مفكرة عراقية تتحدث عن أربعة عقود من الحياة
25/01/2014 08:31
من النادر أن ترى مواطناً عراقياً لا يستطيع أن يتخلى عن مفكرته ليوم واحد، يدوّن فيها ملاحظاته أولاً، والأحداث التي تمرّ به بشكل يومي. وهذا ما فعله الكاتب قيس حسن، إذ كان لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ودوَّنها في مفكرته ليُنجز بعد ذلك كتاباً عن حياتنا التي عشناها، لكننا لم نكن لننتبه لكل هذه التفاصيل بعد عشرات السنين
حاول حسن في كتابه الجديد (تحت سماء الشيطان.. مفكرة شخصية لأربعة عقود عراقية) أن يبحر في الهمِّ العراقي، على مستوى الحدث والشخصية، ويكتب في التحولات التي رافقت أيامنا منذ ثمانينيات القرن الماضي وصولاً إلى الوقت الراهن. فمنذ أول يوم دراسي في المدرسة المتوسطة، بدأت الحرب العراقية الإيرانية، لتتوالى بعدها حروبنا التي لم تنتهِ حتى اليوم.
ثمانية وعشرون حكاية اشتغل حسن عليها، صوَّرت يومياتنا والانقلابات التي مرت بنا، متحدثاً عن ولده أولا ومن ثم الحروب التي مرت بنا، عن بعض أصدقائه الذين ضاعوا بين حرب واعتقال وقتل وتهجير. "كنت قد اتفقت مع الدكتور حمودي الذي وصل إلى استراليا، أن أهرب إلى إيران، ثم منها إلى أندونيسيا، ومنها عبر البحر إلى أستراليا، بلاد الكنغر والكرامة، هذه كانت خطط هروبي، فالدكتور "سوف" يدخل اختبار الطب، و"سوف" ينجح فيه، ثم "سوف" تتحسن أحواله المالية، وأكون أنا مع وصوله إلى العمل كطبيب متهيئاً في إيران لبدء الرحلة إلى استراليا، هكذا كان حديث الورق".
يقول قيس حسن في حديث خاص لـ"الصباح"انه اعتمد في جمع مادة الكتاب على ذاكرته بوصفه شاهد عيان عليها أو معنياً بها، و"لكن هناك مواد رجعت فيها إلى أشخاص آخرين، مثل وثيقة إعدام صديقي رزاق، فقد حصلت عليها من شقيقه، وفي قصته أيضاً عدت إلى صديق مشترك كان سجيناً على خلفية تهمة قريبة من قضية رزاق، ولديه اطلاع على التفاصيل. فشرح لي قصة المعارض "المفتعل" أو "الحكومي" الذي أوصل رزاق ورفاقه إلى حبل المشنقة، وفي بعض الأحيان استفدت من حديثي المباشر مع أشخاص أعرف أن لديهم معلومات ومعرفة حول ما أريد".
قصة الكتاب بدأت مزحة أو رغبة بسيطة، فلم يكن حسن جاداً إلى هذا الحد، إذ كان صغيره يمان يلعب قربه وهو ينظر إليه بعيون حزينة، حسب ما يروي، "قلت مع نفسي، ترى ما الذي ستقول عني حين تودعني وداعاً أبدياً؟ هل عرفتني؟ هل يمكن أن تصف حياة والدك بكلمات تثق أنها حقيقية وصادقة؟ بدا الأمر هكذا، وقلت مع نفسي سأكتب لصغيري الحبيب رسالة أشرح فيها سطور من حياتي. وإذا بي أمضي خلف هذه "الرغبة" أو "المزحة" إلى حد أني أضيف لرسالتي كل يوم مادة جديدة". بعد هذا وجدت حسن نفسه أمام مهمة ثقيلة. كان كل ذلك قد جرى نهاية العام 2011. ويضيف: "بقيت فكرة أني أكتب رسالة لصغيري تسيطر علي، لم أقو على الفكاك منها، في أوقات كثيرة كنت أضعف أمامها إلى حد أني اتوقف عن الكتابة حين أشعر أن المهمة ستكون ثقيلة على طفلي، لأن هناك حزناً لا أريد له أن يعيشه.
لم يكن للتخييل دخل في تأليف الكتاب، بل كان هناك مونولوج وأسئلة لاحقة للموضوع، فالحدث ومشاعر حسن نحوه لم يكن فيها أي مجال للخيال، وفي الوقت نفسه لم يكن يفكر برواية، لذلك كان الخيال بعيداً عن قصص وحكايات الكتاب. وفي الوقت نفسه يفكر حسن بكتابة حكايات عن المهمشين، وتحديداً "المنبوذين" في المجتمع، الذين يقودهم فقرهم إلى مسالك السجن والاحتقار. متسائلاً: "هل يستحق النشال "ضارب الجيب" تحديداً أن ندخل عالمه؟ هذا السؤال هو حلمي الكبير. أتمنى أن التقيهم وأحاورهم وأكتب رسالتهم
للعالم.
الرسائل التي حاول أن يبثها حسن في الكتاب كثيرة في بلد حكمه نظام شمولي قمعي لعقود طويلة كما حصل في العراق، فقد كان الخلاص من الآثار السيئة لبطش السلطة وطغيانها أمراً معقداً إن لم نقل مستحيلاً، القمعيون يؤرقهم موضوع الحرية الشخصية، هم أعداء أبديون لحرية الإنسان، يتدخلون بكل تفاصيل الأفراد ولا يتركون لهم ما يمكن أن يعزز فردانيتهم وخصوصيتهم، وخاصة ما يتعلق بالحياة العامة والمجتمع. كانت فكرة الانتقال من الشخصي إلى العام هي التي شغلته أثناء الكتابة. و"لكوني أتحدث عما تركته الحروب خصوصاً، وسياسة صدام عموماً على شخصيتي من أثر كنت مشغولاً بفكرة التداخل بين الخاص والعام".
لكن الموضوعات التي اشتغل عليها كثيرة، بدءاً من الأحداث السياسية التي عشناها، قمع السلطة، الحروب الكارثية، الحصار، وعن العلاقة بين السلطة والمجتمع، "اخترت أشخاصاً اعتقدت أن مصيرهم يقوى على رسم المصير والمسار الذي عشناه كمجتمع وتعطي صورة حقيقية عن موضوعها، الأشخاص الذين أعدموا بسبب معارضة النظام، والذين سجنوا، والبعثيون الذين عاشوا تجربة حزبية صادقة وحقيقية وكانوا مؤمنين بخياراتهم السياسية، الهاربون من البلد، ومن الجيش، المعارضون للنظام، ضحايا الحرب، هذه "الكوارث" التي عشناها، رسمت لكل منها بورتريه، لشخص أعرفه، هو ضحية من ضحايا السلطة". وينهي حسن كلامه قائلاً: "لا أدري إلى أي حد كتبت كلماتي بصدق؟ أتمنى أن يجد ضحايا تجربة البعث وصدام الدموية وسلطته القمعية في كلماتي بعض ما مروا به".
صدر الكتاب عن دار ومكتبة عدنان في بغداد، بـ236 من القطع المتوسط، وقدمه الكاتب أحمد المهنا.