ماتا هاري .. أشهر راقصة وأشهر جاسوسة ‏



عجيبة هي تصاريف الزمان، فأحوال الإنسان وأفكاره متقلبة كما الأيام والسنين. ترى الملحد يصير متدينا ‏والمتدين ينقلب زنديقا! والمتسول يصبح ثريا وربة المنزل العفيفة تغدو من راقصات الملاهي!! .. الخ. هكذا هي ‏الدنيا. وقصتنا لهذا اليوم تتحدث عن تقلب الأحوال وأين قد ينتهي المطاف بالإنسان من حيث يعلم ولا يعلم. ‏والغاية من هذه القصة عزيزي القارئ أن نصبح أكثر إنصافا في نظرتنا للناس وأكثر تفهما للظروف التي قد تدفع ‏البعض إلى ممارسات قد نستهجنها ولا نقبل بها، فبنات الهوى مثلا لا يقدمن أجسادهن لأنهن يعشقن ممارسة ‏الجنس مع الغرباء، لا طبعا .. لكن لأنهن بحاجة إلى المال، وأحيانا لمجرد وجبة طعام أو مبيت ليلة. وماتا هاري ‏أيضا لم تتحول من فتاة مدللة إلى راقصة تعر ثم إلى جاسوسة لأنها أرادت ذلك، لكن أجبرتها الظروف و.. ‏تصاريف الزمان!.‏
كان صباحا باردا لكنها لم تكن ترتجف، لم تهزها برودة الجو ولا فوهات البنادق المصوبة نحوها ولا ذلك الضابط الشاب الذي تقدم منها حاملا قطعة قماش بيضاء ليعصب بها تلك العينين الجميلتين التي طالما صرعت بسحرها أشهر رجالات وزعماء أوربا.
رفضت أن تعصب عينيها وقررت مواجهة الموت المتربص في عيون جنود كتيبة الإعدام برباطة جأش وسكينة قد يحسدها عليها أشجع الرجال.
ماذا دار في ذهنها في تلك اللحظات الأخيرة؟ هل تذكرت تلك الحياة الحافلة التي أوصلتها إلى هذه البقعة التي تقف عليها اليوم في مواجهة الموت؟ لا احد يعلم، لكنها لم تكن خائفة ولا بدت حزينة ولم تطرف عينها لدوي البنادق وهي تهدر مطلقة رصاصات الموت التي استقر بعضها في ذلك الجسد الرشيق الأهيف.
ما حدث بعد ذلك لم يكن شبيها بما نشاهده في الأفلام، لم تصرخ أو تتلوى من الألم ولا اندفعت إلى الوراء مطوحة بذراعيها في الهواء ولم يندفع الدم من صدرها كرشاش مائي ليصبغ بلونه الأحمر القاني تلك البقعة الترابية حيث سقطت جثتها هامدة بلا حراك. لا عزيزي القارئ لم يحدث أي شيء من هذا القبيل، لكنها ببساطة انهارت بالتدريج كأنها بناء شامخ يترنح ثم يهوي إلى الأرض باستقامة وثبات. جثت على ركبتيها أولا، رأسها مرفوعة إلى الأعلى ومن دون أن تظهر على قسمات وجهها أي تعابير للألم أو الانزعاج، بدت للحظات كما لو أنها تحدق إلى فراغ ثم هوت ببطء إلى الخلف وتمددت على ظهرها ليصبح وجهها بمواجهة السماء الزرقاء الصافية التي كانت هي أخر ما شاهدته تلك العيون الجميلة في صباح ذلك اليوم الدامي.
على بعد أمتار معدودة وقفت راهبتان تبكيان بحرقة, كانتا رفيقتاها خلال أيامها الأخيرة في السجن، والى جوار الراهبتين وقف محاميها وعشيقها يغالب دموعه وهو يراقب بأسى ذلك الضابط الشاب المفتول الشاربين يتقدم حاملا مسدسه ليطلق منه رصاصة الرحمة الأخيرة على رأس تلك الحسناء الصريعة التي كانت لسنوات محط أنظار الرجال والنساء أينما حلت وارتحلت.



