مملكة المناذرة
إستقر المناذرة على الحدود الغربية لنهر الفرات ، بينما إستقر الغساسنة كما سنرى لاحقاً على الحدود الشمالية . وهما في الاساس تجمعات قبلية تحولت مع الوقت الى دول او امارات . وبينما دخل المناذرة في دائرة نفوذ الفرس ، دخل الغساسنة في دائرة النفوذ البيزنطي ، وحمت كل منهما حدود القوة الكبرى . وفي هذا الوقت كانت المناطق المجاورة للفرات في جنوبه هدفاً لهجرة قبائل تنوخ العربية في عصر ملوك الطوائف . وسمي هذا العصر بهذا الاسم عندما شكلت الطوائف بعد انهيار امبراطورية الاسكندر المقدوني دولاً لها حكامها المستقلين وظلت في نزاع شبه مستمر مع بعضها البعض.
إختلفت المصادر في أصل التنوخيين . فمن قائل انهم ينتسبون الى تنوخ بن قحطان بن عوف ، وآخر يقول انهم قبائل من نصارى العرب هي تنوخ وبهراء وتغلب ، إجتمعوا في البحرين فسموا المكان الذي اجتمعوا فيه تنوخاً . وكلمة تنوخ تعني في الاصل الاقامة.
أقام التنوخيون في الحيرة في ظل النفوذ الفارسي . ثم جاءهم تبَع اسعد ابو كرب وترك بينهم جماعة من جنوده ، وأمها البدو لشراء حاجاتهم وما لبثوا ان استقروا فيها . كذلك وفدت على التنوخيين اقوام من العراق والجزيرة الفراتية فراراً من ضيق العيش . وهكذا أصبحت الحيرة مقراً للتنوخيين والعباد والاحلاف الذين حالفوا المناذرة واعترفوا بسيادتهم . وأقامت في الحيرة كذلك جماعات من النبط وبقايا البابليين والآراميين والكلدانيين وعملوا بالفلاحة . كما أقامت بينهم جالية يهودية.
تقول المصادر القديمة ان مالك بن فهم الازدي كان اول من ملك من تنوخ الذين قدموا اساساً من اليمن . وتشير المصادر الى ان عمرو بن عدي بن نصر ، ابن اخت جذيمة الابرش ، أحد أبرز ملوك التنوخيين ، هو مؤسس امارة المناذرة في الحيرة ( امارة اللخميين المناذرة ) . وكان قد ورث ارض مملكة الحضر بعد سقوطها وأضحى احد أعظم امراء العرب في الفرات . ويرجع اليه الفضل في تمصير الكوفة بعدما كانت قد خربت واقفرت . خلفه بعد موته ابنه امروء القيس ، وهو اول من تنصر من ملوك آل نصر بن ربيعة ، ومن بعده جاء النعمان الذي اهتم بالعمران . وكرت مسبحة الحكام وصولاً الى المنذر بن امرىء القيس بن ماء السماء الذي اعتبر أشهر ملوك اللخميين المناذرة . تحالف مع الفرس ضد البيزنطيين وخاض حروباً الى جانب الفرس ، بينما كان على الجانب الآخر ، أي جانب البيزنطيين ، الحارث بن جبلة.
طال امد الحروب المتواصلة التي طبعت النصف الاول من القرن السادس ميلادي بين الفرس والبيزنطيين وأصيب النشاط التجاري بتراجع كبير . وانتهى دور حكام العرب اللخميين المناذرة عندما عيَن الامبراطور الفارسي يُعين اياس بن قبيضة الطائي ، من خارج اسرة المناذرة ، مقيماً فارسياً يمسك بمقاليد الحكم . وانقطع بذلك حكم اسرة المناذرة ، ومن ثم الحكم العربي في الحيرة ، وظل الامر على هذا الشكل حتى الفتح العربي.
عمل أهل الحيرة بالزراعة والرعي ، كما اشتغلوا بالتجارة . مدينة الحيرة نشأت أصلاً كمحطة للطرق التجارية ، وأضحت في القرن الاول قبل الميلاد المدينة الرئيس للقوافل وسوقاً كبيراً ، وسيطرت على طرق غزة وبصرى ودمشق والايلة . وكان أهل الحيرة القريبة من نهر الفرات يركبون السفن النهرية حتى الايلة ومن هناك يركبون السفن الكبيرة ويبحرون الى الهند والصين شرقاً ، والى البحرين وعدن غرباً وجنوباً . وكانت تتوارد على الحيرة المتاجر العظام لأنها ” كانت من ظهر البرية على مرفأ سفن البحر من الصين والهند وغيرها ” كما ذكر البكري ابو عبيد عبد الله بن عبد العزيز في ” معجم ما استعجم”.
كانت القوافل تخرج من الحيرة محملة ببضائع الهند والصين وعُمان والبحرين الى تدمر وحوران . وأصاب الحيريون من الحركة التجارية ثروة كبيرة . وتجلى هذا المظهر بالترف الذي ساد البيوت ، واللباس الفاخر . كذلك بلغت الصناعة في الحيرة درجة عالية من الاتقان . وأهم هذه الصناعات : صناعة النسيج ، خاصة الحرير والكتان والصوف ، وصناعة الاسلحة من سيوف ونصال ورماح ، وصناعة التحف المعدنية والحلى . وتفنن الصاغة في صناعة ادوات الزينة من ذهب وفضة ورصعوها بالياقوت والجواهر . اشتهر كذلك خزف الحيرة ومثله صناعة الجلود والدباغة والتحف المصنوعة من العاج.
ساد الاستقرار امارة اومملكة اللخميين المناذرة وانعكس هذا الاستقرار نشاطاً معمارياً متقدماً ، تجلى في قصري الخورنق والسدبر ، وكذلك في الدير الذي بنته هند ام عمر بن هند .
وشهد البلاط حياة بذخ لم تتعود عليها امارات اخرى . كذلك بنى المناذرةالكنائس والاديرة على شاكلة معابد آشور وبابل.