الشاعر الكوردي "هيمن "
لمحة عن حياته وشعره
ولد الشاعر الكردي المناضل هيمن في قرية لاجين قرب مدينة مهاباد بكردستان إيران في 1300 هجري شمسي (1921م).
الغضب المقدس
يسجنني و لكن غضبي
أغلظ من السجن و أقوى
يضربني أما أنا فمثابر و مصرّ على نضالي
يقتلني أما أنا فصامد
أتحدى جلادي و لا أبالي
شعر هيمن 1974م:
بديهي مهما كان المترجم أريباً و ملمّاً بفنون الترجمة، فإن الشعر المترجم يفقد نقاوته و أصالته، هذا من جانب، و من جانب آخر إذا كانت ترجمة الشعر من لغة إلى لغة أخرى صعبة و مستعصية بصورة عامة. فأرى أن ترجمة شعر هيمن أصعب وأعصى من غيره، وذلك لأسباب منها:
أولاً- إن الشاعر استعمل المفردات الكردية الخالصة نادراً ما نرى فيها مفردات دخيلة.
ثانياً- إن المفردات و المعاني التي تضمنها مستوحاة من أعماق الشاعر المطبوعة بطابع كردي خالص بعيد عن التكلف، بحيث إننا عندما نقرأ أشعاره نحس بنكهة طبيعية و روحية، كأن الأشعار هي نفسها ظاهرة من الظواهر الطبيعية أو مطبوعة بطبيعة كردستان الخلابة، بحيث لا يمكن ترجمتها، كما لا يمكن نقل المناظر الطبيعية من مكان إلى مكان آخر، و لكن هذا لا يعني أن شعر هيمن ممتنع على الترجمة، إلا أن إنصاف أشعاره أمر متعذر.
الشاعر الكبير هيمن يعدّ من أكابر شعراء الكرد ،فضلاً عن أعماله الأدبية الرائعة التي تلمع في صفحات أدبنا المشرق، كما تلمع النجوم وسط السماء الصافية في ليل مدلهمّ. فإن حياته النضالية مفعمة بالجهد و الكدّ والتضحية في سبيل تحقيق أهدافه السامية، و تحرير شعبه المضطهد من براثن الاستعمار و الخونة. حقاً استطاع تفعيل أقواله و قصائده المنبثقة من أعماقه في حياته العملية، لأن هيمن كان شاعراً مخلصاً لوطنه وصادقاً في مواقفه و أقواله، يروي لنا في كتابه (تاريك و روون) أن أحد أصدقائه الذي كان فاهماً لأشعاره ومقاصدها سأله قائلاً: لِمَ قلت: أنا لست عاشقاً لعين دعجاء و لا لقامات رشيقة؟ قلت: يا أخي أنا لا أكذب أحاسيسي ومشاعري.. لو كنت عارفاً و ملمّاً بتلك الظروف التي كتبت فيها هذه الأبيات لما سألتني هذا السؤال، آنذاك لم يكن يخطر ببالي خيال العيون و الخدود، بل كان فكري حصراً على الوطن و جباله و وهاده و وديانه.. لأني أكتب ما يفيض من أعماقي(1).
و كان هيمن مرهف الحس رفيع الذوق، و إنه نعم بماضٍ خصب بسبب ما أذاقه الدهر من تجارب حياته الصعبة التي صقلته و جعلته صامداً و محتسباً في مواجهة صقعات و صفعات الأيام اللاذعة، و لذلك وبالرغم من معاناته في الحياة كان متفائلاً ، يقول ما معناه: مهما كانت النكبات موجعة ،و مهما كان الليل طويلاً ومدلهمّاً ، سيطلع بعده الفجر و يقضي على حلكته، هذه هي رؤية الشاعر للحياة.