البداية من هولندا




ولدت مارجريتا غيرترود زيل في إحدى مدن هولندا الصغيرة عام 1873، البنت البكر بين أربعة أطفال لأبوين هولنديين. كان والدها آدم زيل يمتلك متجرا صغيرا لبيع القبعات، لم يكن المتجر يدر عليه الكثير من المال لكن السيد زيلي حقق ثروة صغيرة من خلال استثمار أمواله في صناعة النفط. كانت مارجريتا ابنته الوحيدة وطفلته المدللة، كان يناديها بـ "أميرتي الصغيرة" ويوليها اهتماما يفوق أشقاءها الثلاثة.
كانت طفولة مارجريتا سعيدة وهادئة، لكن عناية والدها الخاصة بها تركت أثرا مدمرا على شخصيتها إذ أفسدها الدلال وعزز لديها صفات الغرور والأنانية كما جعلها تتطلع دائما إلى جذب انتباه الرجال وتتوقع منهم دائما الاهتمام والعطاء.

سعادة مارجريتا لم يكن مقدرا لها أن تدوم طويلا، ففي عام 1889 خسر والدها جميع استثماراته في صناعة النفط وأشهر إفلاسه، ومع غياب المال بدئت المشاكل والمعارك تثور بين والديها لأتفه الأسباب حتى وقع الطلاق بينهما وغادر الأب الحنون منزل العائلة إلى الأبد.
ولأن المصائب عادة ما تأتي معا، لذلك لم تلبث والدة مارجريتا أن ماتت عام 1891 فانتقلت الفتاة للعيش في منزل جدها الذي كان عجوزا قاسيا ومتسلطا إلى ابعد الحدود.



الزواج والسفر إلى اندونيسيا


في مراهقتها تفتحت مارجريتا مثل وردة وحشية، جمال غجري غريب لم تعهده شقراوات هولندا، عينين سوداويين واسعتين وشعر اسود فاحم تناثرت خصلاته الطويلة حول ذلك الرأس الجميل بدون عناية. بدئت أنظار الرجال تنجذب إليها كالمغناطيس وصارت عيونهم النهمة تطاردها في مجيئها ورواحها، الفتاة نفسها لم تكن بريئة من تهمة إغواء الرجال لأنها شعرت مبكرا بسحرها وتأثيرها عليهم، وقد مارست ذلك السحر في سن السادسة عشرة حين ضاجعت مدير مدرستها!! مما أدى إلى فضيحة مدوية انتهت بفصلها من المدرسة رغم إصرارها على أن المدير هو من استدرجها وأغواها. بعد ذلك اجبرها جدها المتسلط على أن تبقى حبيسة جدران المنزل، إلا أن الشمس لا تحجب بغربال وطبيعة تلك الفتاة المتمردة لم تكن لترضخ أبدا لأوامر ذلك العجوز المتزمت لذلك لم تلبث أن فرت مارجريتا من منزله والتجأت إلى احد أعمامها.
في الثامنة عشر من العمر طفح كيل مارجريتا بسبب حياتها المملة في كنف أقاربها وبدئت تبحث عن طريقة تحررها من قيود المجتمع الصارمة آنذاك، وقد وجدت ضالتها في إعلان قرأته في إحدى الصحف الهولندية عن ضابط في الجيش يبحث عن زوجة. كانت مارجريتا من ضمن من استجابوا للإعلان وما أن رآها الضابط رودولف ماكلويد حتى افتتن بجمالها الخلاب ولم يتردد لحظة في اتخاذ قرار الاقتران بها.
كان رودولف يكبرها بـ 22 عاما، لكن مارجريتا لم تبال لذلك وتزوج الاثنان بعد مرور ثلاثة شهور فقط على لقائهما الأول. ثم سرعان ما بدئت المشاكل، اكتشفت ماجريتا بأن زوجها سكير مدمن على الخمر وانه غارق في الديون حتى ذقنه، والطامة الكبرى هي إصابته بمرض الزهري (Syphilis ) من دون أن يخبرها بذلك. أما رودولف فقد اكتشف أن زوجته مسرفة إلى ابعد الحدود كما بدء يشك في إخلاصها.

أنجبت مارجريتا ولدا وبنت ورافقت زوجها عندما تم نقله إلى محل عمله القديم في جزيرة جاوة الاندونيسية، هناك تفاقمت مشاكل الزوجين خصوصا بعد أن اكتشفت مارجريتا بان زوجها لديه زوجة محلية لم يخبرها بشأنها سابقا. وفي نفس الوقت أصبح مكلويد غيورا جدا على زوجته لأنها أصبحت محط أنظار جميع الضباط، كان جمالها غريبا بالنسبة إلى امرأة أوربية هولندية، عيناها وشعرها السوداويين وبشرتها الداكنة جعلت العديد من السكان المحليين يظنون أنها من أصول اندونيسية، احد الضباط وصفها كالآتي

