الأسماء الخمسة على ساق العرش : ابن عبدوس ، عن ابن قتيبة ، عن حمدان بن سليمان عن الهرويّ قال : قلت للرضا عليه‏السلام : يابن رسول اللّه‏ أخبرني عن الشجرة الّتي أكل منها آدم وحوّاء ما كانت ؟ فقد إختلف الناس فيها ؛ فمنهم من يروي أنّها الحنطة ، ومنهم من يروي أنّها العنب ، ومنهم من يروي أنّها شجرة الحسد ، فقال : كلّ ذلك حقّ . قلت : فما معنى هذه الوجوه على إختلافها ؟ فقال : ياأبا الصلت إنّ شجر الجنّة تحمل أنواعا فكانت شجرة الحنطة وفيها عنب وليست كشجر الدنيا ، وإنّ آدم عليه‏السلام لمّا أكرمه اللّه‏ تعالى ذكره بإسجاد ملائكته له وبإدخاله الجنّة قال في نفسه : هل خلق اللّه‏ بشرا أفضل منّي ؟ فعلم اللّه‏ عزّوجلّ ما وقع في نفسه فناداه : إرفع رأسك ياآدم فانظر إلى ساق عرشي فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا «لا إله إلاّ اللّه‏ ، محمّد رسول اللّه‏ ، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، وزوجه فاطمة سيّدة نساء العالمين ، والحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة» . 1 ـ البحار ج61 ص312 .

(120) فقال آدم عليه‏السلام : ياربّ من هؤلاء ؟ فقال عزوجلّ : من ذرّيتك وهم خير منك ومن جميع خلقي ، ولولاهم ما خلقتك ولا خلقت الجنّة والنار ولا السماء والأرض ، فإيّاك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأُخرجك عن جواري . فنظر إليهم بعين الحسد وتمنّى منزلتهم فتسلّط الشّيطان عليه حتّى أكل من الشجرة الّتي نهى عنها ، وتسلّط على حوّاء لنظرها إلى فاطمة عليهاالسلام بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم ، فأخرجهما اللّه‏ عزوجلّ عن جنّته وأهبطهما عن جواره إلى الأرض(1) . بكاء آدم : عن ابن أبي عمير ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي عبداللّه‏ عليه‏السلام قال : إنّ آدم عليه‏السلام بقي على الصفّا أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنّة وعلى خروجه من جوار اللّه‏ عزوجلّ فنزل عليه جبرئيل عليه‏السلام فقال : ياآدم ما لك تبكي ؟ قال : ياجبرئيل ما لي لا أبكي وقد أخرجني اللّه‏ من جواره وأهبطني إلى الدّنيا ، قال : ياآدم تب إليه ، قال : وكيف أتوب ؟ فأنزل اللّه‏ عليه قبّة من نور في موضع البيت فسطع نورها في جبال مكّة فهو الحرم ، فأمر اللّه‏ جبرئيل أن يضع عليه الأعلام ، قال : قم ياآدم . فخرج به يوم التروية وأمره أن يغتسل ويحرم ، واُخرج من الجنّة أوّل يوم من ذي القعدة فلمّا كان يوم الثامن من ذي الحجّة أخرجه جبرئيل عليه‏السلام إلى منى فبات بها ، فلمّا أصبح أخرجه إلى عرفات ، وقد كان علّمه حين أخرجه من مكّة الإحرام وأمره بالتّلبية ، فلمّا زالت الشمس يوم العرفة قطع التّلبية وأمره أن يغتسل فلمّا صلّى العصر وقّفه بعرفات وعلّمه الكلمات . توبة آدم عليه‏السلام والمشاعر الحرام : الكلمات الّتي تلقّى بها ربّه : «سبحانك اللّهم وبحمدك لا إله إلاّ أنت عملت سوءً وظلمت نفسي وإعترفت بذنبي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرّحيم سبحانك 1 ـ البحار : ج11 ص164 .

