دفتر الصيف
27/01/2014 09:02
امتلأ دفتر الصيف بأنفاس المهاجع المعتقلة, وآهات الأرواح الصاعدة إلى باريها, حارةً حارقة, معفّرة بالتراب, متفحّمة بالحرائق, ممزقة بشفرات الانفجارات والقتال الطائفي, منتفخة بأحلام السطوح التي بقرَها الموت بين الأرض والسماء. ملاحظات تتعثر بهاويات الدفتر الجحيمية, خُطّت بسطور متلاحقة لا تكاد تدركها القراءة المعتدلة.صفحات سود, تلتها أوراق بيض استجمّ بها القلم والتقط أنفاسه قبل الانتقال إلى ضفاف الحلم الأبيض لصيف ألبير كامو الجزائري, وصور لورنس داريل لجزر اليونان المفتوحة على الشمس والرياح، وفاكهة الصيف في لوحات الطبيعة الجامدة للرسامين الانطباعيين العراقيين، واستقراره أخيراً على تفصيل "الحرية" في نصب جواد سليم.
أتأملُ حديقتي في الصيف، مع استعدادي لكتابة فصول من كتابي (حشود باصورا) وتحضيري لعمل يجمع نصوص العقود السبعين من حياتي. أقرنُ هذه التحضيرات المختلفة مع بلوغ الأدب العراقي عقده العاشر، متحسساً برودة الفاكهة في لوحات عاصم حافظ منذ ثلاثينات القرن الماضي، أخفف بها هسيس الورق الأسمر واحتراقه بدرجات الحرارة المتصاعدة من خطوط التماسّ المتداخلة في أخطر مرحلة من تاريخ الأدب والفن والمجتمع في العراق.
تتدافع ملاحظات دفتر الصيف للوصول إلى مرسم فائق حسن المفتوح على أرياف بغداد, منذ أن غادره الرسام مع جماعة الرواد وحتى عودته من باريس في قارورة نُثر رمادها فوق مياه دجلة. وخلال هذه الرحلة التي بدأت مع بعثة أوائل الرسامين العراقيين للدراسة في معاهد أوروبا الفنية, يقتبس الدفتر من مذكرات الدكتور كمال السامرائي سطور مزاملته الملكة عالية في قصر الزهور, في أيامها الأخيرة , ووفاتها بمرض السرطان العام 1950 ( عام تأسيس جماعة الرواد وإقامة معرضها الأول). أحاطت بهذا التاريخ حوادث سياسية مهمة ( وثبة 1948 وانتفاضة 1952 ضد المعاهدات الاستعمارية) فسار الدفتر على هذا الإيقاع المتناوب لموتيفات الشوارع الغاضبة, واستراحات الطبيعة الهادئة, الغليان ثم الهدوء, الانعتاق ثم السكون, في لوحات تحسستْ ضوءَ الصيف الغامر وألوان الجدران الترابية, وانطبعتْ بانطباع "الرعشة الصغيرة" الذي رسم سيزان به لوحاته.
كان فائق حسن (1914 - 1992) تلميذاً في المدرسة الابتدائية, متعلقاً بخاله البستاني في حديقة القصر الملكي, حين شاهده في يوم من أيام 1934 الملك فيصل الأول يرسم منظراً طبيعياً فأُعجب بموهبته ووعده بابتعاثه إلى أوروبا لدراسة فن الرسم. توفي الملك فأوفده ابنه الملك غازي للدراسة في (بوزار) فرنسا. عاد فائق العام 1938 إلى العراق مشبعاً بارتسامات الطبيعة الفرنسية في لوحات الرسامين الانطباعيين التي شاهدها خلال فسحات الدروس الأكاديمية في متاحف باريس, ضاعفت لديه ميلاً بدائياً نحو الطبيعة العراقية نما في أصابعه وخياله الطفولي وتحول إلى حب جارف للرسم.
جمع فائق حوله رواد الرسم وطلابه وخرج بهم في سفرات كانت تطول أياماً لمشاهدة الطبيعة الفسيحة في أرياف بغداد وشمالي العراق وملامسة المظهر المتحول لسحنة الأشـياء والأحياء خارج غرفة المرسـم. واختار لجماعته اسم (الجماعة البدائية). انغمرت الجماعة بفرح اللقاء بشعاع الشمس الدافق بثراء على وجوه الناس السمر, وأشجار البلوط والصنوبر الغُبر, والطرق الجبلية المتلاشية, وانفرد فائق حسن مع نفسه بمتابعة حلمه بوجوه الأعراب وقوائم الخيول التي خرجت من لوحات ديلاكروا وعبد القادر الرسام ودخلت لوحاته بغبارها وفرسانها الملثمين بإحساس لوني جامح.
