بسم الله الرحمن الرحيم
رَبَّنَا وَ اجْعَلْنَا مُسلِمَينِ لَك وَ مِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسلِمَةً لَّك وَ أَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَ تُب عَلَيْنَا إِنَّك أَنت التَّوَّاب الرَّحِيمُ(128)
القراءة
قرأ ابن كثير أرنا بإسكان الراء كل القرآن و وافقه ابن عامر و أبو بكر عن عاصم في السجدة ربنا أرنا الذين و قرأ أبو عمرو بالاختلاس لكسرة الراء من غير إشباع كل القرآن و الباقون بالكسر .
الحجة
الاختيار كسرة الراء لأنها كسرة الهمزة قد حولت إلى الراء لأن أصله أرانا فنقلت الكسرة إلى الراء و سقطت الهمزة و لأن في إسكان الراء بعد سقوط الهمزة إجحافا بالكلمة و إبطالا للدلالة على الهمزة و من سكنه فعلى وجه التشبيه بما يسكن في مثل كبد و فخذ و نحو قول الشاعر :
لو عصر منه ألبان و المسك انعصر ) و قال الآخر :
قالت سليمى اشتر لنا سويقا
و اشتر و عجل خادما لبيقا و أما الاختلاس فلطلب الخفة و بقاء الدلالة على حذف الهمزة .
اللغة
الإسلام هو الانقياد لأمر الله تعالى بالخضوع و الإقرار بجميع ما أوجب الله و هو و الإيمان واحد عندنا و عند المعتزلة و في الناس من قال بينهما فرق و يبطله قوله سبحانه إن الدين عند الله الإسلام و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه و المناسك هاهنا المتعبدات قال الزجاج كل متعبد منسك و النسك في اللغة العبادة و رجل ناسك عابد و قد نسك نسكا و النسك الذبيحة يقال من فعل كذا فعليه نسك أي دم يهريقه و النسيكة الذبيحة و المنسك الموضع الذي تذبح فيه النسائك و المنسك أيضا هو النسك نفسه قال سبحانه و لكل أمة جعلنا منسكا و قال ابن دريد النسك أصله الذبائح كانت تذبح في الجاهلية و النسيكة شاة كانوا يذبحونها في المحرم في الإسلام ثم نسخ ذلك بالأضاحي قال الأعشى : و ذا النصب المنصوب لا تنسكنه
و لا تعبد الشيطان و الله فاعبدا قال أبو علي الفسوي المناسك جمع منسك و هو المصدر جمع لاختلاف ضروبه .
الإعراب
اللام في لك تعلق بمسلمين « و من ذريتنا » من فيه تتعلق بمحذوف تقديره و اجعل من ذريتنا و الجار و المجرور مفعول اجعل و أمة مفعول ثان لأجعل و أرنا يحتمل وجهين
( أحدهما ) أن يكون منقولا من رأيت الذي هو بمعنى إدراك البصر نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين و التقدير حذف المضاف كأنه قال أرنا مواضع مناسكنا أي عرفناها لنقضي نسكنا فيها و ذلك نحو مواقيت الإحرام و الموقف بعرفات و موضع الطواف فهذا من رأيت الموضع و أريته إياه
( و الآخر ) أن يكون منقولا من نحو قولهم فلان يرى رأي الخوارج فيكون معناه علمنا مناسكنا و مثله قول الشاعر :
أريني جوادا مات هزلا لعلني
أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا أراد دليني و لم يرد رؤية العين .
المعنى
ثم ذكر تمام دعائهما (عليهماالسلام) فقال سبحانه : « ربنا و اجعلنا مسلمين لك » أي قال ربنا و اجعلنا مسلمين في مستقبل عمرنا كما جعلتنا مسلمين في ماضي عمرنا بأن توفقنا و تفعل بنا الألطاف التي تدعونا إلى الثبات على الإسلام و يجري ذلك مجرى أن يؤدب أحدنا ولده و يعرضه لذلك حتى صار أديبا فيجوز أن يقال جعل ولده أديبا و عكس ذلك إذا عرضه للبلاء و الفساد جاز أن يقال جعله ظالما فاسدا و قيل أن معنى مسلمين موحدين مخلصين لك لا نعبد إلا إياك و لا ندعو ربا سواك و قيل قائمين بجميع شرائع الإسلام مطيعين لك لأن الإسلام هو الطاعة و الانقياد و الخضوع و ترك الامتناع و قوله « و من ذريتنا أمة مسلمة لك » أي و اجعل من ذريتنا أي من أولادنا و من للتبعيض و إنما خصا بعضهم لأنه تعالى أعلم إبراهيم (عليه السلام) أن في ذريته من لا ينال عهده الظالمين لما يرتكبه من الظلم و قال السدي أراد بذلك العرب و الصحيح الأول أمة مسلمة لك أي جماعة موحدة منقادة لك يعني أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) بدلالة قوله و ابعث فيهم رسولا منهم و روي عن الصادق أن المراد بالأمة بنو هاشم خاصة و قوله « و أرنا مناسكنا » أي عرفنا هذه المواضع التي تتعلق النسك بها لنفعله عندها و نقضي عباداتنا فيها على حد ما يقتضيه توفيقنا عليها قال قتادة فاراهما الله مناسكهما الطواف بالبيت و السعي بين الصفا و المروة و الإفاضة من عرفات و من جمع و رمي الجمار حتى أكمل بها الدين و قال
عطاء و مجاهد معنى مناسكنا مذابحنا و الأول أقوى و قوله « و تب علينا » فيه وجوه
( أحدها ) أنهما قالا هذه الكلمة على وجه التسبيح و التعبد و الانقطاع إلى الله سبحانه ليقتدي بهما الناس فيها و هذا هو الصحيح
( و ثانيها ) أنهما سألا التوبة على ظلمة ذريتهما
( و ثالثها ) أن معناه ارجع إلينا بالمغفرة و الرحمة و ليس فيه دلالة على جواز الصغيرة عليهم أو ارتكاب القبيح منهم لأن الدلائل القاهرة قد دلت على أن الأنبياء معصومون منزهون عن الكبائر و الصغائر و ليس هنا موضع بسط الكلام في ذلك « إنك أنت التواب » أي القابل للتوبة من عظائم الذنوب و قيل الكثير القبول للتوبة مرة بعد أخرى « الرحيم » بعباده المنعم عليهم بالنعم العظام و تكفير السيئات و الآثام و في هذه الآية دلالة على أنه يحسن الدعاء بما يعلم الداعي أنه يكون لا محالة لأنهما كانا عالمين بأنهما لا يقارفان الذنوب و الآثام و لا يفارقان الدين و الإسلام .
مجمع البيان ج : 1 ص : 393
مجمع البيان ج : 1 ص : 394
منقول