يعد مصطلح الحروب الصليبية نتاج عدد من التطورات التاريخية، والمفارقات الغريبة المدهشة في التاريخ الأوروبي وفي التاريخ العربي على حد سواء. فلقد بدأت أحداث الحركة الصليبية الفعلية في السابع والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1095م بالخطبة التي ألقاها البابا أربان الثاني (1088-1099م) في حشود المستمعين الذين اجتمعوا في حقل فسيح في أوفريني بكليرمون في جنوب فرنسا. وكانت هذه الخطبة الشهيرة خاتمة مجمع ديني عقده البابا، بعد أن جمع الأساقفة لمناقشة أحوال الكنيسة الكاثوليكية المتردية. ويرى كثير من الباحثين أن الدعوة التي وجهها البابا بشن حملة تحت راية الصليب ضد المسلمين في فلسطين كانت بمثابة أذن للدخول إلى رحاب التاريخ. إذ منذ ذلك الحين كانت الحركة الصليبية، ولا تزال، مثار جدل ونقاش، وموضعا للبحث والدراسة، وربما إلهاما أيضا للفن والأدب. ولعل من النادر أن نجد في تاريخ الإنسانية ظاهرة كان نصيبها من الخيال من جهة والدراسة من جهة أخرى أكثر مما كان للحركة الصليبية.
لقد ظلت الحركة الصليبية تحكم الأفكار والمشاعر في الغرب الأوروبي فيما بين سنة 1095م وسنة 1400م بصورة شبه شاملة، ولذا فإنها تعد واحدة من القوى الكبرى التي حركت تاريخ الغرب الأوروبي، بحيث لا نكاد نجد كاتبا معاصرا لم يشر في كتاباته إلى إحدى الحملات الصليبية، أو إلى مصير الدويلات التي قامت أثناءها فوق الأرض العربية، كما ظلت للحروب الصليبية جاذبيتها في أوروبا الغربية حتى القرن الثامن عشر.
لقد كانت الحروب الصليبية تشكل جزءا حيا وحيويا من عالم خمسة عشر جيلا من أبناء الغرب الأوروبي؛ إذ أن مئات الألوف منهم قد شاركوا بأنفسهم في حملة أو أكثر من هذه الحملات، كما أن آلافا عديدة من أبناء الغرب الأوروبي ساهموا بأموالهم في تمويل حملة أو أكثر من هذه الحملات. ومن ناحية أخرى، كانت أحداث الحروب الصليبية تشغل بال الكثيرين ممن لم يشاركوا بالنفس أو بالمال.
أما العالم العربي فقد كان الطرف الذي وجهت إليه أوروبا الكاثوليكية عدوانها تحت راية الصليب. وعلى مدى الفترة ما بين أواخر سنة 1096م، وسنة 1291م قامت عدة مستوطنات صليبية على التراب العربي في فلسطين وأعالي بلاد الشام والجزيرة. وتعين على سكان هذه المنطقة العربية أن يدفعوا ثمنا فادحا لكي يقضوا على الكيان الصليبي من جهة، ويتصدوا للمشروعات والغارات الصليبية المتأخرة من جهة أخرى.
لقد كانت «الحروب الصليبية» أو «حروب الفرنج» كما سماها العرب الذين عاصروها، سببا رئيسيا من أسباب تعطل قوى الإبداع والنمو في الحضارة العربية الإسلامية. وبعد نهاية النضال ضد الصليبيين دخلت المنطقة العربية في منحنى التدهور والأفول الذي أدى بدورة إلى سقوط العالم العربي تحت سيادة الدولة العثمانية.
وإذا كان العثمانيون قد حافظوا على العالم العربي من السقوط في براثن السيطرة الاستعمارية على مدى عدة قرون، فإنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا لبث الروح في جسد الحضارة العربية الإسلامية المسجى، بل إنهم لم يحاولوا أن يبثوا مثل هذه الروح. ثم انتهى هذا التوقف الحضاري إلى نهايته المحتومة التي أدت إلى حال الاستعمار والتبعية التي لا نزال نعانيها حتى اليوم. إذ أن أحدا لا يمكن أن يتجاهل علاقة ما جرى منذ عدة قرون بما يحكم اليوم علاقتنا بالغرب الأوروبي والأمريكي، كما أن أحدا لا يستطيع أن يغض النظر عن حقيقة أن الحملات الصليبية ضد الشرق العربي كانت أول المشروعات الاستعمارية الأوروبية من ناحية، وأنها كانت السابقة أو التجربة التي سبقت مرحلة الاستعمار الحديث من ناحية ثانية؛ فضلا عن أنها كانت إلهاما للتجربة الصهيونية ذات الأهداف الاستيطانية من جهة ثالثة، وهذا ما يجعل الحركة الصليبية جديرة بالدراسة والتأمل.