الاستسلام الواعي للقضاء والقدر
إن الرضوخ والرضا بالقدر والقضاء لهي من سبل النجاة، وطرق الخلاص، لمن أراد الوصول سالماً في سلك الناجين إلى المولى عز وجل.. حيث نتخطى العقبات بكل حزم ورباطة جأش؛ لينهل الراضي ما ينهل من معين الرضا الإلهي اللامتناهي.. وبقراءة واعية للتأريخ، وما خط فيه من سير العظماء؛ نرى كيف اتخذوا من هذا الطريق مسلكاً لرضوانه عز وجل.. حيث أنهم قد تشبثوا بخطى الإله على هذه البشرية، والتزموا القاعدة الإلهية في الاستسلام والرضا. وعند ما نتخطى بطون التأريخ، لنبحث عن العظماء؛ نرى الرضا عليه الصلاة والسلام، قد رسم لنا مثالاً حياً في الاستسلام والرضا، وكيف سطرت سيرته الخالدة ألحان ذكراه في أعماق الحياة.. حيث أنه عليه الصلاة والسلام، ومن هذا المنطلق الإلهي، قد رسم لنا طريق الحرية والإباء، وعلمنا كيف نعيش أحراراً، وإن استعبدنا الناس.. وكيف أنه جاهد بدمه الطاهر، لينير طريقنا بالآمال والأمل، ولنسير في مسلك آمن من طرق الحياة الخادعة؛ لنصل إلى العاقبة الحسنة، وجنان المآل.. وفي المقابل كان علماً خافقاً، يرفرف في آفاق العلم والمعرفة.. فأصبح مناراً شاهقاً، تحوم حوله سفن العلم والعمل. أنواع الرضا بالقدر والقضاء: أولا: ما يوافق المزاج: إن المنعم عز وجل يمنّ على عباده بنعم جسيمة، تكاد لا تعد ولا تحصى.. والرحمن اللطيف يصب على عشاقه فيض الرحمة صبا؛ ليرتوي العاشق من كأس المحبة، ويتجرع حلاوة اللقاء؛ لتكون نعمة خالدة من نعم المولى عز وجل.. إلا أن المبعدين والمناوئين لله عز وجل، يتجرعون حلاوة العطية شربة بعد أخرى، وتتوالى عليهم النعم، وتتفاقم عليهم العطايا؛ ليميز الإله بين المؤمن المحب والمنافق الخادع. ثانياً: ما لا يوافق المزاج: إن البلاء الإلهي الذي حمله الإنسان في عنقه، يحتم عليه أن يصبر، ويقنع، ويرضى، ولا يسخط، ولا يجزع.. حيث أن العين الإلهية، قد يبصر بها المستبصرون بكل حذاقة؛ ليروا أن المولى ما أصابهم من بلية، ولا مصيبة، إلا أنها توافق مصلحتهم البشرية بطبيعة الرحمة الإلهية.. فالإنسان يختلف من حال إلى حال في تقبل هذا المصاب وهذه البلية، ومن هذا المنطلق يختلف حال الإنسان في التقبل والرضا من شخص إلى آخر.. فالبعض قد يوقعه سخطه في الكفر، ويبعد عن دائرة الإيمان، ويخلد في لظى النيران؛ لجزعه، وفزعه.. وأما البعض الآخر يعيش الرضا بالقدر والقضاء بكل وجوده؛ لينهل من معين الرضا الإلهي، ليستشعر حلاوة المكاشفة، وأنس الملاطفة؛ ليفوز بالجنان والجواري الحسان.. أما حالة الوسطية ما بين الحالتين، حيث يعيش صاحبها حالة من حالات الهلامية والخديعة، بحيث يظهر بمظهر المسلّمين، ويعيش في باطنه حال الكافرين المبعدين؛ فهو في شاطئ الرحمة والأمان إن تغلب على نزواته وشهواته، وفي حال التيه والخسران إن اتجه اتجاه المبغوضين عند الإله المنان. فقد عرفنا ومن هذا المنطلق، أن الناس أمام القضاء والقدر على طوائف: فمنهم من يسخط بالقضاء الإلهي، مبدياً ذلك؛ فهو كافر إن كان ملتفتا إلى لوازم