(121) اللّهم وبحمدك لا إله إلاّ أنت عملت سوءً وظلمت نفسي وإعترفت بذنبي فإغفر لي إنّك أنت خير الغافرين سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلاّ أنت عملت سوءً وظلمت نفسي وإعترفت بذنبي فإغفر لي إنّك أنت التواب الرّحيم» فبقي إلى أن غابت الشمس رافعا يديه إلى السماء يتضرّع ويبكي إلى اللّه‏ ، فلمّا غابت الشمس ردّه إلى المشعر فبات بها ، فلمّا أصبح قام على المشعر الحرام فدعا اللّه‏ تعالى بكلمات وتاب عليه ، ثمّ أفضى إلى منى ، وأمره جبرئيل عليه‏السلام أن يحلق الشعر الّذي عليه فحلقه ، ثم ردّه إلى مكّة فأتى به عند الجمرة الاُولى فعرض إبليس له عندها فقال : ياآدم أين تريد ؟ فأمره جبرئيل أن يرميه بسبع حصيات وأن يكبّر مع كلّ حصاة تكبيرة ففعل ، ثمّ ذهب فعرض له إبليس عند الجمرة الثانية فأمره أن يرميه بسبع حصيات فرمى وكبّر مع كلّ حصاة تكبيرة ، ثمّ مضى به فعرض له إبليس عند الجمرة الثالثة وأمره أن يرميه بسبع حصيات فرمى وكبّر مع كلّ حصاة تكبيرة ، فذهب إبليس . وقال له جبرئيل عليه‏السلام : إنّك لن تراه بعد هذا أبدا ، فانطلق به إلى البيت الحرام وأمره أن يطوف به سبع مرّات ففعل ، فقال له : إنّ اللّه‏ قد قبل توبتك وحلّت لك زوجتك ، فقال : فلمّا قضى آدم حجّه لقيته الملائكة بالأبطح فقالوا : ياآدم برّ حجك ، أما إنّا قد حججنا قبلك هذا البيت بألفي عام(1) . بدء نسل آدم عليه‏السلام : عن سليمان بن خالد قال : قلت لأبي عبداللّه‏ عليه‏السلام : جعلت فداك إنّ النّاس يزعمون أنّ آدم زوّج إبنته من إبنه ، فقال أبو عبداللّه‏ عليه‏السلام : قد قال الناس ذلك ، ولكن يا سليمان أما علمت أنّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله قال : لو علمت أنّ آدم زوّج إبنته من إبنه لزّوجت زينب من القاسم وما كنت لأرغب عن دين آدم ؟ فقلت : جعلت فداك إنّهم يزعمون أنّ قابيل إنّما قتل هابيل لأنّهما تغايرا على اُختهما ، فقال له : ياسليمان تقول هذا ؟ أما تستحي أن تروي هذا على نبيّ 1 ـ البحار : ج11 ص178 .

(122) اللّه‏ آدم ؟ فقلت : جعلت فداك ففيم قتل قابيل هابيل ؟ فقال : في الوصيّة . ثمّ قال لي : ياسليمان إنَّ اللّه‏ تبارك وتعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصيّة وإسم اللّه‏ الأعظم إلى هابيل ، وكان قابيل أكبر منه ، فبلغ ذلك قابيل فغضب ، فقال : أنا أولى بالكرامة والوصيّة ، فأمرهما أن يقرّبا قربانا بوحي من اللّه‏ إليه ففعلا ، فقبل اللّه‏ قربان هابيل فحسده قابيل فقتله . فقلت له : جعلت فداك فممّن تناسل ولد آدم ؟ هل كانت أنثى غير حوّاء ؟ وهل كان ذكر غير آدم ؟ فقال : ياسليمان إنّ اللّه‏ تبارك وتعالى رزق آدم من حوّاء قابيل ، وكان ذكر ولده من بعده هابيل ، فلمّا أدرك قابيل ما يدرك الرّجال أظهر اللّه‏ له جنّية وأوحى إلى آدم أن يزّوجها قابيل ، ففعل ذلك آدم ورضي بها قابيل وقنع ، فلمّا أدرك هابيل ما يدرك الرجال أظهر اللّه‏ له حوراء ، وأوحى اللّه‏ إلى آدم أن يزّوجها من هابيل ففعل ذلك ، فقتل هابيل والحوراء حامل ، فولدت حوراء غلاما فسمّاه آدم هبة اللّه‏ . فأوحى اللّه‏ إلى آدم : أن إدفع إليه الوصيّة وإسم اللّه‏ الأعظم ، وولدت حوّاء غلاما فسمّاه آدم شيث بن آدم ، فلمّا أدرك ما يدرك الرجال أهبط اللّه‏ له حوراء وأوحى اللّه‏ إلى آدم أن يزّوجها من شيث بن آدم ففعل ، فولدت الحوراء جارية فسمّاها آدم حورة ، فلمّا أدركت الجارية زوّج آدم حورة بنت شيث من هبة اللّه‏ بن هابيل فنسل آدم منهما ، فمات هبة اللّه‏ بن هابيل فأوحى اللّه‏ إلى آدم ؛ أن إدفع الوصيّة وإسم اللّه‏ الأعظم وما أظهرتك عليه من علم النبوّة وما علّمتك من الأسماء إلى شيث بن آدم فهذا حديثهم ياسليمان(1) . أول خليفة بعد آدم عليه‏السلام : بالإسناد عن الصدوق عن أبي جعفر عليه‏السلام قال : لمّا علم آدم عليه‏السلام بقتل هابيل جزع عليه جزعا شديدا ، فشكا ذلك إلى اللّه‏ تعالى ، فأوحى اللّه‏ تعالى إليه إنّي واهب لك ذكرا يكون خلفا من هابيل ، فولدته حوّاء ، فلمّا كان يوم السابع سمّاه 1 ـ البحار : ج11 ص245 .

