السقطة وتعاويذ البطل الشكسبيري


د. فاضل سوداني

بدءاً لا بد من التأكيد بأن مفهومنا عن السقطة له خصوصيته ويختلف تماماًً عن "السقوط "حسب القانون الأخلاقي والإجتماعي ، لأنها تعني المفارقة الملتبسة والغامضة التي تفاجئ وتغري البطل وتشوش عقله وتحوّله إلى كائن مهووس لتحقيق سقطته حتى نهايتها ، بعد أن تتلبسه الأوهام فيظل مأخوذاً بالنبوءات ومدفوعاً بالقدرة السحرية لتعاويذ رسل الانتقام أو ملائكة الرحمة ، أو مدفوعاً بأوهامه وطموحاته الشريرة ، فيحقق سقطته ، لتتحول إلى لعنة نهائية تشلـُّه تماماً ، فيلتبس عليه الكون والعالم المحيط ومن ثم يغور في التيه الجحيمي المظلم وكأنه ذبيحة مدنسة .
والسقطة ليست قدرية وإنما تفرضها الظروف الذاتية والنفسية للبطل التي تدفعه الى الشعور بتحقيق الذات العليا وهذه تهيئها الظروف المحيطة به كما هو الحال بسقطة مكبث ، ومن الضروري هنا ألا نفهم السقطة كونها سقوطاً سلبياً مفاجئاً ومفروضاً ، وإنما أحيانا يضطر البطل لممارستها من أجل أن يحقق تكامله الذاتي والتراجيدي أوالبطولي ، أي أنها ليست سقطة بالمفهوم الأخلاقي المتعارف عليه وإنما هي سقطة تحقق وتكشف الجوهر الحقيقي للذات، فتتجلى على حقيقتها .. إنها السقطة التراجيدية التي تقلق الذات وتخلق خلخلة في روح البطل والبناء الإجتماعي عموماً في فترة زمنية محددة بحيث توقف ديناميكية التطور .. وما يسود بعد ذلك هو الصمت الاستثنائي الذي يُخرس البطل.
فالسقطة هي ليست الفعل أو النتيجة وإنما هي ما قبل الفعل أي تلك الأسباب التي أدت لذلك ، أو هي تلك المسببات وما يعتمل في داخل البطل ، وبالتأكيد فان هذا ينطبق على نوع معين من الأبطال والأحداث ، وتكون السقطة أيضا ما بعد الفعل عندما تكون هناك ظروف إستثنائية أخرى أي تكون السقطة هي النتيجة التي ختمت الفعل التدميري للبطل وجعلت منه أما ذاتاً كاملة أو أنه تحوّل الى عدم ...الى شيء ككل الأشياء الساكنة في الوجود أي يكون ذاتاً ناقصة وجاهلة باختيارها ووجودها الذاتي ، أو أننا نراه محلـِّقاً تتلاطمه عاصفة هوجاء مجنونة لتقذفه في جحيم سوء الفهم وعنف الفوضى المنظمة .
إن الســـقطة والوعي بها في مكبث يؤدي الى : تأنيب الضمير والى الكآبة وهذه تؤدي الى الخوف الوجودي والإحساس بالخوف يجعل الكئيب في حالة من الدفاع عن نفسه وعن ما يملكه أي عن طموحه ، لذا فان ما يُعالِجْ الخوف هو سلاح العنف الذي يؤدي الى تدمير العدو المفترض ،المتخيل أي الآخر، وكلما إزداد الشعور بالكآبة إزداد الخوف والفوضى المنظمة ،وكنتيجة ستزداد الرغبة في قتل الآخر ، وكل هذا سيؤدي الى تحقيق ذات البطل الداخلية وفي ذات الوقت يدمرها .
أن يسقط البطل يعني يظهر ذاته الداخلية الحقيقية أو مرآته المرائية فتتجسد ذاته بفعل ليس من السهل تحقيقه من قبل الآخرين ،فالسقطة هنا تجبره على أن يظهر أمامنا بشاعته وحقيقته وعنفه ودواخله المظلمة، أما بالنسبة له فكل هذا يعني قوته وذاته المخفية التي ستتحقق في تكاملها الوجودي أي أنه الذات المتفردة في القيام بهذه الفعلة .
إذن البطولة التراجيدية هي نضال قبل أو بعد سقطة ذاتية من أجل استعادة الوعي بالذات الداخلية وهذا ينطبق على جميع الأبطال.
والسقطة تجعل من البطل أن يتحمَّل العيش في حياة معلـَّقة على وتر فوق هاوية الوجود الهامشي ومع هذا فأنه مضطر أن يسير بسقوطه الى النهاية من أجل إبراز ذاته ، أي يسير بإرادة متميزة بالعنف الى السقطة التي تكشف عن ذاته الداخلية او القنا ع الداخلي الذي كان مغلفاً بمظهر آخرغير ما كان يظهر عليه ، إذن السقطة مرتبطة ايضا بالقناع والمظهر او بالمرآة المرائية . أن يسقط البطل حسب مفهومنا يعني تتضخم الحساسية السيكولوجية للذات في مختلف الأزمنة ، بما فيها زماننا الذي يأخذ فيه الخداع مظهر الرحمة ، والحقد والفساد يتقنعان بالفضيلة والزيف وسمسرة المشاعر والأفكار!
ومن خلال إمكانية التلاعب وتبادل الأدوار هذه ، تتكشف أخطر أساليب ووسائل التدمير والخراب والتآكل الذي يعمّ حياة الإنسان ووجوده وماهيته ، بل الوجود كله ، مما تزيد أسباب الموت والعنف والفوضى المنظمة .