تربيت في ظل الكهف
وكثيراً ما وقعت في أخدة سوداء
و لكن خرجت متحرراً
أخطو نحو الأفق نحو الأفق الوضاء
أخطو أخطو إلى ذروة التحرير
في الواقع نحن لا نستطيع في هذه العجالة أن نتحدث عن حياة هذا الشاعر المناضل بالإطناب والتفصيل، بل كل ما نصبو إليه هو ترجمة نماذج من أشعاره، و من خلالها تسليط الضوء بصورة خاطفة على أفكاره، وأرى أن من الأفضل أن نقتبس بعض التعابير من المقدمة التي قرض بها المناضل الكردي الشهير الأستاذ الدكتور (عبد الرحمن قاسملو) كتاب (تاريك و روون) لهيمن و نترجمها إلى العربية، لأن الدكتور قاسملو، في تقريضه للكتاب يبدو أنه كان مطلعاً على حياة الشاعر هيمن و تفاصيلها، كما يبدو أنه مولع بأشعاره وفاهماً لمقاصدها و ملماً بمناسباتها. و كان الدكتور معتنياً بهيمن. فضلاً عن ذلك فإنه كان عالماً بالمفردات المستعملة لدى الشاعر، لأنه كان متعايشاً في المناطق التي استعملت فيها تلك اللهجات الكردية الأصيلة السلسة. يقول د. قاسملو:
في عصرنا هذا من كان مطلعاً على الأدب الكردي فإنه قاريء لأشعار هيمن، و يعرف اسمه و يعلم أنه من أكابر شعرائنا في هذا العصر، و لكن أشعار هيمن منذ بدايتها تجاوزت وسط الأدباء و الكتاب، و انتشرت في وسط الجماهير الكردية المتعطشة لها. لأن أشعاره كانت منقطع النظير من حيث القوة و التأثير، بحيث هزت مشاعر أبناء الكرد من الأعماق، و ألهبت في قلوبهم ناراً ملتهبة، و وجّهتهم نحو النضال و المثابرة، وحببت إليهم مواجهة المخاطر و معانقة النكبات و الجراجات و القنابل، في سبيل تحرير الوطن و نيل حقوقهم الإنسانية.
وجلّ قصائده تعبّر عن اضطهاد شعبه الكردي و المأساة التي عانها على مر التأريخ، يقول:
منذ القدم سلبت من الكرد حقوقهم
و منذ القدم يعيش الكرد في العويل
و المأتم في سوح المباريات و الوغى
كانت رؤوس قادة الكرد
ملعوبة ككرة القدم
و بالتأكيد إن طبيعة كردستان الخلابة بجبالها الشامخة و سهولها الخصبة و وهادها الرخوة و وديانها المكثفة بالأعشاب الطبيعية وأشجارها المثمرة المتشابكة، ومراعيها المعشوشبة، وينابيعها المتدفقة الصافية وعيونها المتفجرة العذبة ، وكذلك حياة القرى المتواضعة البهية التي تأسر الألباب وتفتح الأذهان، وتجمع الخيال وتسر الناظرين، فهذه كلها أصبحت مصدراً خصباً لإلهامه الشعري، بحيث إننا لما نقرأ قصائده نكاد نرى روعة تلك المناظر الساحرة في صورتها الحقيقية، أو نقول إن ديوانه الشعري كمعرض للفنون التشكيلية المكتظة باللوحات الفنية الرائعة منها ما ترينا حياة القرى المتواضعة والواقعة في سفوح الجبال الباسقة، ومنها ما تعرض الجمال الطبيعي للفتاة القروية الطاهرة، ومنها ما تفيض منها دماء الأبرياء والأدخنة المتصاعدة من القرى والغابات والبساتين الملتهبة تحت وطأة قنابل الأعداء وانفجاراتها، ومنها ما يتقاطر منها عرق جبين الفلاحين المنكودين:
أنا فلاح أنا فلاح
أنا صديق الشمس
أنا بعرقي
و هي بطاقتها
بنينا أساس الحياة
بساعدي وضوئها
نأخذ الرزق من الأرض
إذا لم يصبّ الفلاح عرقاً
وإذا لم تبث الشمس ضوءاً
كيف يأكل الخبز
ساكنو الصرح و القلعة؟
هناك خصلة مهمة للشاعر اتسمت بها أشعاره وهي، وإن كان هيمن عاشقاً لوطنه ومتفانياً في محبة شعبه الكردي، و لكن مع ذلك لم يكن حاقداً على أي قومٍ من الأقوام، و لا نجد في ديوانه كلمة يطعن بها قوماً أو يرفع بها الكرد على أمة أخرى، و هذه الخصلة السامية قلما نجدها عند غيره من الشعراء (4)، ليس هذا فقط بل إن حبه للإنسانية كلها طُبعت به قصائدُه، و هذه هي النقطة التي يلتقي فيها فحول الشعراء و المفكرون و جهابذة التصوف.