(123) آدم عليه‏السلام شيثا ، فأوحى اللّه‏ تعالى إليه : ياآدم إنّما هذا الغلام هبة منّي إليك فسمّه هبة اللّه‏ ، فسمّاه آدم به ، فلمّا جاء وفاة آدم عليه‏السلام أوحى اللّه‏ تعالى إليه : إنّي متوفّيك فأوص إلى خير ولدك وهو هبتي الّذي وهبته لك فأوص إليه وسلّم إليه ما علّمتك من الأسماء فإنّي أحبّ أن لا يخلو الأرض من عالم يعلم علمي ويقضي بحكمي أجعله حجّةً لي على خلقي ، فجمع آدم عليه‏السلام ولده جميعا من الرّجال والنّساء ثمّ قال لهم : ياولدي إنّ اللّه‏ تعالى أوحى إليّ إنّي متوّفّيك وأمرني أن اُوصي إلى خير ولدي وإنّه هبة اللّه‏ ، وإنّ اللّه‏ إختاره لي ولكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا أمره فإنّه وصيّي وخليفتي عليكم ، فقالوا جميعا : نسمع له ونطيع أمره ولا نخالفه . قال : وأمر آدم عليه‏السلام بتابوت ثمّ جعل فيه علمه والأسماء والوصيّة ثمّ دفعه إلى هبة اللّه‏ ، فقال له : اُنظر إذا أنا متّ ياهبة اللّه‏ فاغسلني وكفّني وصلِّ عليّ وأدخلني حفرتي ، وإذا حضرت وفاتك وأحسست بذلك من نفسك فالتمس خير ولدك وأكثرهم لك صحبة وأفضلهم فأوص إليه بما أوصيت به إليك ولا تدع الأرض بغير عالم منّا أهل البيت . يابنيّ إنّ اللّه‏ تعالى أهبطني إلى الأرض وجعلني خليفةً فيها وحجّةً له على خلقه ، وجعلتك حجّة اللّه‏ في أرضه من بعدي فلا تخرجنَّ من الدّنيا حتّى تجعل للّه‏ حجّة على خلقه ووصيّا من بعدك وسلّم إليه التابوت وما فيه كما سلّمت إليك ، وأعلمه أنّه سيكون من ذرّيّتي رجلٌ نبيٌّ إسمه نوح يكون في نبوّته الطوفان والغرق فأوص وصيّك أن يحتفظ بالتابوت وبما فيه فإذا حضرته وفاته فمُره أن يوصي إلى خير ولده ، وليضع كلّ وصيّ وصيّته في التابوت وليوص بذلك بعضهم إلى بعض فمن أدرك منهم نبوّة نوح فليركب معه وليحمل التابوت وما فيه إلى فلكه ولا يتخلّف عنه واحد وإحذر ياهبة اللّه‏ وأنتم ياولدي الملعون قابيل . فلمّا كان اليوم الّذي أخبره اللّه‏ أنه متوفّيه ، تهيّأ آدم عليه‏السلام للموت وأذعن به فهبط ملك الموت ، فقال آدم : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه‏ وحده لا شريك له وأشهد أنّي عبداللّه‏ وخليفته في أرضه إبتدأني بإحسانه وأسجد لي ملائكته وعلّمني الأسماء (124) كلّها ثم أسكنني جنّته ، ولم يكن جعلها لي دار قرار ولا منزل إستيطان وإنّما خلقني لأسكن الأرض للّذي أراد من التّقدير والتدبير . وقد كان نزل جبرئيل عليه‏السلام بكفن آدم من الجنّة والحنوط والمسحاة معه . قال : ونزل مع جبرئيل سبعون ألف ملك ليحضروا جنازة آدم ، فغسله هبة اللّه‏ وجبرئيل وكفّنه وحنّطه ، ثم قال جبرئيل لهبة اللّه‏ : تقدّم فصلّ على أبيك وكبّر عليه خمسا وسبعين تكبيرة ، فحفرت الملائكة ثمّ أدخلوه حفرته ، فقام هبة اللّه‏ في ولد أبيه بطاعة اللّه‏ تعالى فلمّا حضرته وفاته أوصى إلى إبنه قينان وسلّم إليه التابوت ، فقام قينان في اُخوته وولد أبيه بطاعة اللّه‏ تعالى وتقدّس ، فلمّا حضرته الوفاة أوصى إلى إبنه يرد ، وسلّم إليه التابوت وجميع ما فيه ، وتقدّم إليه في نبوّة نوح عليه‏السلام ، فلمّا حضرت وفاة يرد أوصى إلى إبنه اُخنوخ وهو إدريس وسلّم إليه التابوت وجميع ما فيه والوصيّة ، فقام اُخنوخ به فلمّا قرب أجله أوحى اللّه‏ تعالى إليه ؛ إنّي رافعك إلى السماء فأوص إلى إبنك خرقاسيل ففعل ، فقام خرقاسيل بوصيّة اُخنوخ ، فلمّا حضرته الوفاة أوصى إلى إبنه نوح عليه‏السلام وسلّم إليه التابوت فلم يزل التابوت عند نوح حتّى حمله معه في سفينته فلمّا حضرته الوفاة أوصى إلى إبنه سام وسلّم إليه التابوت وجمع ما فيه(1) . قصة نبي اللّه‏ إدريس عليه‏السلام : أبي وابن الوليد وابن المتوكّل جميعا ، عن إبراهيم بن أبي البلاد ، عن أبيه ، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‏السلام قال : كان بدء نبوّة إدريس أنه كان في زمانه ملك جبّار(2) وإنّه ركب ذات يوم في بعض نزهه فمرّ بأرض خضرة نضرة لعبد مؤمن من الرافضة(3) فأعجبته فسأل وزراءه : لمن هذه الأرض ؟ قالوا : لعبد من عبيد الملك فلان الرافضي ، فدعا به فقال له : أمتعني بأرضك هذه ، فقال له : 1 ـ البحار : ج11 ص264 .

