لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. إن هذه الآيات من الآيات التي تعطينا درسا بليغا في كيفية التوبة إلى الله عز وجل.. فلا ينبغي أن نخلط بين التوبة اللفظية، التي قد لا تستتبع الندامة، ولا العزم على عدم العود.. وعندئذٍ لا يمكن أن يعد هذا من الاستغفار والتوبة بشيء، فلا ارتباط له بالتوبة الحقيقية، التي تتغلل إلى أعماق الوجود.. إنما هي مجرد ألفاظ يتلفظها الإنسان، من دون أن يكون له أي مدلول في الخارج.. والقرآن الكريم ديدنه أن يبين المفهوم والمصداق.. فآيات التوبة في القرآن كثيرة جدا، ولكن القرآن الكريم يقدم لنا عينة من التوبة الحقيقة، تلك التوبة التي صدرت في زمان النبي (ص). {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار} في الآية السابقة، ثم يقول : {وعلى الثلاثة الذين خلفوا}، فقد جعل التوبة متوجهة إلى المهاجرين والأنصار في آية مستقلة، وجعل التوبة متوجهة إلى ثلة مؤمنة من هؤلاء في آية أخرى.. {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم}. إن هؤلاء الذين تخلفوا عن الجهاد -أي الغزوة- بين يدي الرسول، وفي سبيل الله عز وجل، لم يتخلفوا عن النبي (ص) للنفاق، ولم يكن هناك موقف اعتقادي لأجل هزيمة المسلمين أو كسر شوكتهم.. ومع إنه لم يكن هنالك موقف نظري أو عقائدي، مع ذلك عاشوا هذه الأزمة بعد تخلفهم عن الجهاد.. معنى ذلك أن الخطوة الأولى للتوبة الحقيقية، هذا الانقلاب النفسي الذي أصاب هؤلاء المؤمنين.. أولا: ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.. هؤلاء رأوا بأن هذه الدنيا لا تحتملهم.. فكيف يعيشون على وجه أرض، رب هذه الأرض ورب السماوات والأرضين، لا يرضى عنهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت.. إن هذا الإنسان الذي يعيش هذه الندامة، هل تستهويه شهوة صغيرة في هذه الدنيا؟.. فالأرض برحبها وسعتها لا تسعه.. فكيف بامرأة جميلة، أو شهوة عابرة؟.. إن هؤلاء قد عاشوا مسألة الندامة بكل صورها . إن التاريخ لم يذكر جزئيات ماوقع عليهم، لقد ذهبوا إلى الجبال هاربين من المدينة لما هم فيه.. فلو أنه ذهبت إليهم امرأة لتغريهم، وهم في قمة الجبال يستغفرون ربهم، لن يلتفتوا إلى ذلك.. لأن الأرض برحبها ضاقت عليهم، وضاقت عليهم أنفسهم.. فهذه النفس العاصية يرونها لا تتحمل.. فمن الدرجات العليا والجميلة، أن يعيش الإنسان هذه الدرجة.. فهذه النفس وهي أحب الأمور للإنسان، إذا رآها الإنسان تعيش شيئا من المعصية والنفور عن طاعة الله عز وجل، لا يعد يتحمل حتى هذه النفس.. فالأرض ضيفة، والنفس لا تتحمل، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه..أي تيقنوا!.. هذا هو معنى الانقطاع، الذي لو وصل إليه الإنسان المؤمن، فتحت له أبواب السماوات.. أي أن يعيش حالة الإنقطاع القهري إلى الله عز وجل.. بحيث لا يرى ملجأ في الأرض، ولا ملجأ في النفس، حتى النبي (ص) الذي هو رحمة لهذه الأمة، لا ينفعهم شيئا، إذا لم يأذن الله عز وجل بذلك. عندئذ تاب الله عليهم ليتوبوا، فالتوبة تمر بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: البادرة الطيبة، وهي نية عدم العود، ونية ترك المعصية.
المرحلة الثانية: الإلتفاتة الإلهية، (تاب الله عليهم).. فالله عز وجل لا يتوب عن العبد جزافا، إلا إذا رأى فيه بادرة طيبة.
المرحلة الثالثة: الحركة إلى الله عز وجل، ثم (ليتوبوا).. أي هناك توبة أولية هي ( البادرة) وهناك توبة حركية، وهي تلك التوبة التفصيلية، التي تترتب على توبة الله عز وجل . إن هؤلاء الثلاثة: كعب، وزرارة، وبلال.. تخلفوا عن النبي في إحدى الغزوات، ثم ندموا.. ولما رجع النبي (ص) من الغزوة، جاؤوا إليه واعتذروا، فلم يكلمهم النبي، وتقدم إلى المسلمين بأن لا يكلمهم أحد منهم.. فالنبي (ص) حاصرهم محاصرة اجتماعية، وأوصى المسلمين أن لا يكلموا هؤلاء، ليعيشوا جو المقاطعة الاجتماعية.. نعم، إذا توقف النهي عن المنكر على محاصرة إنسان اجتماعيا، فينبغي ذلك . تقول الرواية: حتى الصبيان امتنعوا عن الحديث معهم.. وجاءت نساؤهم إلى النبي (ص) فقلن: يارسول الله!.. نعتزلهم؟.. فقال: لا، ولكن لا يقربوكن –أيضا مقاطعة بدرجة من الدرجات- انظروا إلى وعي الأم المسلمة!.. كيف أن المرأة تأتي لتستأذن رسول الله (ص) بمقاطعة الزوج!.. فضاقت عليهم المدينة، وهربوا إلى رؤؤس الجبال، وكان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام، ولا يكلموهم.. فأوامر النبي (ص) بعدم التكليم، أما الطعام فلا بد منه. هذه هي قمة الندامة!.. وهذا كله في جانب، وهذه الفقرة في جانب، فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس، ولا يكلمنا أحد منهم.. فهلا نتهاجر؟.. فنحن الثلاثة على قمة الجبل، فليقاطع كل منا الآخر- وذلك مبالغة في التعذيب النفسي- فتفرقوا، ولم يجتمع منهم اثنان.. وانتشروا في الجبال، كلٌ ينادي ربه ويناجيه.. وبقوا على ذلك مدة خمسين يوميا يتضرعون إلى الله عز وجل، ويتوبون إليه.. فقبل الله توبتهم، وأنزل فيهم هذه الآية، آية خالدة في القرآن الكريم، نتلوها الآن تخليدا لهذه الذكرى المباركة من التوبة الحقيقية بين يد الله عز وجل.