مذكرات برازيلي
اسمي ( باسات ) وانتمي لعائلة (فولكس فاجن ) العريقة ولكن بقت ملفات تصميماتي موضوعة على الرف في قسم التصاميم لأن ادارة الانتاج لم توافق عليها لعدة اسباب فقد وجدوا ان هناك ضعفا في بنيتي الاساسية تمثلت بعدة نقاط كانت ابرزها عدم تناسق مقاعدي الخلفية بشكل مريح وضعف في محاور الحركة الامامية ( الدرايف شفتس ) او كما يقال في لغة الفيترية درايم شفتات وكذلك عدم تناسب قدرة المحرك مع حجم ضاغطة الغاز في جهاز التبريد مما جعله غير عملي البتة كما ان المحرك مصمم للاجواء الباردة .
لسنوات عديدة بقيت على الرف اراقب بحزن شديد نجاح اختي ) كولف فولكس فاجن ) بينما لم تتح لي الفرصة لاثبت وجودي ...... كم كان محزنا وكم كان مقلقا وضعي
وبعد ان اصبت باليأس من امكانية ولادتي في عالم السيارات وتيقنت باني سابقى على رفوف النسيان فوجئت في عام 1983 باحد كبار مهندسي المصنع يسحب تصاميمي من على رف النسيان ويقدمها لمجلس ادارة الشركة قائلا :
المهندس - هذا تصميم باسات الذي بقي غير مطلوب بعد صناعة نماذج منها فشلت في اختبارات المتانة والدقة وفق المعايير المعتمدة وقد انفقنا مبلغا كبيرا لاتمامه لكنه لم ينجح
المدير – وهل تقترح ان نصنع منه نماذج لارسالها الى العراق ؟
المهندس – طبعا يا سيدي فالعراقيون محتاجون جدا لعجلات الاستطلاع المدرعة ( كاسكافيل ) التي تنتجها مجموعتنا وقد قدمنا لهم سعرا منخفضا لننافس مصانع ( بينهارد ) على العقد
المدير – وهل سيرضى العراقيون بهذه السيارة كعقد اضافي مع عجلات الاستطلاع كما ينص العقد ؟
المهندس – لا شك بذلك سيدي .... فالعراق اصبح محتاجا للمزيد من الاسلحة واليات الحرب بعد مضي عامين على حربه مع ايران واسلحة جيشه والياته قديمة لا يمكنها مجاراة الزمن
............. اصبت بالذهول ..... فمع ان فرصة العمر قد جاءت الا ان وضعي في الصفقة مهين .... هل سيتم فرضي على اناس لا يرغبون بي ؟ كيف سيتقبلوني ؟ وهل سأجد هناك سيارات قد تكون ارقى وافضل مني ستجعل وضعي اصعب من ناحية الاداء ؟ وكيف هي الاجواء هناك ؟ وما هي اهواء الناس وسائقي السيارات في هذا البلد ؟
لم استطع النوم وانا افكر في مصيري طوال الليل ..... وفي الصباح ايقضتني من غفوتي ضجة العمال والمكائن .... ها هم يستعدون لانتاجي .... اذن فقد اصبح الامر حتميا ؟ يا للهول .....
دارت المكائن ..... وعملت المصاهر والمكابس ..... وغرق العمال في نشاط غير معتاد ..... ودار المهندسون يتابعون بقلق انتاج القطع في الاقسام ..... بينما عكف كبار مهندسي المصنع على مراقبة قسم التجميع النهائي بشغف ........
كنت اراقب مراحل الانتاج وانا امر من بين جموع العمال وبين الاقسام وارى تكاملي شيئا فشيئا ..... وفي نهاية المطاف ..... خرجت الى النور ....
تحلق حولي مجموعة من الخبراء والفنيين .... كنت خائفة من الاختبارات التي ستجري .... لكنهم لم يتعبوا انفسهم بالتدقيق في الكثير من التفاصيل ..... وتم التوقيع على صلاحيتي .....
ركبت سفينة مع اخواتي متوجهين الى المجهول ..... رغم ان الرحلة كانت طويلة لكنها كانت جميلة ووصلنا الى ميناء العقبة وتم تحميلنا في شاحنات نقل كبيرة متوجهين الى العراق ......
وصلنا ليلا الى ساحة تابعة للشركة العامة للسيارات في منطقة الرطبة العراقية ..... كان الجو حارا ومغبرا بعض الشئ .... الا ان ما اقلقني ان الحركة كانت دائبة حيث يتم تسليمنا الى اناس ونتفرق ..... كانت رفيقة دربي من المصنع الى هنا اخت لي زرقاء اللون .... انستني خلال الرحلة وكانت تقف الى جنبي عندما حضر شخص يحمل اوراقا ومفاتيحها ... وتم تسليمها ..... كان قلبي معها وبت ليلتي في قلق ..... ترى ما هو مصيري ؟
اشرقت الشمس .... ومع مرور الوقت توافد المستلمون .... وحانت ساعتي .... تم تسليمي لشخص ما وبعد ان تفحصني ووقع اوراقا اصطحبني الى محطة للوقود كانت قريبة وملأ الخزان .... وادار اتجاهي شرقا وانطلقت ....
