بركة.. شاعر أميركي يفكك {شيفرات» الطائفية والعنصرية
08:34
{مَنْ ضَرَب أميركا؟».. القصيدة الأكثـر إثارة للجدل في الولايات المتحدة
عدنان أبوزيد
كيف صبرنا على فراق أمير بركة، طيلة هذه الأيام؟.. "توفي بركة في 9 كانون الثاني 2014"،..قالها الممثل الأميركي المعروف داني غلوفر، وهو لسان حال نخب مثقفة ورفاق لبركة، بينهم الأكاديمي والمؤلف كورنيل ويست، والممثل مايكل إريك، والممثل جلين تورمان، والراقصة والمؤلفة كاثرين دنهام، والشاعر والكاتب الأسود انغستون هيوز، والشاعرة الأميركيّة السوداء سونيا سانشيز، وعمدة مدينة "نيوارك" السابق جيمس شارب، وهي المدينة التي ولد فيها بركة، إضافة إلى سياسيين وقادة حقوق مدنية، وجمهور واسع، كل أولئك يستعدون للاحتفال بذكرى ثلاثين يوما على رحيل بركة، مبرزين سيرته الإنسانية إلى جانب "الشعرية"، التي سخّرها بالغضب والتحدي والتصميم القوي، في سعيه لنيل حقوق السود، وتعزيز قيم العدالة.
إن ما يطبع المشاعر المشتركة، في مجتمع أميركي، لا تلتهب فيه المشاعر بسهولة في هذا الزمن المادي، تجاه أمير بركة، هو الأسف لرحيل مبدع في القصة القصيرة والرواية والمسرحية، والمقال النقدي، وأوبرا الجاز، فكان بحق، موهبة خارقة لفت انتباه نخب السياسة، وممثلي الطبقات الشعبية لاسيما في مجتمع الزنوج الذي شهد في مرحلة مهمة من التاريخ الأميركي، الظلم والمعاناة من التفرقة.
وما يثير في سيرة هذا الشاعر والمثقف الأميركي، تلكم الملامح الشرقية والعربية والإسلاموية، مثلما يُسمع صدى مواقفه السياسية والإنسانية خارج وطنه، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط، وفي هذه الأوقات بالذات حيث تستيقظ أقلام وأفكار تسعى إلى كتابة التاريخ على هدي الصراعات الطائفية، والمواقف العنصرية التي حاربها بركة في قصائده ومواقفه، بلا هوادة.
وعلى ضوء ذاك كله، فقدت الإنسانية، مبدعاً لا يمثّل ماضياً من الانقسام العرقي في التاريخ الأميركي، فحسب، بل تاريخ من التباينات الطائفية والعرقية في العالم تحتاج في هذه الحقبة الزمنية، إلى مبدعين مثل بركة يفككون شيفراتها العدوانية لنزع الشر المستطير منها كما عبر عن هذا المعنى في إحدى قصائده.
ولعل ذلك التجلي مع المشكلة في الواقع، وعدم التعالي على الحقائق المرة، جعلا الجميع في أميركا يشتركون في النظرة الإيجابية تجاه بركة، السود مثلما البيض، ومن مختلف الاتجاهات الايديولوجية، ما جعله في المقام الأول، أحد الرموز الصارخة في الأدب الأسود الأميركي منذ ستينيات القرن الماضي.
وفي صدد استذكار بركة بعد ما يقارب أسابيع من رحيله، اعتبره النائب دونالد باين، واحدا من أعظم قادة مدينة "نيوارك"، والابن المفخرة لطبقتها العاملة.
وتابع القول "كان فيه عبق السياسة في الأدب، لكنه كاتب ومثقف قبل كل شيء" .
يتخطى رحيل بركة، رمزية فقدان شاعر إلى رمزية حقوقية سياسية ومدنية، بعدما عُرِف بمواقفه المنسجمة مع المواقف السياسية العربية في الكثير من المناسبات، ففي الوقت الذي اتهمت فيه وسائل الإعلام المسلمين والعرب بأنهم يتحملون مسؤولية إحداث الحادي عشر من أيلول 2001، بصورة مباشرة لإيمانهم بأفكار تحرض على العنف وكراهية الآخر، رفض بركة هذا المنطق "التعميمي" ما جعله يطلق قصيدته الأكثر إثارة للجدل والتي حملت اسم "من ضرب أميركا؟"، بعد أحداث 11 أيلول 2001، ليُتّهم بسببها بمعاداة السامية، بعدما رفض اتهام المسلمين والعرب بأنهم وراءها، مثلما اعتبر ان ما حصل هو نتاح سلوكيات سياسية، لا شأن للأديان والمعتقدات بها، مهما قيل عن هوية ومعتقد المنفذين، داعيا إلى "البناء في المواقف على الفكرة الجوهرية لا السلوكيات الفردية التي تجسد الفكرة بطريقة خاطئة في تفسيرها للمواقف والأحداث في بعض الأحيان".