2 ـ كان إسمه «بيوراسب» .

3 ـ أي من الّذين رفضوا الشرك والمعاصي وتركوا مذهب السلطان .

(125) عيالي أحوج إليها منك ، قال : فسمني بها أثمن لك ، قال : لا اُمتعك ولا أسومك ، دع عنك ذكرها ، فغضب الملك عند ذلك وأسف وإنصرف إلى أهله وهو مغموم مفكّر في أمره ، وكانت له إمرأة من الأزارقة(1) وكان بها معجبا يشاورها في الأمر إذا نزل به ، فلمّا إستقر في مجلسه بعث إليها ليشاورها في أمر صاحب الأرض ، فخرجت إليه فرأت في وجهه الغضب فقالت له : أيّها الملك ما الّذي دهاك(2) حتى بدا الغضب في وجهك قبل فعلك ، فأخبرها بخبر الأرض وما كان من قوله لصاحبها ومن قول صاحبها له ، فقالت : أيّها الملك إنّما يغتم ويأسف من لا يقدر على التغيير والانتقام وإن كنت تكره أن تقتله بغير حجّة فأنا أكفيك أمره واُصيّر أرضه بيدك بحجّة لك فيها العذر عند أهل مملكتك قال : وما هي ؟ قالت : إبعث إليه أقواما من أصحابي أزارقة حتى يأتوك به فيشهدوا عليه عندك إنّه قد برئ من دينك ، فيجوز لك قتله وأخذ أرضه ، قال : فافعلي ذلك ، قال : فكان لها أصحاب من الأزارقة على دينها يرون قتل الرافضة من المؤمنين ، فبعثت إلى قوم منهم فأتوهم ، فأمرتهم أن يشهدوا على فلان الرافضي عند الملك أنّه قد برئ من دين الملك ، فشهدوا عليه أنّه قد برئ من دين الملك ، فقتله وإستخلص أرضه ، فغضب اللّه‏ للمؤمن عند ذلك . فأوحى اللّه‏ إلى إدريس عليه‏السلام أن ائت عبدي هذا الجبّار فقل له : أما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلما حتى إستخلصت أرضه خالصةً لك فأحوجت عياله من بعده وأجعتهم ؟ أما وعزّتي لأنتقمنّ له منك في الآجل ولأسلبنَّك ملكك في العاجل ولاُخربّن مدينتك ولأذلّنّ عزّك ولأطعمنَّ الكلاب لحم إمرأتك فقد غرّك يامبتلي حلمي عنك . فأتاه إدريس عليه‏السلام برسالة ربّه وهو في مجلسه وحوله أصحابه فقال : أيّها الجبّار إنّي رسول اللّه‏ إليكم وهو يقول لك : أما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن 1 ـ اي كانت بصفة الازارقة ، والازارقة فرقة من الخوارج .

2 ـ الداهية : الأمر العظيم .

