لا تعوّلوا على فضائلكم الذاتيّة والوراثية

فلنخض في خطبة أمير المؤمنين(ع) لنشاهد فضائل المتّقين. ثم ينبغي لكم أن تفرّقوا بين هذه الفضائل وبين الصفات الحسنة غير المكتسبة والطبيعية المتوفّرة في خصال الناس.
قال لي أحد زملائي في أيّام الدراسة: إن أصدقائي وزملائي يحترموني كثيرا لكونهم قد استحسنوا أخلاقي وسلوكي ولم يروا مني إلا خيرا، ولكني لم أجد نفسي أهلا لهذا الثناء والمدح والاحترام. فقلت له: من الجيد أن لا يرى الإنسان نفسه شيئا ولا يغتر بمدح الآخرين له... ولكنه لم يقتنع بجوابي وقال لي: أشعر بأن حالي المعنوي أسوأ بكثير مما يبدو في ظاهر سلوكي وعملي. ثم بدأنا سوية ندرس صفاته وسلوكه، فخرجنا بنتيجة أن كل ما يشتمل عليه من حسنات وفضائل فإنها من طبائعه وما ورثه من أبويه أو ما اقتضت بيئته وظروف نشأته. فقلت له: إن هذا الشعور الذي اعتراك بسبب أنك لم تجاهد نفسك ولم تعمل شيئا في سبيل كسب هذه الفضائل بل قد جاءتك بلا تعب. فلا فضل فيما اشتملت عليه من هذه الخصال بل هي فرصة ورأس مال لكسب المزيد من الفضائل.
وهناك رواية عن الإمام الصادق(ع) حيث يفضل الفضائل الاكتسابية على الذاتية؛ «عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: إِنَ‏ الْخُلُقَ‏ مَنِيحَةٌ يَمْنَحُهَا اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ خَلْقَهُ فَمِنْهُ سَجِيَّةٌ وَ مِنْهُ نِيَّةٌ فَقُلْتُ فَأَيَّتُهُمَا أَفْضَلُ فَقَالَ صَاحِبُ السَّجِيَّةِ هُوَ مَجْبُولٌ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرَهُ وَ صَاحِبُ النِّيَّةِ يَصْبِرُ عَلَى الطَّاعَةِ تَصَبُّراً فَهُوَ أَفْضَلُهُمَا»[الكافي/ج2/ص101].

التقوى بمثابة السبح عكس التيار

التقوى بمثابة السبح عكس التيّار، فأدب هذا الإنسان الذي لم يتعلّم من أسرته وبيئته الشتم والسباب، لا يدلّ على فضيلة له، إذ ورث هذا الأدب من آبائه وبيئته ولم يسع لها شيئا. وهكذا كثير من فضائلنا وصفاتنا الجيدة هي وراثية وغير متعوب عليها ولهذا لا تعتبر رصيدا قويّا لتقوى الإنسان.
ومن جانب آخر، إن بعض حسناتنا هي ما تقتضيه حياتنا الدنيوية وحتى قد تكون خطة. فإذا لم أبتسم ـ أنا المعمّم ـ في وجه الناس سيقولون ما أقبح أخلاقه. فهذا الصنف الذي أنتسب إليه يقتضي أن أكون مبتسما بين الناس. فلا يدرى كم من هذه الابتسامات التي أوزعها بين الناس هي في سبيل الله، حتى يمكن عدّها من الفضائل.
فبعض فضائلنا غير مكتسبة، وفرضتها طبيعتنا علينا فرضا، وبعض أخر هي فضائل تجارية، وهي من قبيل الأخلاق الحسنة واللسان المعسول والوجه البشاش والمشي المتواضع لكسب الناس إلى أنفسنا وتلطيف سمعتنا بينهم. وكل هذه الفضائل هي غير التقوى.

