يا " ذكرياتُ " تَحَشَّدي فِرقا تسَعُ الخيالَ وتملأُ الأُفُقا
وتأهَّبي زُمراً تجهزني محضَ الأسى ، والذُّعرَ ، والقلقا
هُزِّي الرِّتاجَ عليَّ أُحكِمُه وتقحَّمي البابَ الذي انغلقا
الليلُ صُبِّي في قرارتهِ من وحشةٍ ما يفزَعُ الغَسَقا
والريحُ خلِّيها اذا صفِرَت في البيت تُوسِعُ من به فَرقَا
خَلِّي الصغار من الأسى فَزَعاً يتساءلون : من الذي طَرَقا
ودَعي الكِبار يرَوْنَ مدخنَةً فيه ولا يجدون محترِقا
والنَوم من فَزَعِ " الرؤى " يبساً رُدِّيه ، او بدمائها غَرِقا
ليعودَ مما " تنفُثين " به مِسخاً فلا نَوماً ولا أرَقا
والصبحُ رُدِّيه لَمبْسِمه شَرِقاً وبالعبرات مُختنِقاً
ثم اطلِعي من كلِّ زاوية ذاك الجبينَ ووجهَه الطَلِقا
حتى إذا انتصف الأصيل به فتكوّري في صُلبه شَفَقا
ثم اسكُبي نَضْحَ الدماء به ثم ابعَثي من نَشْرها عَبِقا
وتمزّقي قِطَعاً مضرّجةً تمتصُّ من نَضَحاتِه عَلَقا
فكأن فيها الصُلْبَ منغلقاً بجراحه ، والصدرَ منخرقا
يا ذكريات تجسَّدي بَدَناً غضَّ الصِّبَا ، وتعطَّري خُلُقا
عُريانَ : لا خَتَلا ، ولا وَغَراً ضَحْيانَ : لا صَلَفاً ، ولا مَلَقا
لم تتركي من كلِّ شاردةٍ نَمَطاً ، ولا من نأمةٍ نَسَقا
ثم ابدَهيني كلَّ آونةٍ منها بما يستامُني رَهَقا
يا ذكرياتٌ كلُّها حُرقٌ تَطَأ الفُؤادَ ، وتلهبُ الحَدَقا
من لي بشِعرٍ خالقٍ شجناً للناس يُعجزهم بما خَلَقا
هي صُورة حمراءُ من شَجني تُدمي اليَراع وتُرعب الوَرَقا
ليَرىَ الذين تجاهَلوا برَمَاً أسيانَ : كيفُ يُكابد الحُرَقا
من لي باطيافٍ تُراوحني بالهمِّ مُصطبَحاً ومُغتبَقا
متسلسلات كلما وَجَدَتْ فيها فراغاً ، أفَرغَتْ حَلقا
مستجمعات كلَّ خاطرةٍ ما جدَّ من عهدٍ وما خَلِقا
ما كان مثلَ القبر مُختفياً تُبديه مثلَ النجم مُنبثِقا
فَرِحاً ومكتئباً ومختلِطاً بهما ، ومُتَّحداً ، ومفترِقا
من لي بها وكأنَّها بشرٌ عن نفسه يَروي اذا نطَقا
من لي باشباحٍ أنوءُ بها رَسْفَ السجين بقيَدِه عَلِقا
حتى اذا انصَرَمَت بدا شَبَحٌ حُلوٌ يكادُ يُطيرني نَزَقا
طوراً نَروح معاً على ظَمَاً منها ، وطوراً نستَقي غَدَقا
يوماً بقَعر البيت يُوغرنا حَنَقاً ، قضاءٌ مُوغِر حَنِقا
وهُنيهة نرتاد مُرتفِعاً من هَضْب " لبنانٍ " ومُنْزَلِقا
من لي بها تَعتادُ قارئها فَرَقاً ، كما تَعتادني فَرَقا
وتردُّ – مثلي – عيشَه رَنِقاً وتَسُدُّ – مثلي – حَولَه الطُرقا
من لي بشِعرٍ خالقٍ حُرَقاً تطأ الفؤادَ وتُلهِبُ الحَدَقا
ليريُهم القلبينِ قد لَصِقا صِنويَن ، كيف اذا هُما افتَرَقا
واذا هما – والموت بينهما - مدّا من الجْيدينِ فاعتَنَقا
وتساءَلا : ما ضرَّ لو سلكا كَفَناً معاً ، وبحبله عَلِقا
حتى اذا استبقى احرُّهما رَمَقاً ، واسلَمَ خِدنُهُ رَمَقا
وحثا التُرابَ بوجهه قَدَرٌ عبّا لكل مُفارق طَبَقا
وانداحَتِ الدنيا بناظرِه حتى لظَنَّ رحابَها نَفَقا
ومضى حسابُّهما برُمَّته ما انفكَّ من دَين وما انغَلَقا
صَفَقَ اليدين كأنَّ مرتجِعاً يرجُو لصاحِبه بما صَفَقا
وكأنما يُعطي الشقيقَ دماً ان الشقيقَ بدمعه شَرِقا
وكأنما انشقَّ الضريحُ له بـ " رعى السحابُ ضريحَه وسَقَى "
محمد مهدي الجواهري
منقول