(126) حتّى إستخلصت أرضه خالصة لك وأحوجت عياله من بعده وأجعتهم ؟ أما وعزّتي لأنتقمن له منك في الآجل ، ولأسلبنّك ملكك في الآجل ، ولأسلبنّك ملكك في العاجل ، ولأخربنَّ مدينتك ، ولأذلّنّ عزّك ، ولأطعمنّ الكلاب لحم إمرأتك . فقال الجبّار : اُخرج عنّي ياإدريس فلن تسبقني بنفسك ، ثم أرسل إلى إمرأته بما جاء به إدريس فقالت : لا يهولنّك رسالة إله إدريس ، أنا أرسل إليه من يقتله فتبطل رسالة إلهه وكلّ ما جاءك به ، قال : فافعلي . وكان لإدريس أصحاب من الرّافضة مؤمنون يجتمعون إليه في مجلس فيأنسون به ويأنس بهم ، فأخبرهم إدريس بما كان من وحي اللّه‏ عزوجلّ إليه ورسالته إلى الجبّار وما كان من تبليغ رسالة اللّه‏ إلى الجبّار فأشفقوا على إدريس وأصحابه وخافوا عليه القتل ، وبعثت امرأة الجبّار إلى إدريس أربعين رجلاً من الأزارقة ليقتلوه ، فأتوه في مجلسه الّذي كان يجتمع إليه فيه أصحابه فلم يجدوه فانصرفوا وقد رآهم أصحاب إدريس فحسّوا أنّهم أتوا إدريس ليقتلوه فتفرّقوا في طلبه فلقوهُ ، فقالوا له : خُذ حذرك ياإدريس فإنّ الجبّار قاتلك ، قد بعث اليوم أربعين رجلاً من الأزارقة ليقتلوك فاخرج من هذه القرية . فتنحّى إدريس عن القرية من يومه ذلك ومعه نفر من أصحابه ، فلمّا كان في السّحر ناجى إدريس ربّه فقال : ياربّ بعثتني إلى الجبّار فبلّغت رسالتك وقد توعّدني هذا الجبّار بالقتل بل هو قاتلي إن ظفر بي ، فأوحى اللّه‏ إليه أن تنحّ عنه وأخرج من قريته وخلّني وإيّاه فوعزّتي لأنفذَّن فيه أمري ولأصدّقنّ قولك فيه وما أرسلتك به إليه . فقال إدريس : ياربّ إنّ لي حاجة ، قال اللّه‏ : سلها تعطها ، قال : أسألك أن لا تمطر السماء على أهل هذه القرية وما حولها وما حوت عليه حتى أسألك ذلك ، قال اللّه‏ عزوجلّ : ياإدريس إذا تخرّب القرية ويشتدّ جهد أهلها ويجوعون ، فقال إدريس : وإن خربت وجهدوا وجاعوا ، قال اللّه‏ : فإنّي قد أعطيتك ما سألت ولن أمطر السّماء عليهم حتى تسألني ذلك وأنا أحقّ من وفى بعهده . (127) فأخبر إدريس أصحابه بما سأل اللّه‏ عزوجلّ من حبس المطر عنهم وبما أوحى اللّه‏ إليه ووعده أن لا يمطر السّماء عليهم حتى أسأله ذلك ، فأخرجوا أيّها المؤمنون من هذه القرية إلى غيرها من القرى ، فخرجوا منها وعدّتهم يومئذ عشرون رجلاً فتفرّقوا في القرى وشاع خبر إدريس في القرى بما سأل اللّه‏ تعالى وتنحّى إدريس إلى كهف في الجبل شاهق فلجأ إليه ووكّل اللّه‏ عزّوجلّ به ملكا يأتيه بطعامه عند كلّ مساء وكان يصوم النّهار فيأتيه الملك بطعامه عند كلّ مساء ، وسلب اللّه‏ عزوجلّ عند ذلك ملك الجبّار وقتله وأخرب مدينته وأطعم الكلاب لحم إمرأته غضبا للمؤمن وظهر في المدينة جبّار آخر عاص . فمكثوا بذلك بعد خروج إدريس من القرية عشرين سنة لم تمطر السماء قطرة من مائها عليهم فجهد القوم وإشتدّت حالهم وصاروا يمتارون الأطعمة(1) من القرى من بعد ، فلمّا جهدوا مشى بعضهم إلى بعض فقالوا : إنّ الّذي نزل بنا ممّا ترون بسؤال إدريس ربّه أن لا يمطر السّماء علينا حتى يسأله هو وقد خفي إدريس عنا ولا علم لنا بموضعه واللّه‏ أرحم بنا منه ، فأجمع أمرهم أن يتوبوا إلى اللّه‏ ويدعوه ويفزعوا إليه ويسألوه أن يمطر السّماء عليهم وعلى ما حوت قريتهم ، فقاموا على الرماد ولبسوا المسوح وحثوا على رؤسهم التّراب(2) ورجعوا إلى اللّه‏ عزوجلّ بالتوبة والاستغفار والبكاء والتضرّع إليه . وأوحى اللّه‏ عزوجلّ إليه ؛ ياإدريس أهل قريتك قد عجّوا إليّ بالتوبة والاستغفار والبكاء والتضرَّع وأنا اللّه‏ الرحمن الرحيم أقبل التوبة وأعفو عن السّيئة وقد رحمتهم ولم يمنعني إجابتهم إلى ما سألوني من المطر إلاّ مناظرتك فيما سألتني أن لا أمطر السماء عليهم حتى تسألني فاسألني ياإدريس حتى اُغيثهم وأمطر السّماء عليهم . قال إدريس : اللّهم إنّي لا أسألك ذلك ، قال اللّه‏ عزوجلّ : ألم تسألني ياإدريس فسلني ، قال إدريس : اللهمّ إنّي لا أسألك . 1 ـ أي يجمعون الأطعمة.

2 ـ حثا التراب : صبّه .