"طريقة مشيها المغرية، عيناها السوداويين وطريقة تصفيف شعرها الفاحم، كل ذلك مجتمعا كان يبعث إلى عقول الرجال إشارات تشف عن طبيعتها الجنسية الشبقة. كان بإمكانها إضرام نار الشهوة في نفوس جميع الرجال ونار الحسد لدى جميع النساء، كانت الجميع ينظر إليها على أنها امرأة خطرة .. أنانية ولعوب".
رودولف ضبط زوجته مرتين في أحضان زملائه الضباط، كما هجرته لعدة شهور لتعيش بصحبة ضابط آخر، غالبا ما كانت علاقاتها مع الرجال الآخرين تهدف إلى مجرد إغضاب زوجها وكان هو يرد على نزواتها بضربها بقسوة، وقد زاد النفور بين الزوجين بعد وفاة ابنهما البكر بصورة غامضة عام 1899، الزوجان زعما أن أعداءهما قاما بوضع السم في طعام طفليهما، لكن الرواية الأقرب إلى الواقع هي أن الطفل مات بسبب مرض الزهري الذي ورثه عن والده.
خلال سنواتها في اندونيسيا أخذت مارجريتا تتعلم الثقافة والرقص المحلي في محاولة للفرار من مشاكلها اليومية مع زوجها، كما أطلقت على نفسها اسما جديدا هو ماتا هاري (Mata Hari ) ومعناه الشمس او "عين النهار" في اللغة المحلية.


السفر الى باريس

في عام 1902 عاد الزوجان إلى هولندا ليعيشا منفصلين (تطلقا عام 1906)، وإمعانا في إيذائها، قام رودولف بمنع ماتا هاري من رؤية ابنتها كما نشر إعلان صغيرا في جريدة محلية محذرا فيه من التعامل ماديا مع زوجته لأنه لا يتحمل أي مسؤولية عن سداد ديونها للآخرين، وقد كان لهذا الإعلان تأثير مدمر على ماتا هاري التي كانت مفلسة تماما، لذلك قررت السفر إلى باريس تاركة وراءها ابنتها الوحيدة التي لن تراها مرة أخرى.
في باريس اشتغلت ماتا هاري كموديل وكراقصة في سيرك، ثم استعانت بخبرتها السابقة في الرقص الشرقي فقامت باختراع ما أسمته بـ "الرقص المقدس" الذي زعمت بأن الراقصات الهندوسيات في جزيرة جاوة يمارسنه في المعابد، كان تلفيقا عجيبا بين الرقص الهندي والبوذي والفرعوني وقد زاد من جاذبيته جمال ماتا هاري والغموض الذي أحاطت نفسها به عبر زعمها الكاذب بأنها ابنة راقصة معبد هندية توفت أثناء ولادتها وأنها أمضت طفولتها في أدغال جاوة الاستوائية، وقد ساهمت ملامحها الشرقية في أن يصدق الناس هذه الأكاذيب.
العري والخلاعة كانا بضاعة ماتا هاري الحقيقية وكانا العامل الأهم في جذب الأنظار إليها، خصوصا أنظار الرجال، كانت تتلوى بغنج ودلال وهي ترتدي ثوبا شفافا يشف عن جميع مفاتنها، وأثناء الرقص كانت تخلع ملابسها قطعة فقطعة حتى لا يبقى عليها سوى قرصين ذهبيين صغيرين بالكاد يغطيان نهديها. كانت ماتا هاري نادرا ما تكشف عن نهديها، ليس احتشاما بالطبع، لكن لأنها كانت تعاني عقدة نقص لازمتها حتى النهاية بشأن حجم ثدييها الصغيران.
بالتدريج أخذت ماتا هاري تؤدي رقصاتها في المسارح وأيضا في حفلات خاصة تقام في قصور الطبقة النبيلة في فرنسا، بدئت الأموال تتدفق عليها من كل حدب وصوب من عشاقها والراغبين بجسدها الذين كانوا يتزايدون يوما بعد أخر، ماتا هاري وصفت حياتها خلال تلك الفترة قائلة :

"الليلة أتعشى مع الكونت "أ" وفي اليوم التالي مع الدوق "ب". وإذا لم يكن لدي رقص فسأذهب برحلة مع الماركيز "س"، دوما أتجنب الارتباطات الجدية واحرص على إشباع جميع رغباتي ونزواتي".