وكذلك المرأة لها حضور تامّ في شعر هيمن، ومصدر رئيس لإلهامه، وفي كثير من قصائده يصور جمال المرأة ويثمّن دورها، و يرفع شأنها، لأن هيمن كان ثائراً بعقله وضميره على المعاناة التي تعانيها المرأة الكردية في مجتمعها ،ولذلك كثيراً ما يدافع عن حقوق المرأة ويحثها على أن تناضل في سبيل تحقيق ذاتها لتتحرر من قيود العادات و التقاليد البالية:
عذارك كأنوار طليعة الشمس
ومحياك أبهى من القمر
دون التجميل
خدك شقائق النعمان
مشرق كالقنديل
عيناك كحلاء بالطبع بلا كحل
أنت وضاء
مثل دمعة العاشق
وطاهرة
كنَدى الصباح
ولكن هيمن مع حبه العارم المتجذر للمرأة، ومع ما يكنّ لها من أعماقه من التقدير والإعجاب و التثمين لدورها في المجتمع فإنها ليست أعز من الحرية عنده، و ها هو يصرح بذلك:
نعم البعد عن المرأة
هو القضية
في منتهى الصعوبة
و الأذية
أما عندي
فأحَب من المرأة
و أعَز
أنت يا حرية(5).
وهيمن، وإن كان محباً لجميع مناضلي الكرد ليس هذا فقط، بل يفتخر بأن يكون تربة لمقدم مناضل كردي، ولكن خصّ بالإعجاب و التقدير القائد الكردي التاريخي القاضي محمداً، لأن القاضي كان أستاذا له و صديقاً و قائداً و مربياً، و تأثر باستشهاده ورثاه رثاء الثكلى لوحيدها:
في جوارجرا مهاباد
في مدرسة الفكر الحر
اليد السوداء المستبدة
نصبت مشنقة الظلم
في هزيع الليل
عند عمق الرقاد
نفذ أشنع العمل
شنق القائد
والأمل.
وهيمن مع ما عاناه من المصائب والآلام والمطاردة في وطنه، و ما قاساه من العذاب والمحنة و الجور في الغربة والمهجر، و بالرغم مما تجرع أبناء جلدته من النكبات والاضطهاد و التشريد والتقتيل لم يجد الشؤم إلى قلبه سبيلاً، بل بقي متفائلاً و صامداً كطود شامخٍ، يناشد الحياة العز و الحرية، و يحث أبناء الشعب على الوحدة و التكاتف و المثابرة في النضال، كي يحرروا أرضهم من الأعداء والخونة، ويطهروها من عناصر الشر و الفساد.
يقول:
تكاد تثمر
شجرة الكد و النضال
و تتطهر تربة
وطننا المقدسة
من الاحتلال
حينئذ أضع البندقية
و أحمل عكازي
و أنت كوني خلابة
و أنا أكون راعياً
يا ملاك خيالي
و مرادي
و هيمن يقدس الشهيد و يمجده، و يرى أن تطهير الوطن من دنس الأعداء وتحرير أبنائه من الاضطهاد و الاستعباد ثمرة للشجرة المباركة التي تروى بدماء الشهداء:
شاب يافع و صنديد
يتمرغ في الدم
هكذا قافلة النضال
تتقدم
دون التواني و الراحة
الشاب الذي عاهد الوطن
أن لا يضع حتى الموت
البندقية
ها هو الآن محاصر بالأعداء
في موقعه وحيداً
في سبيل القضية الكردية
و يرى هيمن أن وظيفة الشاعر ليست فقط كتابة الشعر و إلقاءه على الجماهير، بل إضافة إلى ذلك عليه أن ينخرط في ساحة النضال مع الجماهير المحرومة، مدافعاً عن حقوقهم، ويقاسمهم همومهم ومعاناتهم، لذلك فإن هيمن لم يبق متفرجاً، ولم يأل جهداً، بل انخرط في مواجهة المصائب و الرزايا، وحث أبناء الشعب على التقدم في درب النضال دون التراجع، إلى أن يصلوا قمة التحرر والنصر:
أنا ابن الكرد
تألفت المشي في الطرق الوعرة
والمنحدرات
وكلما أزيد
في المشي وأكدّ
وكلما يزداد عرقي انصباباً
اختصر طريقي الطويل
أمشي نحو الأفق
نحو الأفق الوضاء
أمشي أمشي نحو
ذروة التحرير
التربة:
لقد كتبت إلي لأكتب إليك
من أنا؟
لست ذروة قنديل
ولا أنا واحة هلكورد
أخطو نحو القمم
رغم صغر حجمي
أنا تربة لمقدم مناضل كردي
الأرق:
لقد طلع الفجر و الليل مضى
ولكنْ كحّل السهادُ عيني
وطار من مآقي الكرى
وتغرد البلابل والأطيار
أما قبجي فلا يبقبق
يسوقني الخيال نحو ملتقى ليالي الشباب
أسفا لا أسمع هسهسة سوار
و خلاخيل و صخاب ليلى
عشق الحرية
ولو تهور الليل ما بقي منه
سوى الهزيع
ألا أيتها الساقية
صبي لي قدحاً آخر
لقد بدا هذه الليلةَ
من أعماقي حزن آخر
أشبعيني من الشراب هذه الوجبة
أشبعي أنا المهموم
كيف أقتنع بأني أرى ليلة أخرى
وجبة أخرى
من كثرة عللي و عدم وجود
امرأة مداوية بجنبي
أعتقد بأن لا تشتعل
على كيكة عمري شمعة أخرى
قضيت أياماً كثيرة بالمرارة
أيسمح الموت مرة أخرى
لأرى عصراً آخر
وصلت إلى ذروة الهوى يوماً
رأيت أمامي أحزانا
ومصاعب وهموماً أخر
مادمت أراك متبرقعة بالخمار
هناك بقعة أخرى من الضباب
ممتدة على بؤبؤ عيني
أسفا توفي خاني ليسجل
قصة عشقنا
لا يزال يعيش في كردستان
)مم و زين) آخر
إن فراشة عشقي
لا تعشش في مكان
بل تهبط و ترفرف جناحيها
على صدر و نهد آخر
و أن تصبح حياتي
أضنك و أتعس
ألف مرة
مما أنا فيه
ففي قلبي رغم ذلك
أمل وضاء
لخال و قصة أخرى
سأبقى سائراً في طريق
العشق و الحرية
و إن كنت لا أجني ثمراً آخر
سوى العي و التحسر
لما رأيت العبرة على محيا البنت
مكسورة الخاطر
قلت يا رب لا ترِني على
الوردة الحمراء
ندى آخر
نحو الأفق:
لقد كنت صوفياً في الخانقاه
أصبحت نديم ناد
كنت زاهداً في الخلوة الآن ثمل بالحميا
العرعر الطليق العالي رائع و خلاب
و لكن أنا ولهان وعاشق لمشية
هذه القامة الغنجة
أحب بصيص الجمال في كل شيء
يوماً مفتون أنا للمِنيجوب
ويوماً أموت على الخمار
كل شيء يثير المشاعر حسب روعته
أصيل و الجوزاء و غبشة الفجر
السماء الصافية و البحر الهادئ و ظل الجبل
التفاح الأحمر و السفرجل الأصفر
و الرمان المتورد
من هو مثلي تجرع برودة و حر الأيام
أحيانا تلفحني زوبعة الجنوب القائظة
و أحيانا أصطك في صقيع "كه ده م" (1)
كأمواج النهر المنهمر ليس لي قرار
أدور حول نفسي متلففاً أنا ابن كردي
لهذا العصر
إن الطريق وعرة ومفعمة بالوديان
و المنحدرات و الجبال و اللهب
علي أن أتحرك وأسرع
في الخطوات دون الراحة
قبالتي شبح الموت أسير نحو المنزل
فالمأوى حفرة القبر أتدحرج نحوه
دون القدم
تجنحت أطير أطير
نحو الأفق و نحو النور
كيف أحبو نحو الظلمة و أستند
إلى الشيطان!
كم من الينابيع الصافية
رأيتها و ما عكرت بسيل الربيع العارم
و كم من الثلوج الهائلة غطت الجبال
فأصبحت بخاراً بشؤبوب من المطر
رأيت حياة قصيرة مفعمة
بالفخر و الاعتزاز
وكذلك رأيت حياة طويلة
انتهت بالخزي و العار
نيران أعماقي ملتهبة
تضيء الوطن
كردي أنا:
كردي أنا
عانيت ما عانيت من الآلام
والحسرات
وذهبت ثمار كدي سدى
رغم ذلك لم أنهزم أبدا
أمام هذا العصر العاق
إني كردي إني شهم
لست عاشقاً لعين دعجاء
و بنت جيداء
بل أنا عاشق للجبال و الأكمة
و الصخرة
ولو أموت من الجوع و أتجمد من البرد
لا أنصاع لصخرة الاستعمار
مادمت متنفساً
لست مبالياً بالقيود و السلاسل
والمشانق والسجون
لو قطعوني إربا إربا
أو قتلوني سأبقى
أصيح: كردي أنا
كردي أنا
اليد :
أسفاً لليد التي كانت
تربي الرياض
و ترتبها إن تُكسر
أسفا لليد التي كانت
تداعب خصلات الحسان
و تمشطها
إن تُكسَر
أسفا لليد المتجمدة المرتعشة
من البرد
ورغم ذلك كانت
ترهب الطغاة والجبابرة
إن تكسر
تحياتي