(128) فأوحى اللّه‏ عزوجلّ إلى الملك الّذي أمره أن يأتي إدريس بطعامه كلّ مساء أن إحبس عن إدريس طعامه ولا تأته به ، فلمّا أمسى إدريس في ليلة ذلك اليوم فلم يؤت بطعامه حزن وجاع فصبر ، فلمّا كان في اليوم الثاني فلم يؤت بطعامه إشتد حزنه وجوعه ، فلمّا كانت الليّلة من اليوم الثالث فلم يؤت بطعامه إشتد جهده وجوعه وحزنه وقلّ صبره فنادى ربّه : ياربّ حبست عنّي رزقي من قبل أن تقبض روحي ؟ فأوحى اللّه‏ عزوجلّ إليه : ياإدريس جزعت أن حبست عنك طعامك ثلاثة أيّام ولياليها ولم تجزع ولم تنكر جوع أهل قريتك وجهدهم منذ عشرين سنة ؟ ثم سألتك عن جهدهم ورحمتي إيّاهم أن تسألني أن أمطر السماء عليهم فلم تسألني وبخلت عليهم بمسألتك إيّاي فأذقتك الجوع فقلّ عند ذلك صبرك وظهر جزعك ، فاهبط من موضعك فاطلب المعاش لنفسك فقد وكلتك في طلبه إلى حيلك . فهبط إدريس من موضعه إلى غيره يطلب أكلة من جوع فلمّا دخل القرية نظر إلى دخان في بعض منازلها فأقبل نحوه فهجم على عجوز كبيرة وهي ترقّق قرصتين لها على مقلاة(1) فقال لها : أيّتها المرأة أطعميني فإنّي مجهود من الجوع . فقالت له : ياعبداللّه‏ ما تركت لنا دعوة إدريس فضلاً نطعمه أحدا ـ وحلفت أنّها ما تملك شيئاً غيره ـ فاطلب المعاش من غير أهل هذه القرية ، قال لها : أطعميني ما اُمسك به روحي وتحملني به رجلي إلى أن أطلب . قالت : إنّهما قرصتان واحدة لي والاُخرى لإبني فإن أطعمتك قوتي متُّ وإن أطعمتك قوت إبني مات وما هنا فضل أطعمكاه ، فقال لها : إنّ إبنك صغير يجزيه نصف قرصة فيحيى بها ويجزيني النصف الآخر فأحيى به وفي ذلك بلغة لي وله . فأكلت المرأة قرصها وكسرت القرص الآخر بين إدريس وبين إبنها ، فلمّا رأى إبنها إدريس يأكل من قرصه إضطرب حتى مات ، قالت اُمّه : ياعبداللّه‏ قتلت 1 ـ المقلاة : وعاء يقلى فيه الطعام .

(129) عليّ إبني جزعا على قوته ؟ قال إدريس : فأنا أحييه بإذن اللّه‏ تعالى فلا تجزعي ، ثمّ أخذ إدريس بعضدي الصبيّ ثم قال : أيّتها الروح الخارجة من بدن هذا الغلام بإذن اللّه‏ إرجعي إلى بدنه بإذن اللّه‏ وأنا إدريس النبيّ ، فرجعت روح الغلام إليه بإذن اللّه‏ فلمّا سمعت المرأة كلام إدريس وقوله : أنا إدريس ونظرت إلى إبنها قد عاش بعد الموت قالت : أشهد أنّك إدريس النبيّ وخرجت تنادي بأعلى صوتها في القرية : إبشروا بالفرج فقد دخل إدريس قريتكم ومضى إدريس حتى جلس على موضع مدينة الجبّار الأوّل وهي على تلّ فاجتمع إليه اُناس من أهل قريته فقالوا له : ياإدريس أما رحمتنا في هذه العشرين سنة التي جهدنا فيها ومسّنا الجوع والجهد فيها ؟ فادع اللّه‏ لنا أن يمطر السماء علينا . قال : لا ، حتى يأتيني جبّاركم هذا وجميع أهل قريتكم مشاة حفاة فيسألوني ذلك ، فبلغ الجبّار قوله فبعث إليه أربعين رجلاً يأتوه بإدريس فأتوه فقالوا له : إنّ الجبّار بعث إليك ، لتذهب إليه ، فدعا عليهم فماتوا ، فبلغ الجبّار ذلك فبعث إليه خمسمائة رجل ليأتوه به ، فقالوا له : ياإدريس إنّ الجبار بعثنا إليك لنذهب بك إليه ، فقال لهم إدريس : اُنظروا إلى مصارع أصحابكم فقالوا له : ياإدريس قتلتنا بالجوع منذ عشرين سنة ثم تريد أن تدعوا علينا بالموت أما لك رحمة ؟ فقال : ما أنا بذاهب إليه ، ولا أنا بسائل اللّه‏ أن يمطر السماء عليكم حتى يأتيني جبّاركم ماشيا حافيا وأهل قريتكم ، فانطلقوا إلى الجبّار فأخبروه بقول إدريس واسألوه أن يمضي معهم وجميع أهل قريتهم إلى إدريس حفاة مشاة ، فأتوه حتى وقفوا بين يديه خاضعين له طالبين إليه أن يسأل اللّه‏ لهم أن يمطر السماء عليهم ، فقال لهم إدريس : أمّا الآن فنعم ، فسأل اللّه‏ تعالى إدريس عند ذلك أن يمطر السماء عليهم وعلى قريتهم ونواحيها ، فأظلّتهم سحابة من السماء وأرعدت وأبرقت وهطلت(1) عليهم من 1 ـ هطل المطر : نزل متتابعا متفرقا عظيم القطر .

