو منتقاة-بشكل شعوري أو لاشعوري-من مواضي طفولة نقية ومعذبة في ذات حضورها وإشهارها المعلن لما ضاع من أواصر الحياة وأسس بهجتها وانفتاحها الحر على عوالم الطفولة الأثير.
يتبنى (محمود شبر) جملة من مجتزآت،تتحرك-على سجيتها- فوق سطوح مفتوحة في استقبال ما سيقرره رسمه ،بل هي(أي تلك المجتزآت)من تقرر تنظيم وجودها على نحو لا يغفل طبيعة المحافظة والمثول على روح ومناخ اللحظة القادرة على إتقان لغة البوح في حسم أمر تواجدها في مجمل ما تريد قوله عموم خطابات لوحاته التي تتسم بنوع من التشكل الخاص بها ،فلا مستويات محددة تعنيها ،ولا منظور ألفنا النظر إليه ومللناها من فرط تكراره،ولا نظام(سلفي) يدعي الفن حكرا لنفسه،بل ولا أي انصياع أعمى في نهج أسلوب ينفرد بقمع الذات والحد من تمردها الإيجابي والواعي والمتنافر مع سمات عصر السرعة الذي نحياه طوعا وتمهيدا دائما لقوة تأثير الأشياء علينا ،لذا لم يتحدد(محمود) بكل ما يحد من ترجمة أفكاره ووجدانات وعواطف ما تسعى توريده أعماله،فهنالك تجاوز محسوب ومتقن بنوايا وعي عميق ،كان قد تمرس على تجاوز محنة الإبقاء على مألوفية السائد والمتكرر من نواتج الأساليب الجاهزة ،فضلا عن تلويحات صاخبة يغلفها صمت مهيب يسكن بمرارة وتوحد لوحات وعوالم0شبر)،وهو يعيد تشكيلات مواضي تلك الأحلام والتدفقات الاستذكارية لمواقف قاسية أدمتها الحروب وأوجعتها الحصارات وخسائر الفقدانات اليومية لوجوه وأناس وملامح لجنرالات كانت هي من تسببت في تأجيج وإذكاء لهيب نيران جحيمنا الأرضي ،وزعزعت من حجم ثقتنا بالحياة واستحالة التعويض بالعودة إلى مراتع طفولتها الغضة بزهو حنيننا الطاغي إليها.
كل هذا وغيره من امتدادات وتنويعات(محمود شبر)الذهنية والفكرية عبر خلاصات وعي شيق وعنيد في ترجمة أحاسيسه وتنسياقات تحدياته المحسوبة والمنسوبة إلى مهارات تجاربه التشكيلية وخصوصيات مهاراته المعمارية في بناء لوحاته وفق ما تمليه عليه تصوراته ونبل غاياته في تطويع ممكنات الماضي باتجاه سحب المستقبل لصالح ذلك الوعي الذي يميز تجربة(محمود شبر) عن غيره ويعيد تعميق فكرة التجريب ومناهله وصولا حتميا لمعنى فهم قيمة الذات الفردية وتماهياتها مع الذوات الجمعية بما يوحد الإثنين معا بخوالص ما ستصل إليه تلك الذات المدهشة والمفكرة في توضيح مرامي ذلك الوعي الذي يميزها عن غيرها، وربما يقع هذا الاجتراح في نفس المسافة التي أراد دعمها ذلك الشاعر بقوله؛(أسير مع الجمع وخطوتي وحدي).