لكن المال السريع كان ينضب بسرعة اكبر لأن ماتا هاري كانت مسرفة إلى ابعد الحدود، كانت تسكن في أرقى الفنادق وتلبس أغلى الملابس وتسافر بشكل مستمر


بداية النهاية

لم تقتصر شهرة ماتا هاري على فرنسا ولكنها قامت بالعديد من الرحلات إلى مختلف العواصم الأوربية فاكتسبت شهرة كبيرة برقصاتها الساحرة واكتسبت المزيد من العشاق. لكن الأمور بدئت تتغير مع حلول عام 1908، إذ أخذت شهرتها بالانحسار، لم يعد رقصها العاري شيئا جديدا ومبهرا مثلما كان في البداية وأخذت الكثير من المسارح تمتنع عن عرض رقصاتها تحت تأثير النقاد الذين اعتبروا رقصها فنا هابطا لا يستحق المشاهدة. لكن رغم انحسار مواردها المالية استمرت ماتا هاري في حياة البذخ والإسراف التي اعتادت عليها بالاعتماد على ما يجود به عليها عشاقها.
في عام 1914 حانت لماتا هاري فرصة ذهبية لتحسين وضعها المالي واستعادة مجدها القديم حين تعاقدت للرقص مدة ستة شهور على خشبة مسرح الميتروبول في برلين، لكنها لم تقدم سوى عدة عروض حتى اندلعت الحرب العالمية الأولى في نفس العام فتوقف عملها وامتنع الألمان عن دفع أجورها فساءت أمورها المالية حتى أنها عجزت في دفع أجرة الفندق الذي كانت تقيم فيه وتمت مصادرة ملابسها وفراءها، ولم تستطع مغادرة المدينة إلا بعد أن جاد عليها احد التجار الهولنديين بثمن تذكرة القطار إلى أمستردام.

من راقصة إلى جاسوسة!



في هولندا أمضت ماتا هاري عدة شهور بصحبة احد الأغنياء، كانت مفلسة تماما وبحاجة إلى المال، لذلك لم تتردد في قبول المال الذي قدمه لها القنصل الألماني حين زارها فجأة في أمستردام، الرجل رص على المنضدة إمامها عشرين ألف فرنك مقابل تعاونها مع جهاز المخابرات الألماني ورفده بالمعلومات التي يمكن أن تحصل عليها من عشاقها وأصدقاءها ذوي النفوذ في فرنسا. ماتا هاري لم تأخذ ما يقوله القنصل على محمل الجد، لذلك وافقت من دون أن تفكر كثيرا في العواقب، وقد أعطاها القنصل رمزا حركيا هو (H21 ).
بعد أن توفر لديها المال حاولت ماتا هاري العودة إلى فرنسا عبر بريطانيا لتجنب المرور بالجبهة. وفي انجلترا ألقى ضباط المخابرات الانجليز القبض عليها وقاموا بتفتيشها واستجوابها، كانت لديهم معلومات استخباراتية حول تجنيدها من قبل الألمان لكنهم أطلقوا سراحها وسمحوا لها بالسفر إلى فرنسا لأنهم لم يجدوا معها أي شيء يثبت أنها جاسوسة، لكنهم لم ينسوا طبعا إرسال تحذير بشأنها إلى المخابرات الفرنسية الحليفة.
في باريس استأنفت ماتا هاري حياتها الصاخبة، حفلات رقص ومجون كما في الأيام الخوالي، وعشاق هائمون من كبار السياسيين والضباط، بدا كل شيء طبيعيا في باريس، لكن ما لم تكن ماتا هاري تعلمه هو وجود رجلين من عملاء الشرطة السرية الفرنسية يراقبانها مثل ظلها على مدار الساعة.
ماتا هاري اعتادت على الدخول في علاقات سريعة مع الرجال من اجل المال، البعض كان يعتبرها مجرد عاهرة، وهو بالضبط رأي رجال الشرطة السرية فيها. لكن حتى العاهرة لها قلب ويمكن أن تعشق وتحب. وقد توله قلب ماتا هاري بغرام ضابط روسي شاب يصغرها بثمانية عشر عاما. كان حبيبها يحارب في منطقة تقع في أقصى الجبهة الفرنسية وكان الوصول إلى هناك يتطلب إذنا خاصا من الشرطة السرية الفرنسية، ومقابل الحصول على الإذن المنشود اشترطت عليها الشرطة السرية التجسس لصالح فرنسا فوافقت ماتا هاري على الفور من دون أن تفكر بعواقب قراراتها كما هو شأنها دوما.
بعد عودتها من رحلتها الغرامية بصحبة حبيبها الروسي استدعت الشرطة السرية ماتا هاري وقامت بتكليفها بأول مهامها التجسسية، كانت المهمة تتطلب الوصول إلى بلجيكا المحتلة آنذاك من قبل الألمان لجمع المعلومات العسكرية عن طريق بعض عشاقها السابقين من الضباط الألمان، وقد وعدتها الشرطة السرية الفرنسية بالحصول على ملايين الفرنكات مقابل أي معلومات ذات قيمة حقيقية تبعثها لهم.
كان الوصول إلى بلجيكا يتطلب السفر إليها عبر أراضي دولة محايدة لذلك سافرت ماتا هاري إلى اسبانيا لتبحر منها إلى غايتها، لكنها لم تغادر اسبانيا أبدا لأنها اكتشفت استحالة الوصول إلى بلجيكا في ظل ظروف الحرب الحالية، لذلك استقرت في مدريد لعدة شهور أقامت خلالها علاقة حميمة مع الملحق العسكري في السفارة الألمانية، وعن طريق علاقتها مع الملحق أخذت تبعث للفرنسيين معلومات حول تحركات الألمان في شمال إفريقيا.
عادت ماتا هاري إلى باريس واستأنفت حياتها كالمعتاد، لكن في عام 1917 تمكن الفرنسيين من اعتراض رسالة ألمانية مشفرة عبر الراديو بعثتها السفارة الألمانية في اسبانيا إلى برلين، كانت الرسالة تتضمن معلومات عن عميل ألماني مهم يحمل الرقم (H21 )، ولأن الفرنسيين كانوا يعلمون سابقا بأن هذا الرمز يعود لماتا هاري لذلك سرعان ما قاموا بإلقاء القبض عليها بتهمة التجسس وتمت محاكمتها بتهمة التسبب بمقتل الآلاف من الجنود الفرنسيين، صدر حكم الإعدام عليها رميا بالرصاص ولم تستطع التماساتها ولا أصدقاءها ذوي النفوذ من تغيير الحكم الذي تم تنفيذه في صبيحة يوم 15 تشرين الأول / أكتوبر عام 1917



