المؤمنُ مُعقِّب، ما دامَ على وضوء
الفقيه الشّيخ عبد الله المامقانيّ رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
مقتطفات من كتاب (مرآة الرّشاد) للفقيه الشّيخ عبد الله المامقانيّ رحمه الله، وهو عبارة عن وصايا عقائديّة، وأخلاقيّة، وعباديّة كتبَها لولده وذريّته عموماً.
* أوصيك بُنيّ -وفّقكَ اللهُ تعالى لكلِّ خيرٍ وجَنَّبَكَ من كلِّ سوءٍ وشرٍّ- بإخراج حُبّ الدُّنيا عن قلبك، فإنه سُمٌّ ناقعٌ، وداءٌ مُهلِكٌ، وقائدُك إلى النّار، ومُبعِدُكَ عن نَيلِ ألطافِ المَلِك الجبّار.

وطريقُ إخراج حبّها عن قلبك، أن تَتَفكّر في أنّها لو كانت جيِّدةً حسنة، لاختارها أكملُ العقلاء، وهم الأنبياءُ صلوات الله عليهم والأئمّةُ عليهم السلام، ولَمَا فرّوا منها فرارَنا من الأسد، ولَما أكَّدُوا التَّوصية بالفرار منها.
بل التّأمّلُ الصّادق يُرشدُك إلى أنّ حبَّ الدُّنيا بمنزلة الشِّرك، لأنَّ حبَّها يَكشفُ عن عدم اليقين بالآخرة، وعدم الاطمئنان بما وَرَد في الكتاب والسُّنّة، وإلَّا لم يكن يُعقَل حبّها بعد ما وَرَد من مُضادّتها للآخرة.
فعليك بُنيّ بالزُّهد فيها بِتَركِ حرامِها خوفاً من العقاب، وشُبُهاتها حذراً من العِتاب، بل تَرْكِ حلالِها مهما أَمكنَ فراراً من الحساب، وتركِ مُشتهيات النّفس إلَّا ما كان له رَجحانٌ شرعاً كالزّواج.
* وعليك بُنيّ بالتّوسُّل بالنّبيِّ وآله صلّى الله عليه وآله، فإنِّي قد استقصَيْتُ الأخبارَ فوجدْتُ أنّه ما تاب اللهُ على نبيٍّ من أنبيائه -ممّا صدر منه من الزَّلّة- إلَّا بالتّوسُّل بهم.
* وعليك بُنيّ بإقامة عزاء أبي عبدالله الحسين عليه السلام في كلّ يومٍ ولَيلةٍ مرّةً حسبَ مقدورك، حتّى أنّه إنْ لم يتيسّر لك مَؤونتُها، ولم تَقدر إلَّا على قراءة كتاب التّعزية لِعيالِك في اليوم واللّيلة مرّة فافْعَل، فإنَّه عزيزٌ على الله تعالى، لِوصُولِه في الإطاعة إلى درجةٍ تَفرَّدَ بها، فبَذَلَ نفسَه ومالَه وعيالَه كلَّها في سبيلِه تعالى، وفي التّوسُّل به خيرُ الدّارَين، وفوزُ النّشأتَين.
وعليك بُنيّ بزيارته عليه السّلام في كلّ يومٍ من بُعدٍ مرّة، والمُضيّ إليه في كلّ شهرٍ مرّة[كان رضوان الله عليه مقيماً في النّجف الأشرف، وأوْصى ابنَه بالسَّكن فيها]، ولا أقلّ من زيارته في الوَقفاتِ السَّبع [زيارة عاشوراء وليلتها، والأربعين، وأوّل رجب، والنّصف منه ومن شعبان، وليلة الفطر، ويوم عرفة] وإنْ كُنتَ في بلدةٍ بعيدةٍ، ففي السّنة مرّة. فإنّ مَن لاحظ الأخبار، وواظَب على ما ذكرتُ ورأى ما رأيتُه من الآثار، لم يَترك ما ذكرتُه لك. ولقد شاهدتُ من زيارته وإقامة عزائه عليه السلامكراماتٍ تُبهِرُ العقول، وأقلُّ ما وجدتُه منها أنّه لم يَتّفق لي أنّي زرتُه إلَّا وَوجدْتُ فرَجاً من أمري، وسعةً في رزقي، وما عند الله تعالى خيرٌ وأَبقى.
