الدعاء حياة دونه ممات
اللهم صلّ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف يا كريم
الدعاء حياة دونه ممات
كيف للإنسان أن يعيش بلا دعاء؟! إن مَن يعيش بلاه تكون عيشته ضنكى سواءً أدرك ذلك أم لم يدرك، فالدعاء ليس مجرّد خطاب التماس للحوائج موجه من العبد إلى خالقه؛ بل هو ركن أساسي في حياة الإنسان، إذا فُقد أو تغوفل عنه؛ تختل تلك الحياة في شتى أبعادها ومناحيها
هو ركن لأنه يغذي الروح الإنسانية بالأمل، ويعينها على الصبر والتحمل، ويهذّب سلوك صاحبها وأخلاقه، ويسمو بعقله وإدراكه، ويأخذ بيده نحو الكمال، وينجيه من المهالك والأهوال، ويرسم له طريق السعادة في الداريْن. إنه دواء لكل معتل، وبلسم لكل مجروح، وأمان لكل خائف، وغوث لكل مكروب، وغنى لكل فقير، ومدد لكل محتاج. إذ به يخاطب الإنسان مَن لا يحدّ قدرته حد، ولا يقف أمام إرادته مانع، ولا تنقص الأعطيات خزائنه، ولا يزيده إلحاح الملحين إلا عطفا ورأفة وجودا وكرما، ذلك الذي إذا أراد شيئا قال له: كن.. فيكون! إنه رب الخلائق أجمعين خالق السماوات والأرضين الحكيم المتعال جل جلاله
فالدعاء إذن؛ ركن أساسي في حياة الإنسان السوي، وضرورة من ضرورات المسيرة البشرية، وحاجة فطرية لا غنى عنها. لذا ترى أن الذين يواظبون على الدعاء يكونون أكثر استقرارا نفسيا من غيرهم، حتى ولو عصفت بهم أنواع المصيبة وضروب اللأواء، ودونك دليلا ما يعيشه الغرب اليوم، فمع كل هذا التقدّم المادي الذي وصل إليه، والذي جعل الإنسان الغربي يعيش أرقى أنواع المعيشة المرفّهة بالقياس إلى غيره من أفراد شعوب العالم؛ فإنه يبقى يشكو من أزمات عميقة ويعاني من مشاكل مستعصية معظمها يرتبط بجانب النفس والروح والمعنويات، فتجد مثلا أن الإحصاءات تشير إلى أن الغرب يشهد أعلى معدّلات الانتحار سنويا! وإذا بحثت عن السبب تجده تافها عند الجلّ الأعظم من هؤلاء المنتحرين، بل لا تكاد تجد سببا مقنعا البتة
لقد وفّر الغرب للذي يعيش فيه الأمان والحرية والمساواة والرفاه والضمان الاجتماعي وسيادة القانون وكل ما يمكن أن يجعل الإنسان في هذه البلاد يعيش باستقرار، فكيف يمكن تصوّر أنه في ظل كل هذا النعيم – إن سلّمنا به جدلا - يقدم هذا الكم الهائل سنويا على الانتحار؟! كيف يمكن تفسير أن الاستبيانات تُظهر مثلا أن أكثرية الشعوب الغربية تعاني من التوتر العصبي وعدم الراحة النفسية حتى أصبحت تجارة العيادات النفسية من أكثر أنواع التجارة رواجا ؟
إن الخلل يكمن في أن الغرب جعل المادية تطغى على القيم الروحية والمعنوية حتى أصبحت شبه غائبة عن وعي الإنسان الغربي، فغدت معيشته منقوصة لفقدانها هذا الركن الأساسي المؤثر في الاستقرار النفسي، والقيم الروحية والمعنوية عمادها هو.. الدعاء. وحيث لا دعاء عند الغرب، ولا مناجاة، ولا ابتهال، ولا تضرع؛ فلا حياة وحيث لا يشعر الغربي بطعم الحياة، فإنه يفضل الموت.. وينتحر
وغير خفي أن المشاكل الاجتماعية الكبرى التي يعاني منها الغرب تعود جذورها في معظمها إلى غياب القيم الروحية والمعنوية، وهذا أمر طبيعي، إذ ما الذي يمنع الإنسان من الإجرام مثلا إن لم يكن له وازع ديني أو روحي معين؟ إن القانون الوضعي مهما بالغ في تشديد العقوبة، والسلطة مهما بالغت في مكافحة الجريمة وحماية المجتمع، فإن ذلك ليس بمانع من أن يجرم الإنسان في حق أخيه الإنسان، إذ هو قادر في حالات كثيرة على الإفلات من قبضة المساءلة والعقاب القانوني، فلا يكون بين يديه رادع عن ارتكاب الجريمة حيث لا يعتقد أصلا بالحياة الأخروية ولا بالعقاب الإلهي. من هنا كان الدين والقيم الروحية والمعنوية ضرورة لتقويم سلوك الإنسان والحفاظ على المجتمع ودرأ الآفات الاجتماعية عنه، والدعاء كما أسلفنا، عماد الدين، لأنه الارتباط الروحي الذي يربط العبد بخالقه
وحتى هذا الذي يؤمن ظاهرا بالحياة الأخروية والعقاب الإلهي، لا يتعمّق إيمانه بما يتهيّب به من ارتكاب الخطأ والجريمة إلا بمثل الدعاء، ففضلا عن كونه بمثابة عصمة له من وساوس الشيطان وهوى النفس الأمارة بالسوء، وفضلا عن كونه موجبا للسمو الأخلاقي؛ فإنه في الوقت ذاته يبصّر الإنسان بطريق نجاته إلى جوار طريق هلاكه! فيزيّن له الطاعة ويحبّبها إليه، ويقبّح له المعصية ويكرّهها إليه، ويجعله يخشى من الإقدام على ما فيه سخط الله تبارك وتعالى، فيشمل ذلك الإجرام بمختلف أنواعه، سواءً كان في حق الله تعالى، أو في حق أوليائه، أو في حق الإنسان، أو الحيوان، أو النبات، أو حتى الجماد. وبذا يكون الدعاء مدرسة تهذيبية أخلاقية متكاملة توصل الإنسان نحو الكمال والسعادة والراحة، كما يكون عاصما للمجتمع من الانحراف والجريمة والفساد والتدهور بمصاديقه المختلفة
نسألكم الدعاء