هل كانت ماتا هاري جاسوسة حقا؟


ربما تكون أكثر الأسئلة وعلامات الاستفهام المثارة حول حياة ماتا هاري تتعلق في طبيعة عملها كجاسوسة مزدوجة، بعض المؤرخين يعتقدون بأن ماتا هاري كانت جاسوسة حقيقية وأنها أرسلت حقا معلومات خطيرة إلى الألمان عن طريق جمع المعلومات من عشاقها السياسيين والضباط الفرنسيين. في حين أن هناك فريق أخر من المؤرخين يعتقدون أن ماتا هاري كانت في الحقيقة امرأة ساذجة وجشعة وقعت ضحية للعبة قذرة بين ضباط المخابرات الأوربية آنذاك، فالانكليز كانوا يعلمون بشأن تجنيدها من قبل الألمان وكذلك الفرنسيين ولكنهم مع ذلك لم يعتقلوها حين عادت إلى فرنسا أول مرة بعد نشوب الحرب. والعجيب في القضية كلها هو أن الرسالة المشفرة التي أرسلت من قبل القنصلية الألمانية في اسبانيا إلى برلين بدت كأنها تتعمد تسليم ماتا هاري للفرنسيين لأن الألمان كانوا يعلمون جيدا بأن المخابرات الفرنسية ستعترض رسالتهم كما كانوا متأكدين من أن شفرة رسالتهم مكشوفة وتم فك رموزها من قبل الفرنسيين منذ مدة طويلة. ويبقى السؤال لماذا لم يعتقلها الحلفاء مع علمهم بتجسسها للألمان ولماذا قام الألمان بتسليمها للحلفاء؟ سر ربما سيبقى طي الكتمان لعدة سنوات أخرى، أي حتى عام 2017، وهو تاريخ الإفراج عن وثائق محاكمة ماتا هاري التي لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعد مرور قرن من الزمان حسب القانون الفرنسي.


ومن مفارقات الزمان عزيزي القارئ هو أن هذه الحسناء التي كانت يوما ما محط أنظار رجالات أوربا لم ينتبه احد لموتها ولم يتقدم أي شخص للمطالبة بجثتها بعد إعدامها لذلك تم التبرع بالجثة للأغراض الطبية في حين تم تحنيط رأسها ووضع في متحف علم التشريح في فرنسا، لكن الرأس اختفى بشكل غامض خلال الحرب العالمية الثانية ولا يعلم احد بمصيره حتى اليوم.
ابنة ماتا هاري الوحيدة ماتت في عز شبابها عام 1919 بعد سنتين فقط من إعدام والدتها.