كلما ازداد الإنسان مواهب كلما يزداد حاجة إلى التقوى

لقد منح الله بعض الشعوب وبعض الناس مواهب وطاقات أكثر من غيرهم. فترى بعض الشعوب يحظون بالعقل والمشاعر معا. فمثل هذه الشعوب إذا أرادت أن تنال سعادتها، تكون أحوج من أيّ شعب آخر إلى التقوى. كما تجد بعض الشعوب تحظى بهمم وطموحات عالية تفتقدها غيرها من الشعوب. وهنا يأتي دور التقوى إذ لا شكّ في ضرورة تعديل هذه الهمم والطموحات بالتقوى.
الأذكياء أكثر حاجة إلى التقوى، وإلا فقد يؤول ذكاؤهم إلى استغلال الآخرين ونهبهم. وكذلك الفنانون أكثر حاجة إلى التقوى وإلا فقد يغرون الناس بفنّهم. وكذلك الاجتماعيون والذين يتأقلمون مع مختلف الظروف أكثر حاجة إلى التقوى، فلولاها قد تنجرّ خصلتهم هذه إلى النفاق.

ما نصنع بفضائلنا الذاتية والوراثية؟

عندما تسمعون الفضائل التي يحصيها أمير المؤمنين(ع) للمتقين، غضّوا الطرف عن تلك الفضائل التي تجدونها عندكم وسلطوا الضوء على ما تفتقدونه منها. طيب؛ ما نصنع بفضائلنا إن لم تأت عن طريق التقوى وكنا قد ورثناها من أبوينا أو كانت مما وهبتها لنا بيئتنا أو طبيعتنا؟ هنا لابدّ أن ندع هذه الفضائل جانبا ونعمل بها من أجل الله وهذا من أصعب مراحل سلوك الإنسان. فعلى سبيل المثال أحد أعمالنا الحسنة والجيدة هو الأكل. فهل تستطيعون أن تأكلوا الطعام في سبيل الله؟!
من السهل جدا أن نصلي من أجل الله، إذ لولا أمر الله لما صلينا أبدا، أما الأكل فيختلف أمره. هل تستطيعون أن تتنفسوا من أجل الله؟! فهو أشبه شيء بالمستحيل. إن بذل النفْس في سبيل الله أسهل بكثير من جرّ النَفَس من أجله. وكذلك الحال بالنسبة إلى الصفات التي ورثناها من آبائنا وأمهاتنا فمن الصعب جدا أن نعمل بها من أجل الله. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يأخذ بأيدينا لنيل هذه الدرجات من فضائل المتقين.

إن تحصيل التقوى ليس بأمر هيّن

إن توفيق كسب الفضائل توفيق لا يناله إلا قليل من الناس، إذ أن أكثر الناس يكسبون فضيلة أو فضيلتين أو ثلاث وهي فضائل قليلة جدا. فتجد أكثر الناس لا يغيّرون أنفسهم وإنما فضائلهم ومحاسنهم هي التي ورثوها من آبائهم وأمهاتهم.
ولهذا تجد أخلاق كثير من الناس تشابه أخلاق آبائهم، فلم يتعبوا على أنفسهم ولم يغيروا شيئا من صفاتهم إلا بعض الشكليات الظاهرية. فعلى سبيل المثال كان الوالد يغضب على صانعه في الدكان، أما الابن فيغضب في دائرته كمدير عام. فكان الأب يصفع صانعه إذا غضب، أما الابن فيعزل وينصب من وحي غضبه. فهو على سر أبيه ولم يتغير سوى في بعض الظواهر والشكليات أما فالصفات فهي نفسها.
فهناك القليل من الناس يستطيع أن يشتغل على نفسه بحيث يكسب صفات تختلف تماما عن مقتضيات طبيعته ووراثته وبيئته. فكم نجد أحدا ترعرع في أسرة عصبية وهو كان إنسان عصبي بمقتضى طبيعته ووراثته، ثم تعب على نفسه في مسار تغييرها وإصلاحها حتى حصل على نفسية هادئة مطمئنة لا تغضب في غير محلّه ولا تثار في أمر باطل حتى ولو استفزّه الناس أجمعون! فمثل هذا الإنسان يصدق عليه أنه اتّقى الله ونال الفضائل.
اللهم اجعلنا من أهل التقوى. وفقنا لكسب فضائل المتقين. اللهم إنا وإن لم نكن من أهل التقوى ولكن نحبهم ونودهم فاقبلنا واستجب لنا بهذا الحب يا الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.