كان الطريق موحشا ومقفرا ..... وسائقي لم يكن خبيرا ... وتفوح منه رائحة تشبه رائحة المواشي .... ووضع كاسيت في مسجلي يصدر موسيقى سمجة واغاني لا افهمها .... طبعا لم يكن من حقي ان اعترض .... كان همي منصبا في مواجهة السيارات الاخرى في هذا البلد .... وادار مفتاح التبريد فاحسست بغصة في محركي لكني تداركت الامر
توقف صاحبي في مطعم على الطريق .... ورصفني امام المكان مع مجموعة من السيارات الواقفة وذهب ليتناول طعاما .... نظرت الى السيارات حولي .... هذه شوفرليت ماليبو امريكية الصنع .... وتلك تويوتا كرونا .... والاخرى كراون ... وهناك فولكا ... لكني لم اكن اعرف اداء هذه السيارات وامكانياتها مقارنة بادائي وامكانياتي .... لكني احس بحرارتي مرتفعة وكانت مفاصل محركي مرهقة .... لا بأس سأرتاح واحاول من جديد
تحركنا على الطريق .... كان هناك شخص لوح بيده لسائقي فتوقف وحملته ..... هؤلاء قوم طيبون جدا ففي بلدي من حيث قدمت ليس هناك عبارات ترحيب مثلهم ولا يطمئن شخص لاخر لا يعرفه فيحمله من الطريق ....
دار بينهما الحوار التالي
السائق – الله بالخير
الراكب – الله بالخير عيوني .... مبارك سيارتك ارقامها فحص
السائق – الله يبارك بيك عيني ويرحم والديك
الراكب – ما عدكم حظ وجبتكم اجت برازيلي ما انطوكم مسيوبيشي مثل الوجبة الي قبلكم
السائق – والله شنسوي .....
(انتبهت الى نغمة الحوار .... لقد كانت صدمة بالنسبة لي ... هؤلاء القوم من اول يوم ليسوا راضين عني ... لكنهم متسرعون بالحكم ... فانا لم استعرض امكانياتي ولم اقدم خدماتي بعد )
الراكب – يكلك سوك البرازيلي مو شي .... تدري حماوتها .... ومتانتها وبعدين كعدتها ضيكة
السائق – يا معود فرضوها علينا فرض
...... المني كلامهم ... اضافة الى حرارة الجو التي ضايقتني ... لكنني صممت على تغيير فكرتهم عني ولا ادري كيف....
ها قد وصلنا على مشارف مدينة كبيرة ... ما اجملها .. شوارع عريضة واشجار جميلة وابنية رائعة ..... قال صاحبي وصلنا بغداد ... ونزل الراكب مودعا
واوووو هذه هي بغداد اذن ؟ هل ستكون بيتي ؟
انصب اهتمامي على مراقبة السيارات في شوارعها ... كانت كثيرة ومتنوعه .... يابانية ... امريكية ... المانية .... وغيرها ..... تجاوز صاحبي هذه المدينة سالكا طريقا ليست رئيسية متجها الى القرى القريبة .... وبعد نصف ساعة سلكنا طريقا ترابية ووصلنا الى قرية ما .... كانت البيوت اغلبها طينية وبعضها الاخر مبني حديثا بالاسمنت .... وتوقفنا في باحة بيت واسعه .... وخرج مجموعة من الاطفال يتصايحون ويصفقون وجعلوا يفتحون ابوابي ويتفحصونني بينما سارع رجل اخر الى ذبح خروف سمين ولطخ يده بدمه وطبعها على غطاء محركي ....
اسعدتني هذه الحفاوة .... وبت ليلتي اتصنت الى احاديثهم في الباحة ..... كان الاطفال سعداء وربة البيت اسعد منهم .... لكن احد الزوار المهنئين الذين حضروا قدم نصيحة الى صاحبي ازعجتني
قال – يا معود باجر وديها لمعارض البياع وبيعها وكمل فوكاها واخذلك كرونا لو مسيوبيشي احسنلك ....
..... لماذا يصر هؤلاء القوم على معاداتي ؟ ... ولماذا هم راضين عن السيارات اليابانية ؟
في اليوم التالي زرنا معارض البياع .... وهناك التقيت بمجموعة من اخواتي كن يقفن في المعرض وهن ذاهلات .... وبعد حديث قصير تملكنا الشعور بالغبن والاضطهاد .... وحاولت معرفة حقيقة الامر من خلال الاحاديث التي تداولها الناس في المعارض ....
لقد كانوا غير راضين عن مجموعة من الاشياء فينا .... كعدتها ضيكه ... سيارة صغيرة .... تبريدها فاشل .... حماوتها مشكلة .... درايم شفت ضعيف ..... وين تجي مقابل الكرونا والمسيوبيشي والماليبو والسوبر وكراون ابو التاج .....