* وعليك بُنيّ -وفّقك الله تعالى لِما يُحبُّ ويَرضى، ومَنَّ عليك بالعمر الطّبيعيّ- بإكرام الشّيوخ والعجائز، فإنّ اللهَ تعالى يَدفعُ بهم البلاءَ عن عبادِه. وإيّاك وإسخاطُهم، ولقد وجدتُ من ذلك ما لا يَسعني نَقْلُه.
* وعليك بُنيّ بالتّناهي في إكرام الوالدَين، والبِرّ بهما، فإنَّه من أعظم ما وَرَد التّأكيد به في الكتاب والسُّنّة. وإيّاك والمُسامحة في ذلك.
* وعليك بُنيّ بإكرام العاملين من الفقهاء رضوان الله عليهم، فإنَّهم أعلامُ الدِّين، وأُمَناءُ الشَّرع المُبين، وهم نُوَّاب وليّ العصر عجّل الله تعالى فَرَجه الشّريف جَعَلنا اللهُ من كلّ مكروهٍ فداه، وهم هُداةُ الخَلْق. وأمَّا مَنْ لم يَعمل منهم بما عَلِم، فَفُرَّ منه فرارَكَ من الأسد، فإنّه ليس بعالمٍ بنصّ الإمام عليه السلام، وإنّه أضرُّ على هذا الدِّين من جيش يزيد بن معاوية عليه اللّعنة والهاوية.
* وعليك بُنيّ بإكرامِ الذُّريّةِ الطّاهرة: ذرّيّةِ عليٍّ وفاطمة صلوات الله عليهما. وإنّ مودَّتهم من الفرائض اللّازمة، لأنّها جُعِلت -بنصّ الكتاب- أجرَ الرّسالة المُقدّسة. فأَكرِمْهم حَدَّ مقدورك تُرضي بذلك اللهَ تعالى ورسولَه صلّى الله عليه وآله، وتَكسَب بذلك خيرَ الدُّنيا والآخرة.
ولا تُقْصِر إكرامَك على خِيارِهم، لأنّهم ليسوا كَالفقهاء يُسلَب عنهم المَنصبُ بعدمِ العمل، وإنّما الثّابتُ لهم النَّسَبُ غيرُ المُنتفي بالعِصيان، لا المَنصبُ المُنتفي بمخالفةِ الرَّحمن. نعم إنْ كان تَرْكُ إكرام العاصي منهم نهياً فعليّاً له عن المُنكَر، كان مقتضى القاعدة لزوم التّرك من تلك الجهة، وإنْ كان ما نُقل من قضيّة أحمد بن إسحاق الأشعريّ مع الحُسين بن الحسن الفاطميّ يَأبى عن ذلك أيضاً، فالأَولى الإكرامُ صورةً والنّهيُ في الخَلوة.
* وعليك بُنيّ بصِلة الرَّحِم، فإنّها تُطيل العمر، وتُوسِعُ الرِّزق، وتُرضي الرّبّ، وتنفعُ في الدُّنيا والآخرة. فَصِلْ حتّى القاطعَ منهم، ممتثلاً لقول أمير المؤمنين عليه السلام: «صِلُوا أرحامَ مَن قَطَعَكُم، وعُودوا بالفضلِ على مَنْ حَرَمَكُم..». بل صِلةُ القاطِع، بُنيّ، أقربُ إلى القربة، وأَبعدُ عن متابعة النّفس الأَمّارة.
وإيّاك ثمّ إيّاك وقَطْعُ الرَّحِم، فإنّ الرَّحِمَ معلّقةٌ يوم القيامة بالعرشِ تقول:«أللّهُمَّ صِلْ مَنْ وَصَلَني، واقطَعْ مَنْ قطعني». ولقد وجدتُ منْ صِلةِ الرَّحم – لا سيّما صِلة القاطِع منهم- آثاراً غريبة، وفؤائدَ عظيمةً عجيبة، فعليكَ بها.. وعليك بها، وإيّاك والمسامحة فيها.
* وعليك بُنيّ بمُراعاةِ حال المُضطرّين من الشّيعة، لا سيّما الأرحام والجيران، تنالُ بذلك عزَّ الدُّنيا والآخرة وفَخْرَهما، وتَحفظ نفسك بذلك من صَدماتِهما، وتُرْضي بذلك الرّبّ العَطوف.
