هذا الذي بين يديك أيها القارئ العزيز هو سلسلة أبحاث سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ علي رضا بناهيان في شرح خطبة المتقين لأمير المؤمنين(ع) حيث ألقاها في مسجد جامعة طهران. بدأت بترجمتها لما تنطوي على أبحاث بديعة في مختلف المواضيع الأخلاقية وأسأل الله تعالى أن يوفقني لتكملة الترجمة كي لا تقتصر فائدتها على من له معرفة باللغة الفارسية. أسأل الله تعالى أن يتقبل هذا العمل القليل خدمة للإسلام والمسلمين ويعصمه من آفات النفس الأمارة والشيطان الرجيم، إنه أرحم الراحمين.
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا وحبيبنا أبي القاسم المصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.
عبر النظرة العامّية إلى المفاهيم الأخلاقية، يعتقد كثير من الناس أنهم بغنى عن التعلّم، بيد أن ساحة الأخلاق تنطوي على دقائق كثيرة لا ينبغي إهمالها. لقد تمّ اختيار خطبة المتقين في نهج البلاغة نصّا لهذه الجلسة العلمية، ولابدّ لي في البداية أن أقصّ عليكم حكاية هذه الخطبة.
قصة هذه الخطبة
كان «هَمّام» واحدا من الزهاد الثمانية الذين اشتهروا بالزهد في صدر الإسلام. كما كان أويس القرني أيضا أحد هؤلاء الزهاد والذي اشتهر صيته في عشقه للنبي الأعظم(ص). وبالإضافة إلى زهده كان همّام أحد أصحاب أمير المؤمنين(ع)، ونادرا ما يُذكر أحد أصحاب أمير المؤمنين(ع) ولا نجد فيه فضائل تميّزه عن غيره.
في إحدى الجلسات التي اجتمع فيها همّام ونفر آخرون بأمير المؤمنين(ع)، قام همام إلى أمير المؤمنين(ع) وقال له: «صِفْ لِيَ الْمُتَّقِينَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِم»؛ يعني ارسمهم لي بدرجة من الوضوح والنصاعة حتى أستطيع أن أجسمهم وأصورهم في ذهني كأني أنظر إليهم. علما بأن رجلا مثل همّام لم يكن بعيدا عن التقوى والمتقين. إنه كان من الأتقياء وفي قمّة درجات الزهد الذي يمثّل أحد أهمّ عناصر التقوى. ولكن مع كل هذا أبدى هذا السؤال. إنه لم يطلب استماع وصف المتقين حتى يصبح متقيا، بل أراد بهذا الوصف أن ينظر إليهم. ولكن ما هي الثمرة الحاصلة من هذه المشاهدة؟ هذا ما لابدّ أن نقف عنده. الميزة الثانية الكامنة في سؤال همام، هو أنه لم يسأل وصايا في التقوى، بل أراد وصف المتقين. وهناك بون شاسع بين هذين.
على أي حال سأل أمير المؤمنين(ع) أن يصف له المتقين كأنه ينظر إليهم بما يحظونه من روحانية ومعنوية، ولكن تثاقل أمير المؤمنين(ع) عن جوابه وقال له: « يَا هَمَّامُ اتَّقِ اللَّهَ وَ أَحْسِنْ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُون». ولكن لم يقنع همّام بهذا الجواب وأصرّ وألحّ على أن يتفضل عليه بما سأله وطالبه، حتى أنه أقسم عليه وقال: « أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَكْرَمَكَ وَ خَصَّكَ وَ حَبَاكَ وَ فَضَّلَكَ بِمَا آتَاكَ لَمَّا وَصَفْتَهُمْ لِي».
بعد هذا الإصرار الشديد بدأ أمير المؤمنين(ع) خطبته بمقدمة لا علاقة لها بوصف المتقين. بدأ بخلق الخلق، وتطرق إلى العاصين والمطيعين. تحدث عن أهمّ نتائج الصالحات والسيئات، وذكر أمهات المعارف من نقطة الصفر إلى أن انتهى بشرح فضائل المتقين. فقال: «فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِل...» وانطلق من هذه العبارة إلى ذكر 114 فضيلة من فضائل المتقين.
وحري بالذكر هنا أن كلام أمير المؤمنين(ع) لم ينته، إذ أثناء حديث الأمير اعترت همّام حالة لا أعرف حقيقتها. إنه صعق صعقة كانت فيها نفسه. ولا يخفى أنه لم يكن همّام المستمع الوحيد لهذه الكلمات الرائعة بل كان معه آخرون، ولكن لم تؤثّر هذه الخطبة بهم هذا التأثير. ولهذا قال أمير المؤمنين(ع): «هَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا».
فقال رجل: « فَمَا بَالُكَ أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِين»؛ يعني إن كان في هذا الكلام مثل هذا الأثر، فلماذا لم يؤثر عليك كما أثر على همّام؟! فقال أمير المؤمنين(ع): لكلّ أجل معلوم لا يسبقه ولا يتأخر عنه، ولكنه كان قد أشار في أوائل خطبته إلى أن المتقين على استعداد من الموت والطيران إلى السماء في كل آن، ولكن الله قد حبسهم في هذه الدنيا بالأجل الذي قدره لهم. إن الله قد قضى لهمّام أجله في تلك الساعة، ولكن جعل من فضائل همّام واستماع حديث أمير المؤمنين(ع) سببا في رحيله.
يتبع إن شاء الله ...