تزوجا في الجاهلية.. وكان رسول الله قد وافق على مصاهرته فور تقدمه لزينب ابنته الكبرى، فهو ابن هالة بنت خويلد أخت السيدة خديجة، كما انه “نعم الصهر والنسب” كما أعلنها رسولنا الكريم. ولكن جاءت الرسالة لتكون بداية لفراق طويل.. ومرير.. بين الحبيبين .
كافر..نعم .. ولكنني أحبك!
كان أبو العاص يتغنى بحبه لزينب في كل وقت. فكان حين يخرج في القوافل التجارية يؤلف ويردد الشعر الذي يعبر عن شوقه لزوجته الحبيبة. وكان هذا الحب يغلف كل مواقفهما معاً، حتى في أوقات المحن…
ففي اليوم الذي سمع فيه أبو العاص بما يقوله المشركون عن الرسول الكريم، ذهب إلى زوجته الحبيبة يشكو لها ضيقه، فإذا بها تعلن له أنها أسلمت! فماذا كان رد فعله؟
لم يثر ويتهمها بخداعه بل اعتذر لها بمنتهى اللطف والرقة قائلاً: :” والله ما أبوك عندي بمتهم، وليس أحب إليّ من أن أسلك معك يا حبيبة في شعب واحد، ولكني أكره لك أن يقال: إن زوجك خذل قومه وكفر بآبائه إرضاء لامرأته فهلا عذرت وقدرت “..
وعندما قرر المشركون أن تطلق بنات الرسول من رجال قريش، وكان له في ذلك الحين ثلاث بنات متزوجات من القرشيين، وافق ابني أبي لهب على تطليق زوجاتهم، ولكن أبو العاص كان له موقفاً آخر…
أبى الزوج العاشق أن يطلق زوجته، حتى لو كانت ابنة من يعادي قومه، وقال “لا والله إني لا أفارق صاحبتي وما أحب أني لي بها نساء الدنيا جميعاً”
حبيبي يحارب أبي!
خرج أبو العاص مع قريش لمحاربة المسلمين في بدر معتذرًا لزوجته التي حاولت إثناءه عن عزمه .. ويالهفي على بنت الحبيب محمد .. زينب الممتحنة في حبها لزوجها وحبها الأكبر لدينها وأبيها.. كانت زينب {رضي الله عنها} تدعو الله سبحانه وتعالى أن ينصر والدها على أعداء الله ِوأن يحفظ زوجها من كل سوء على الرغم من عصيانه لله.
وتخيلوا موقفها وقد علمت بانتصار المسلمين لكنها في الوقت ذاته قلقة على روح قلبها وحبيبها، أن يكون قد مات .. ولربما لوعتها الأشد ليس على فراقه بل على مقتله على غير الهدى… حتى علمت بأن زوجها لم يقتل وإنه وقع أسيراً في أيدي المسلمين…
عندها قررت زينب أن تفدي زوجها بكل ما تملك، فأعطت لأخو زوجها قلادة تمتلكها ليذهب بها إلى الرسول وأصحابه ليطلقوا سراح أبي العاص. هذه القلادة كانت هدية لها من أمها السيدة خديجة ذات المكانة العظيمة في قلب رسول الله.
ولا تتوقف الرقة والرومانسية عند هذا الحد، ولكن الأكثر تأثيرا كان موقف الرسول، القائد، المنتصر عندما شاهد القلادة ورق لها قلبه وتذكر حبه الأكبر، فما كان منه إلا أن قال لأصحابه برجاء خافت:” إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فعلتم”.. وأتصور الصحابة أمام هذا الحشد العاطفي لا يملكون إلا الموافقة على رجائه.
ولننظر لرسولنا الكريم وهو يعيد القلادة إلى أبو العاص ويطلب منه أن يوصلها لزينب ومعها هذه الرسالة: “إلا هذه يا زينب .. لا تفرطي فيها مرة أخرى”…
وفي نفس الوقت يطلب منه الرسول أن يخلي سبيل زينب ويعيدها إليه لأن القرآن حكم على الجميع بالهجرة، ووعده أبو العاص أن ينفذ له ما أراد. وبالفعل وفى بوعده وأرسل زينب .. حتى مدحه محمد عليه الصلاة السلام بعد ذلك بقوله: (حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي)
وذهبت زينب فرحة بتنفيذ أمر ربها ولقاء أبيها لكن جزءًا من قلبها هناك .. وراء التلال البعيدة في مكة.. وانصب كل جهدها في الدعاء لحبيبها وأن يهديه الله إلى نور الإسلام…
اللقاء الثاني
ولم يشأ الله أن يكون فراق الحبيبين إلى الأبد، بل كان القدر يخبئ لهما لقاء غير مجرى حياتهما التي أوشكا أن ينهياها منفصلين. إحدى القوافل التي يقودها أبو العاص عائدة من الشام ومحملة بأموال قريش، تتعرض لهجوم من سرية من المسلمين، وتمكنت هذه السرية من القافلة وأسرت عدد من المشركين، ولكن أبو العاص استطاع الهرب.ولم يجد الهارب مفرًا من دخول المدينة وسأل وربما دله قلبه على بيت زينب أم أولاده.. وفتحت لتجد أمامها أول حب وأبو أولادها، علي وأمامة !! فتدخله وتذهب للمسجد تنتظر صلاة الفجر ولما انتهى الناس من صلاتهم صرخت من بين النساء:
أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع…وشفع رسول الله لدى صحابته أن يردوا لأبي العاص أمواله..ففعلوا، وأطلقوا سراحه!! وما أن عاد الأسير إلى مكة وأعطى كل واحد من قريش نصيبه في مال القافلة، حتى قال: ” أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام إلا أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم فرغت منهم وأسلمت”.ثم عاد إلى المدينة قاصداً مسجد الرسول ليسلم وليقول والله لم أرد أن أسلم وأنا في الأسر حتى لا يقال أسلم خوفًا من المسلمين”فراق إلى لقاءوتجمع شمل العاشقين.. ولكن سعادتهما لم تدم طويلاً. وكأن الله قد أراد أن يقبض زينب بعد أن أدت مهمتها وقرت عيناها بإسلام زوجها، فماتت بعد عام من العودة ليدخل العاص في اختبار جديد لحبه .لم ينساها حتى لحق بها، وكان رسول الله كثيراً ما يراه يبكي حزناً، وكثيراً ما زارها في قبرها فوجد أبا العاص ينتحب وهو يحن إلى الذكرى، فيخفف عنه الرسول قائلاً: ذكرت زينب وضعفها، فسألت الله تعالى أن يخفف عنها ضيق القبر وغمه، واستجاب الله”…وروى أن الرسول كان يقابله في طرقات المدينة يمشي كالهائم على وجهه فيحتضنه فيبكي أبا العاص حزنًا على فراق حبيبته. بل وأنه كان يجلس في بيته فيحتضن أمامة ويبكي قائلا.. ذكريني بزينب .ولم يمض على رحيلها سوى أربع سنوات حتى لحق بها في العام الثاني عشر للهجرة، لتنتهي القصة.. على الأقل على الأرض