* وإيّاك بُنيّ أن تُخلي مجلساً عن ذِكر الله تعالى، فقد قال عليه السلام: «ما اجتمعَ في مجلسٍ قومٌ ولم يذكروا الله تعالى ولم يذكرونا، إلّا كان ذلك المجلسُ حَسرةً ووَبالاً عليهم».
وليس الغرضُ بالذِّكر لَقلقَة اللّسان فقط من دونِ توجُّه القلب، بل الذِّكر اللّسانيّ مقدّمةٌ لِلذِّكر القلبيّ، فالأوّل بِمنزلة الجسد، والثّاني بِمنزلة الرُّوح، فالذِّكرُ القلبيّ وحدَه نافعٌ دون اللّسانيّ، وقد اتَّخذ اللهُ تعالى إبراهيم عليه السّلام خليلاً لعَدمِ غفلة قلبِه عنه تعالى أبداً.
* وعليك بُنيّ بكثرة الاستغفار بالأسحار، والمداومة في كلّ صبيحةٍ بمائة مرّة: «ما شاءَ اللهُ، لا حولَ ولا قوّةً إلَّا بالله، أستغفرُ الله»، وبعشر مرّات: «سبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إله إلَّا اللهُ، واللهُ أكبر».
* وعليك بُنيّ بقراءة كلِّ دعاءٍ ولو في العمر مرّة، والإتيان بكلّ عملٍ واردٍ ولو مرّة، لأنّ لِكُلّ عملٍ أجراً خاصّاً، فينبغي أن تكون آتياً بها جميعاً حتّى تنالَ بفضلِ اللهِ سبحانَه جميع أنواع مَثُوبات الله سبحانه، ولا تُحرَم من شيءٍ منها. ولقد أجاد مَن شَبَّه العباداتِ والأدعيةَ بالأثمار، فقال: كما أنّك إذا دخلتَ بستاناً فيه أنواعُ الثّمار تحبّ أن تذوقَ من كلٍّ منها، فكذا العبادات يترجّحُ أن تفعل كُلّاً منها ولو مرّة.
* وعليك بُنيّ بقراءة القرآن المجيد كلّ يوم مقداراً، لا سيّما في الأسحار، مع التّفكُّر في معانيه، والتّأدُّبِ بما فيه، ومراجعة ما وردَ عن الأئمّة عليهم السلام في تفسيرِه ما أَشْكَلَ عليك فَهمُه منه.
* وعليك بُنَيّ بالكَوْنِ على الطّهارة مهما أَمكن، فإنّها سلاحُ المؤمن لِدفعِ الشّيطان، وتَمنعُ عذابَ القبرِ، وتقضي الحاجة، وتزيدُ في العمرِ والرِّزق، وتُورِثُ مزيدَ الجاه وعلوَّ المكان والرّفعة، وصحّةَ البدن، والفرحَ والنّشاط، وتزيد في الحفظ والذِّهن.
ووَرَد أنّ الوضوءَ نصفُ الإيمان، وأنّ المؤمنَ مُعقِّبٌ ما دام على وضوء، ومَن مات على طهارةٍ مات شهيداً، ومَن بات على طَهورٍ كان كأنّما أحيَا اللّيل، ومَن تَطهّر وأوَى إلى فراشه باتَ وفراشُه كَمسجدِه.
* وعليك بُنيّ عندَ وسوسةِ الشّيطان بالاستعاذة بالله تعالى منه، والبَسملة، ثمّ قول: «آمنتُ باللهِ ورُسُلِه مُخلصاً له الدِّين» مع عَقْد القلب عليه.
* وعليك بُنيّ بحِفظ أوّل أوقات الفرائض، فإنّه أفضلُ وأبرأُ للذّمّة، وأفرغُ للبال، وأَروحُ للبدن، وأجمعُ للفِكر. وقد أُرسل أنّه: «لا يفلحُ عملٌ قبل الصَّلاة». فأدِّ، بُنَيَّ، الفريضةَ في أوّلِ وقتِها، واستَرِحْ مِن هَمِّ تكليفِها، يتّسعْ بذلك رزقُكَ إنْ شاء اللهُ تعالى.