كان فائق رساماً تجريبياً, مبعثراً في اختباراته الشكلية واللونية, محباً لرسم الوجوه التي تذكره بعزلته وانفراديته, يسفح عليها ألوان فقره ويتمه (لم ير أباه وربته أمه) وسحنة وجهه الترابية المحروقة, وخشونة شعره, وكثافة حاجبيه, ونظرة عينيه الصقريتين, وضربات أصابعه المتنقلة بخفة المحترِف الصياد. كان يختار الوجوه التي يرسمها مما تتسق وإحساسه البدائي بأبعاد الجمال الإنساني وحبه العميق للتخطيط والتلوين. وينقل الدفتر عن الرسام عامر العبيدي أنه جلس أمام فائق ساعات طويلة ليرسمه في ثلاث لوحات, إحداها تخطيط بقلم الرصاص. قال العبيدي أن فائقاً أحب ملامح خاصة في وجهه, فرسمه برؤيتين لونيتين, انطباعية وتقليدية, أما التخطيط فكان تمريناً مفروضاً على أصابعه لا بدّ أن يؤديه قبل خلوده إلى النوم. عاش فائق من أجل الرسـم, وكان اعتكافـه وإخلاصـه وحبـه لفنـه فطرةً غرّبته عن عصره.
على الجانب الآخر من اغتراب فائق حسن وتجريبيته الفنية, انشق جواد سليم (1919 - 1961) بمحاولاته البغدادية في رسم الوجوه الهلالية المسطحة, المرتسمة على قماشة الأزقة ونشاطها الإجتماعي اليومي, وفرح نسائها المتنوع في حركته اللونية وحسيته الجنسية.
رسم جواد لوحتين بعنوان (القيلولة) العام 1958 مصوّراً فتاة مستلقية على أرجوحة في حديقة منزلية, بخطوط تجسيدية مفصلة للجسد المستلقي بمفرده في اللوحة الأولى, وبصحبة ابن البستاني في اللوحة الثانية. وبهاتين اللوحتين أفصح جواد عن ارتباط رؤيته البنائية واللونية بجذور الرؤية البدائية الطفولية لفائق حسن, إذ حاول بألوانه الترابية المحروقة, ووجوهه المسطحة الفارغة من التعبير, الإفراج عن إحسـاس نفسـي مضغوط لا يباح له الاستقلال والنمو خارج شـخصية الفنان.
أراد جواد سليم أن يحقق عملاً فنياً يمثل جموحه واختباراته النحتية الكبيرة, فعمل طيلة خمسة عشر عاماً لإنجاز (نصب الحرية) وأتمّه في عام ونصف (1960). لكن الموت سبقه إلى ساحة التحرير فلم يشاهده منصوباً على عارضته المرمرية العالية مواجهاً الأزقة القديمة التي قدمت له فرح وجوهها السُمر وألوان أجسادها الرخصة. كيفما تجاوز دفتر الصيف هذه المرحلة، فإن العودة إلى هذا الإفريز المنحوت، تعيّن منتصف المسافة بين التحديث والتغيير، بين عقود الوئام الوطني والصراع الدموي على السلطة في عراقنا الحديث. ستطول الوقفة تحت هذا الجدار المرفوع لأن التأمل في منحوتاته نقطة الوصل والقطع بين حلمي صيف متباعدين.
وزّع جواد سليم وحدات النصب البرونزية على مساحة سطرية تُقرأ من اليمين إلى اليسار, مجسّماً المنظور السطحي لرسوم الواسطي على متون مقامات الحريري, وأشكاله التزويقية الموزعة بلا أعماق أو ظلال داخل إطار الصفحة المخطوطة. أكمل جواد في نحته الكبير ميلاً سردياً حكائياً حاوله في رسومه, وحاكاه بنجاح بعيد. أظهرَ للعيان رغبةً دفينة في عرض أحزانه الفردية وغربته النفسية والحكائية, بكتابة بارزة مختزلة في أربعة عشر رمزاً جامعاً ستتحكم بخناق الشعب العراقي بعد تحرره من الاستعمار ( الحصان, الثائرون, الطفل, النادبة, الشهيد, الأم, السجين, الجندي, الحرية, السلام, دجلة والفرات, الفلاحون, الثور, العمال) وهي الرموز ذاتها التي ستطوق عنق الأدب العراقي عند بلوغه السنّ المئوية وتوجّه قراءة نصوصه.
نثَرَ جواد سليم رموز كتابته البرونزية على إفريز مرمري مستطيل, رافعاً إياها من أغوار دخيلته الواهنة إلى نور بغداد الصباحي, مع النبض الأخير للقلب الذي سقط تحت أقدام الثائرين. إن من يجيدون قراءة حكاية النصب المبعثرة, سينفذون إلى مكامن الحزن الأصلي الوعر المحزز, في نفس العراقي المجزأة إلى وحدات ثائرة على الشكل والزمان. أما أولئك الذين يجهلون قراءة تاريخ العراق, أو الذين تكنسهم ساعات حظر التجوال إلى بيوتهم, فهم غالباً ما تفوتهم انتفاضة الأشكال المرفوعة في الفضاء المظلم الأجرد, وحوارها مع صانعها الفنان, الذي تتلبس روحه الشكل الأوسط, جسد الحرية المقطوعة الساقين. صارت هذه النبوءة تتجول في الفضاء المرموز بالعنف الأهلي، منذ أن غادرت مكانها، في منتصف ليلة صيف قبل خمسين عاما.