(130) ساعتهم حتى ظنّوا أنّها الغرق فلمّا رجعوا إلى منازلهم حتّى أهمتهم أنفسهم من الماء(1) . ونستفيد من هذه القصة عدة أمور ، منها : 1 ـ ظلم الملوك والجبابرة وفتكهم برعاياهم . 2 ـ اظهار حيل النساء ومكرهن . 3 ـ استجابة الدعاء من ادريس النبي عليه‏السلام . 4 ـ الإحساس بآلام المستضعفين ، والرحمة الالهية . 5 ـ التمسك بالقول والعمل به . 6 ـ احياء الاموات وأخذ الشهادة منهم باذن اللّه‏ . 7 ـ اذلال الجبابرة والمتكبرين ، باذن اللّه‏ تعالى . قصة نوح عليه‏السلام وبناء السفينة : قال اللّه‏ تعالى : «فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ »(2) . وردت قصة نوح عليه‏السلام في القرآن الكريم وفي سور متعددة وآيات متعددة من اليوم الأول الذي بعثه اللّه‏ تعالى نبياً الى قومه ، والى أن توفاه اللّه‏ . واجه نوح عليه‏السلام الكثير من الآلام والمحن والاستهزاء والسخرية من قومه واستمرت مئات السنوات ، ولم يؤمن به أحد سوى جماعة قليلة ، قليلة من حيث العدد ولكنها كثيرة وقوية من حيث العقيدة والايمان والاستقامة . وبعد أن مكث نوح عليه‏السلام في قومه مئات السنين في سبيل هدايتهم وانقاذهم من براثن الشرك والكفر ، وهدايتهم الى سعادة الدنيا والآخرة ، ولكن مع الأسف 1 ـ البحار : ج11 ص271 .

2 ـ المؤمنون : 27 .

(131) لم يهتدوا ولم يؤمنوا به الاّ مجموعة صغيرة ، وكان كل من يمرّ به يستهزء به ويؤذيه ، عند ذلك وبعد أن يأس من هدايتهم توجه الى اللّه‏ تعالى ودعاه ليعينه على قومه ، «قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ »(1) ، بعد ذلك نزل الوحي الإلهي ، من أجل انقاذ نوح عليه‏السلام واصحابه القلّة وهلاك المشركين المعاندين حيث أمرهُ اللّه‏ أن يصنع السفينة لتكن ملجأً لنجاة المؤمنين الذين آمنوا به ، قال تعالى : «فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا»(2) اي يا نوح إصنع السفينة في هذه الصحراء اليابسة التي لا يوجد فيها ماء ولا زرع ، وسوف تكون تحت حمايتنا ـ ومقابل أعيننا ـ فاعمل باطمئنان وراحة بال ولا تخف من أيّ شيء . وعبارة « وحينا » تكشف لنا أن نوحاً عليه‏السلام تعلم صنع السفينة بالوحي الإلهي ، حيث لم توجد أي سفينة قبل هذا ولم يصنعها أحد قبل نوح . وعندما أخذ نوح عليه‏السلام يصنع السفينة كان قومه يمرون عليه ويسخرون منه ويستهزئون به ويقولون : يا نوح ، يبدو أن دعوى النبوة لم تنفع وصرت نجاراً آخر الأمر . ومنهم من يقول : حسناً يُصنع السفينة ، فينبغي أن تصنع لها بحراً ، أرأيت إنساناً عاقلاً يصنع السفينة على اليابسة . ومنهم من يقول : واهاً لهذه السفينة العظيمة ، كان بإمكانك أن تصنع أصغر منها حتى تتمكن من سحبها الى البحر . كانوا يقولون مثل هذا وغيره ويقهقهون عالياً ، وكانوا يجتمعون عليه ويتفرجون على عمله ... . ولكن نوحاً عليه‏السلام كان يواصل عمله بجدية فائقة واستقامة غير محدودة ، لأنه كان مؤمناً بعمله وواثقاً بربه أنه سينقذه من هؤلاء الجهلة الفسقة ، الذين عميت قلوبهم ، وكان احياناً يرفع رأسه وينظر إليهم ويقول لقومه الذين يسخرون منه : «قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ»(3) اي سوف نسخر 1 ـ المؤمنون : 26 .

2 ـ المؤمنون : 27 .

3 ـ هود : 38 .

(132) منكم في ذلك اليوم الذي يأتي فيه الطوفان بأمرٍ من اللّه‏ وأنتم لا تعرفون ما تصنعون ، ولا ملجأ اليكم وسوف تغرقون جميعاً ويسخر منكم المؤمنين ويضحكون عليكم . «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ»(1) تُشير هذه الآية المباركة الى انه بالرغم من مضايقات الناس لنوح عليه‏السلام أو للمؤمنين ، والآلام الكثيرة التي تصيبهم ، كل هذا سوف يزول ويذهب ، وسوف يفتخر المؤمن ويبقى مرفوع الرأس في تحمل هذه الشدائد ، وكذلك مهما يكن ذلك سوف ينتهي ويزول . أما عذاب الكافرين والمنافقين والمنحرفين سوف يبقى دائماً ويعذب صاحبه على ما ارتكب من خلاف ... . السفينة : لا شكّ أن سفينة نوح عليه‏السلام لم تكن سفينة عاديّة ولم تنتهِ بسهولة مع وسائل ذلك الزمان وآلاته القديمة والضعيفة ، اذ كانت سفينة نوح كبيرة تحمل بالإضافة الى المؤمنين الصادقين زوجين اثنين من كل نوع من الحيوانات ، وتحمل متاعاً وطعاماً كثيراً ليعيش منه الحيوانات والمؤمنون في السفينة حال الطوفان . فإن مثل هذا الاستيعاب يعني أنه كان يوماً لم يسبق له مثيل ، وهذه السفينة ستجري في البحر بسعة العالم ، وينبغي أن تمرّ سالمةً عبر أمواج كالجبال فلا تتحطم بها . وروي ان طول السفينة ، كان الفاً ومئتي ذراع ، وعرضها كان ستمائة ذراع ، كل ذراع يعادل نصف متر مربع تقريباً . وقد ابتليت النساء بالعقم وعدم الإنجاب اربعين عاماً حتى يكبر الأطفال ، ولا يبقى طفل يتضرر بالطوفان ويغرق ، وكل من يبقى من الرجال والنساء على 1 ـ هود : 39 .

