محمد غازي الاخرس
الخميس, 23 يناير 2014 09:46
أنا أعشق الحكايات الشعبية ولو كان بيدي لأسست معهدا لدراستها والحفر في أنساقها وتتبع أصولها في الأساطير والخرافات العراقية القديمة، ومن ثم التعرف على منظوماتنا القيمية وطريقة
تأثيرها في تكون شخصياتنا. هي مهمة جدا برأيي بل لا تقل أهمية عما ندرسة من أدب "رفيع". هوسي بالحكايات هذه ربما يعود إلى شظايا الطفولة التي تأبى الزوال. أتذكر مثلا أنني كنت أسرح بعيدا وأنا أستمع للحكايات التي كانت تقصها أمي ومنها سالفة "أم عامر" و"صريوط وكريوط" و"جرادة وزرور" وسالفة "الهيشة" العجيبة التي تحمي أصحابها وغير ذلك مما أنتجته المخيلة الشعبية الخصبة. الحال أنني تذكرت شغفي بالحكايات مساء أمس وأنا أطّلع في عدد من مجلة "لغة العرب" على مقالة مذهلة مكتوبة في العام 1928 بقلم كاتب اسمه أحمد التلنجفي، وفيها يصف بالتفصيل ما يمكن اعتبارها أقدم مخطوطة تضم حكايات شعبية عراقية. قرأت المقالة وأنا لا أكاد أصدق عينيّ، إذ حسب معلوماتي المتواضعة فإن أقدم كتاب جمعت فيه حكايات عراقية لا يعود لأكثر من ثمانين عاما، وهو الذي دوّنه الأب أنستاس ماري الكرملي بعنوان "ديوان التفتاف" وفيه خمسون حكاية جمعها من أفواه الأمهات في بدايات القرن العشرين وأثبتها باللغة العامية البغدادية. كان ذلك ربما أقدّم ما كتب في هذا المجال، فكيف سيكون الأمر لو علمنا أن ثمة مخطوطة تسبق جهد الكرملي بثلاثة مائة عام؟
نعم، هذا ما أذهلني وأنا أطالع مقالة أحمد التلنجفي حيث يصف المخطوطة قائلا إن عمرها قرابة 300 سنة (في عصره)، ثم يرّجح، استنادا لطريقة التدوين، أن كاتبها رجل فارسي يبدو حريصا على إثبات الحكايات كما سمعها من أناس ذلك الزمان. بل إن التلنجفي يزعم أن المخطوطة ربما تنقل لنا عصرا تحوليا في اللغة العربية هو عصر تكون اللهجة العامية وسيادتها بدلا عن الفصحى. الغريب بل الصادم ان ذلك الرجل عنون كتابه بـ"سوالف" لا "حكايات شعبية" مثلا أو أي مصطلحٌ آخر. ومصطلح "السوالف" عراقيٌ محض ويعني القصص الشعبية التي تدور في سالف الأزمان وأبطالها عادة هم السلاطين والأمراء والتجار والكسبة والعبيد إضافة للجن والسعالى والمردة والعفاريت.
ثم ان لعابي سال وأنا أقرأ عناوين السوالف ومنها: سالفة الملك شامان وحرمة اليهودي، سالفة سلطان عباس مع الرقاع، سالفة ابن سلطان عباس مع بنت الوزير، سالفة العالم مع الراعي، سالفة حاتم مع الولد الذي جاب بنت المصري الخ. ولكي تقدروا دهشتي سوف أنقل لكم عينة مما نقله التلنجفي من متون السوالف: عاشق النبي صلو عليه ولو صليت عله النبي لا تنسى ابن عمو علي.. وكان سلطان عنده اولاد اثنين وكل يوم راكبين خيلهم ويرمون للتصيد والقنص، وفد يوم استوا دربهم عله فد قصر، وكان القصر الى رجل يهودي وحرمة اليهودي كانت جالسة على راس القصر، لهم من رأت الاولاد مقبلين، عشقت الأولاد اثنينهم، والاولاد راحوا الى بيتهم وما علمو ايش الخبر، وحرمة اليهودي صاحت الداي الداي، انا عاشقت الاولاد اثنينهم وايش التدبير، قالت الداي اعطيني الخرج واجيب الرواقيص وبكره اجيب الاولاد، والداي سوت كل شغل حاضر واستوا بكره وركبو خيلهم والطيور على ايديهم ..الخ.
الآن لكم أن تتخيلوا كم من المعلومات اللغوية والثقافية يمكن لهذه المخطوطة أن تقدمه لنا، لكم أن تتخيلوا إلى أي مدى سيفيد منها الانثربولوجيون والنقاد الثقافيون والمهتمون باللهجات. ثم بعد ذلك، لكم أن تتخيلوا المتعة التي ستقدمها لنا سوالف أجدادنا وجداتنا قبل 400 عام.