قوله.. ومنهم من يصبر على القضاء على مضض؛ فيكتب بذلك من الصابرين، وإن لم يكن من العارفين.. ومنهم من يرضى بالقضاء الإلهي؛ لأنه يرى الله عز وجل أولى بتدبير أموره من نفسه.. فوجوده بأصله فيض من الله تعالى، فضلا عما يحل به. ومن الجميل جداً وبعد استعراضنا لطرق الرضوخ للقضاء، أن نتعرض إلى طريقة تقبل الرضا، واستقبال القدر بروح ملؤها الإيمان، ونفس مطمئنة بحكمة الرحمن.. وبرؤية عابرة لآيات القرآن المعبرة، تستوقفنا هذه الآية لتكون لنا درساً بليغاً، وصاحباً معاوناً، ومعيناً للرضا بالقدر والقضاء.. حيث أن الرضا بالقضاء والقدر، لمن أهم سبل جلب الاطمئنان للنفوس، التي تضطرب لأدنى مكروه يحل بها.. وذلك عندما تلتفت إلى مقدمتين: الأولى منها: آية قرآنية وهي: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا).. وأما المقدمة الثانية: فهي حقيقة وجدانية وهي: (إلا ما كتب الله لنا فيه صلاحنا).. فالنتيجة بداهة هي: أنه لن يصيبنا إلا ما فيه مصلحتنا.. فإذا التفت العبد إلى هذه النتيجة، هل يبقى له أدنى اضطراب في أحلك ظروفه؟!.. وبدراسة واعية لهاتين الحكمتين الخالدتين، يستنطق لنا علم النفس كيف أن النفس تستجيب لهذه الحقيقة، وتقنع بها.. وكيف ترقى بالفكر والقلب؛ لتبلغ بهما مبلغ الرضا.. وحيث أن البلوغ الفكري، والتسليم القلبي يكون طيعاً بيد المولى عز وجل، فالإرشاد الفكري، ومن منطلق البداهة، تستلزم الرضوخ بحكمة الإله عز وجل من وراء تلك المصائب والبلايا.. ومن منطلق القلب (حرم الرحمن) ومن جراء حبه وعشقه لمن سكن فيه، يرضى بالقدر والقضاء عن قناعة وعن رضا. بيد أن هجرة الرضا (ع) قسراً من مدينة جده وآبائه إلى أرض غربة، وقبوله ولاية العهد قسراً، لمن صور الرضا بالقضاء الإلهي.. إذ أن أدوارهم جميعا، إنما هي بعهد معهود من جدهم المصطفى المنتسب إلى وحي الله تعالى.. فهم لا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون.. ومن هذه الوجهة البهية، ومن منطلق مقدس؛ نتعلم درس من دروس الرضا بالقضاء، في كل صورة، ومن نواحي شتى.. فالتأسي بالرضا من آل محمد (ع) ليكون كل منا راضيا بالقدر والقضاء؛ تستوجب أن نتعلم دروسا ولائية، ودروسا عرفانية، يقصر المقام عن ذكرها وتعدادها.. فبالإضافة إلى دروس الرضا بالقضاء، فالتواضع ولين الجانب مع العدو أولاً لهي من الأمور التي امتاز بها الرضا (ع) مع الكثير من الفضائل والكمائل التي تميز بها (ع). وقد ضربت عقيلة الهاشميين زينب (ع) أروع صور الرضا بالقضاء عندما قالت: (ما رأيت إلا جميلا)!.. حيث أنها ترى استشهاد أخيها جميلا؛ لأن الله تعالى شاء أن يراه قتيلا، وشاء أن يراهن سبايا.. لذا علينا الإقتداء والتأسي بأم المصائب زينب (ع) حينما وقفت صامدة قوية في أحلك الظروف؛ لتعطي شيعتها ومحبيها درساً بليغاً في الرضا بالقدر والقضاء.. فبرباطة الجأش، وقوة العزيمة في تحمل المصائب؛ تتفتح أبواب الفرج، وترسل أنوار الأمل ضياءها، وتنسج ثياب الرحمة سرابيلها؛ لتعود الحياة تدب في عزيمتنا من جديد.