(133) الأرض كبار ومكلفين ومتمكنين من معرفة الاحكام الشرعية والإلهية ، وفي نفس الوقت يكون عدم الانجاب مقدمةً لعذابهم وعقابهم أيضاً . وبعد أن أكمل نوح عليه‏السلام بناء السفينة واقترب موعد نزول العذاب ، أخذ يعد القلّة من المؤمنين الذين آمنوا به وبرسالته ويهيّئهم لركوب السفينة ، وكان ينتظر أمر اللّه‏ تعالى «حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ »(1) . كانت العلامة بين نوح عليه‏السلام وربه لحلول الطوفان أن يفور التنور ، ليلتفت نوح وأصحابه الى ذلك ويركبوا السفينة مع وسائلهم واسبابهم . واختلف المفسّرون في معنى التنور وكيفية فورانه ، والمهم فيه هو أن الماء أخذ يفور من تحت الأرض ويرتفع شيئاً فشيئاً ، وبما ان التنور بمعناه الحقيقي يوضع عادةً في مكان يابس ومحلاً للنار ، فأول ما ظهر الماء ظهر من التنور ، حيث انتبه إليه الجميع ورأوا فوران التنور في بيوتهم ، علم نوح وأصحابه القلّة من المؤمنين باقتراب العذاب وأخذوا يركبون السفينة . ولكن بقية الناس غضوا أجفانهم وصمّوا آذانهم كعادتهم ، حتى انهم لم يسمحوا لأنفسهم بالتفكير في هذا الأمر ، حيث استحوذ عليهم الشيطان وانساهم ذكر اللّه‏ ، وكانت نهايتهم الغرق والعذاب الشديد بما كسبت ايديهم ... . كم كان عدد الذين آمنوا بنوح والذين ركبوا معه في السفينة ؟ يشير الى ذلك قوله تعالى : «وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ»(2) والقليل هنا كما ورد عن الروايات القائلة أنه استجاب لنوح خلال هذه الفترة الطويلة ثمانون شخصاً فقط ، وروي غير ذلك ... . ويدل هذا على ما كان عليه هذا النبي العظيم نوح عليه‏السلام من الصبر والاستقامة والتحمل ، في درجة قصوى ، بحيث لو قسّمنا المدّة التي بلّغ بها نوح عليه‏السلام على الذين آمنوا خلال هذه المدة ، نرى في كل عشر سنوات يؤمن به شخص 1 ـ هود : 40 .

2 ـ هود : 40 .

(134) واحد ... . جمع نوح ذويه وأصحابه المؤمنين بسرعة ، وادخلهم السفينة وقال لهم : اركبوا فيها وتوكّلوا على اللّه‏ ... «وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ»(1) . وذلك لكي يعلّهم انه ينبغي أن تكونوا دائماً وفي جميع الحالات في ذكر اللّه‏ تعالى وتستمدوا العون من إسمه وذكره . وأخيراً كانت اللّحظة الحاسمة ، ودقت ساعة الصفر ، إذ صدر الأمر الإلهي ، فتلبدت السماء بالغيوم التي كانت كأنها قطع الليل المظلم ، وتتابعت أصوات الرعد وومضات البرق في السماء كلها ، شرع المطر من السماء وتفجرت الأرض عيوناً ، واتصلت مياه السماء بمياه الأرض ، فلم يبق جبل ولا وادٍ ولا تلعة إلاّ غرق وأصبح تحت الماء ... . وفي هذا الأثناء التفت نوح عليه‏السلام الى ابنه كنعان واقفاً في معزل خاف عليه من الغرق ، ناداه أن اركب معنا يا ولدي ولا تكن مع الكافرين فيصيبك ما يصيبهم من الغرق والهلاك ، ولكن الولد اللجوج العاصي لربه ولأبيه لم يوافق وقال : «قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء» ظنّاً منه حسب فكره القصير أنه ينجو من غضب اللّه‏ ، فأجابه والده نوح ناصحاً له آخر مرة قائلاً : «قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ»(2) . واصبح ابن نوح عليه‏السلام عبرة لمن اعتبر ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ، ولا تفوتكم الفرص ... . دروس تربوية في قصة نوح عليه‏السلام : نستفيد من قصة نوح كثيراً من الدروس التربوية والعبر ، نشير الى قسم منها باختصار وهي : 1 ـ تطهير الأرض ، إن اللّه‏ تبارك وتعالى رحيم ودود ، وحكيم ، ومن 1 ـ هود : 41 .

2 ـ هود : 40 ـ 43 . ولا تنسونني بالدعاء / أخوكم مؤيد السعدي