وعدنا للبيت .... بت ليلتي افكر في وضعنا انا واخواتي ..... وفي نهاية الامر قررت ان اقاوم ..... نعم سأثبت جدارتي رغم التحديات .... وخلال الايام التالية كنت ابلغ كل سيارات البرازيلي التي القاها في الشارع او مواقف السيارات بضرورة المقاومة وتبليغ كافة اخواتنا البرازيلي بذلك ....
كانت الارادة موجودة والموضوع مسألة مصيرية بالنسبة لنا ... اما ان نكون او لا نكون ..... وهكذا قضينا الشهور التالية في محاولات اثبات جدارتنا .... مع ان اخواتنا اللواتي خدمن في المدن اثبتن جدارتهن الا ان من كان نصيبها في القرى عانت الويلات من الطرق الترابية والمطبات وعدم خبرة السواق .....
والحق يقال ان الناس هنا ايضا انتبهوا الى نقاط مهمة في مراعاتنا فيما يخص نقاط الضعف ..... فقد امتنعوا عن تشغيل التبريد .... كما امتنعوا عن الاستدارات القوية للمحافظة على الدرايمشفتات .... وقام البعض بوضع مفتاح لتشغيل المروحة لتبريد المحرك وعدم الاعتماد على جوزة الاوتوماتيك .... لقد توصلنا نحن وهم الى نقاط مشتركة ....
لقد كان صاحبي لا يعرف السياقة المتقنة مما اصابني باضرار .... لقد كان هناك صوت يصدر من عجلتي الامامية كما ان هناك ضرر لحق بالمحرك جعل حرارتي ترتفع ..... لكنه اخيرا استمع الى نصيحة احد اصدقائه وذهب بي الى جرف النداف الى كراج صيانة البرازيلي .... هناك التقيت الكثير من صاحباتي وتبادلنا الشكوى مما نلاقي .... حاولت رفع معنوياتهن الا ان اغلبهن كان قد اصابهن اليأس من تبديل نظرة البشر لنا ....
مرت السنين وظهرت علامات التعب على بدني .... لكني كنت اقاوم .... لم يعد صاحبي يصطحبني الى جرف النداف بل الى الحي الصناعي حيث لا خبرات كافية ولا قطع غيار اصلية مما زاد معاناتي .... لكنني صبرت
وبحلول سنين الحصار في تسعينيات القرن الماضي كان وضع الناس صعبا وشحت المواد الاحتياطية وضعفت امكانيات البشر هنا .... واتجه الكثيرون الى شراء البرازيلي لرخصها ومن ثم تحويلها الى سيارات اجرة .... قررت ان اخدم هؤلاء الناس لما تبقى من حياتي( فقد جائتني الفرصة لاثبت وجودي ولو انها متأخرة) وان بقيت لي ذكرى بعد موتي ستكون بالخير .... تقبلت التحويرات التي اجراها علي هؤلاء الناس وساعدتهم في عملهم وبذلت جهودا مضنية ..... كنت اتحمل الحرارة وساعات العمل المتواصلة لاوفر لقمة الخبز للناس
وفي مطلع القرن الحادي والعشرين حدث تغيير في البلد .... وتوافدت السيارات المستعملة من اوروبا وغيرها بشكل جنوني .... وسارع الناس لاقتناءها بشغف .... ونسوني .... وركنوني جانبا وتم بيعي بابخس الاثمان .... اه كم هم جاحدون .... لم يكرمني احد .... لم يعترف الناس بخدماتي التي قدمتها لهم .... هم يعتقدون انني كتلة من المعادن لا شعور لها .... لكن هذا خاطئ .... انا افرح واحزن واحس بمشاعر سائقي .... ورحلتي مليئة بالذكريات الحلوة والمرة معهم ....
واخيرا باعني صاحبي الى تاجر سيارات .... وتم سحبي الى ساحة للخردة ونزعوا لوحات ارقامي .... انتزعوا هويتي ... واعطوها لسيارة حديثة براقة وشطبوني من السجلات .... ورموني مع اكوام من خردة اخواتي بعد ان انتزعوا منا محركاتنا وكل جزء صالح للعمل .... كنا في الليل نروي ذكرياتنا لبعضنا .... وفي النهار نراقب الشارع .... وكلما مرت سيارة حديثة تحمل ارقام احدى اخواتنا كنا نصيح .... هذا رقم فلانه ....
اريد ان اقول لصاحبي .... رغم انك رميتني ولم تعد تسال عني ... الا انني ما زلت احتفظ بجميلك عندما ذبحت لي قربانا وكل ساعات الفرح التي قضيناها معا والسفرات.... ومرح الاولاد .... سأبقى اعيش على الذكريات وسأفرح لك عندما تمر في الشارع امامي وانت تركب سيارة حديثة تحمل هويتي ..... هذا هو قدري .... ولا عزاء للبرازيليات .....