لم يكن لو روي جونز (أمير بركة، بعد إسلامه)، المولود في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، في شخصيته الفكرية والثقافية، سوى نتاج تلك المرحلة التي بلغ فيها الصراع الاشتراكي الرأسمالي ذروته، حيث وجد مثقفو العالم، أنفسهم مُجبرين على الانتماء الفكري الذي فرضته الأحداث، فإما أن تكون اشتراكياً وإما أن تصبح رأسمالياً، فكان بركة يساريا متطرفاً، آمن بالعنف والإصرار على بلوغ الأهداف التي تتجسد في الكثير من قصائده، التي تحرّض على الانعتاق .
عبّر بركة بشكل ملفت في مسيرته الإبداعية المثيرة للجدل بتفاصيلها الغرائبية، عن العلاقة بين السياسة والإبداع، وكان مؤمناً بقدرة الكلمة على التأثير، بالقدر الذي يؤثر فيه السياسي في خطابه أو دعايته الانتخابية، في الجمهور.
لكن المنحى السياسي في إبداعه، لم يكن لينسيه الجمال المشبع بالألم الاستثنائي الذي أحدثته العبودية والاضطهاد العنصري .
يقول المؤلف، والممثل، والملحن الزنجي المعروف شاول وليامز ان "بركة لا يعترف بالوسطية، فيما يتعلق بالحق الذي وضعه نصب عينيه" .
ويردف في القول "حكاية الرقص المثيرة التي كتبها مبدع فن الرقص، سافيون غلوفر ألهبت بركة نشاطا مسرحياً بارزا"، فيما يعتبر كورنيل ويست، الأكاديمي، والمؤلف في الفكر، و العضو البارز في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الأميركي، ان بركة "عبقرية أدبية" باعتباره الصوت المعبر عن ثورية المجتمع الأسود .
وعلى الرغم من معتقداته الدينية المتباينة، تمكّن بركة من إيجاد أرضية مشتركة للنضال ضد الظلم العنصري.
بل ويذهب البعض إلى تصنيف بركة بوصفه مكافئا لسلسلة العائلات الثورية السوداء الأولى، جنبا إلى جنب مع ذوي القربى مثل مالكوم إكس، ومارتن لوثر كينغ .
موقف آخر يعبّر عنه الممثل جلين تورمان بشأن بركة بالقول "في إحدى مسرحياته، أشعرني بأني جزء مهم من مؤسسته الإبداعية ليس أكثر".
غير أن راقصة ومؤلفة مثل كاثرين دنهام، والشاعر والكاتب الأسود انغستون هيوز، والعديد من النجوم السود، يعترفون أن "بركة أنقذنا من شعورنا بأننا مجرد أشباح في الحياة".
فيما تقول الشاعرة الأميركية السوداء و الناشطة في مجال حقوق الإنسان سونيا سانشيز، التي كانت قريبة من بركة، واشتركت معه في ما عُرِف حينها بحركة "الفن الأسود" التي كانت تطالب بالمساواة الاجتماعية، ان "بركة يلهمنا فن البحث عن العدالة" .
و يرى الممثل مايكل إريك دايسون ان "بركة كان صادقا حتى في تحولاته الايديولوجية، في بحثه عن الحقيقة وهو ينتقل من البوهيمية إلى الماركسية كما أوضح ذلك في كتابه "لا هوادة فيها"، حيث التقييم الذاتي والاستجواب، تحوّل فيه بركة إلى جسر بين جمهور الشاعر والنخب الأكاديمية.
ويتذكر الممثل الأميركي الأسود الشهير داني غلوفر، الذي شارك في حركة "الفن الأسود"، الدور الحيوي لبركة في إلهام الطلاب السود في ولاية سان فرانسيسكو، الأمل والحماس أبان إضرابهم في الحرم الجامعي العام 1968.