كان ساعي البريد يحمل رسائل المحبين من بلدٍ إلى بلد في زمنٍ كان فيه العشاق أحسن حالاً وأصدق نبرةً من عشاق اليوم، ومع وسائل التواصل الاجتماعي اليومية أصبح الحب مجرَّد كلمةٍ قابلة للمحو بضغطة زرٍّ واحد صغير هي لا تعيش إلا دقيقة واحدة ولا تكلف إلا هللات معدودة. كان الحب أكثر واقعيةً يوم كان الحمام الزاجل ساعي بريد يحمل رسائل المشتاقين العشّاق إلى أبعد نقطةٍ في العالم.. كم من الأشواق اغتالهـا الـ فيس بوك وهو يقرب المسافات!
نسي الناس تلك اللحظة المغمورة باللهفة التي كان العشاق ينتظرونهـا بحرقةٍ وحرارةٍ وقلق ومزيج من الشوق يعبر أنفاس المحب في رسالة حبٍّ يبدأ حروفهـا التي تفيض حبًّا وصدقًا وأشواقًا معطرة رسالة حب تصمد لآخر العمر وتعيش خالدة محفوظة للأبد في درج عتيق صغير بعد أن حُفظت في فؤادٍ محروق عصيةً على التغافل وغير قابلة للمحو والنسيان والحذف، أمَّا رسائل الحب في العصر الحديث فهي مهملة على سطح مكتب في واجهة لوحٍ إلكتروني أو في خانة صغيرة بواجهة جوال حديث أو في صفحات مغلقة بزاوية فيس بوك أو في سلة مهملات.
لم تعد الكلمات الإلكترونية تعبر بذلك الصدق من الحب العذري المقدَّس النابع من القلب العابر لكل قارات الحب إلى محبوبٍ يستحق أن يوهب مشاعر حبٍّ جميل يدغدغ الأحاسيس ويبهجهـا، أمَّا الحروف الإلكترونية فلم يعد لهـا ذلك الوهج والبريق الذي يلمع في خطوط وحروف المحبين كلمعةِ نجمٍ عابرٍ في ظلام دامس، بعض تلك الرسائل الالكترونية المشفوعة بالصور قد تكون مدهشة بعض الوقت، ولكنها أصبحت مجالاً خصبًا ليس لخيال شاعر أو فتنة رسام ولكن لاقتناص مبتزٍّ ذي نفس مريضة وضعيفة لم تقدِّر معنى أن يحب شخص أو فتاة ما شخصًا آخر ويعبر له بكل ثقة عن كل المشاعر والأحاسيس الفياضة بكلمات جياشة لحظة ضعف وثقة فتَهِب من تحب الثقة الكاملة لتبعث للمحبوب بكل الأسرار، فإذا الأسرار بضغطة زرٍّ فضائح، وإذا الحروف الالكترونية تتحول إلى لعنات أبدية في دفتر العشاق الإلكتروني المفتوح.
مشكلة التقنيات الحديثة أنَّها شوَّهت معالم الحب ودنَّست جماله بقذراتٍ كثيرة وقضت على كثيرٍ من جماله وجلاله ورونقه وحوَّلته إلى آلةٍ صمــاءَ بكمـاءَ لا مشاعر فيهـا ولا أحاسيس بل حولته إلى غابة ذئابٍ مفترسة أو ساحة صراع تموج بالغيرة والشكّ الذي لازم النقاط والحروف ولوثته أصابع تقنية جامدة البوح فيهـا لون من ألوان اللهو العابث.
ما أحوجنا اليوم إلى الزمن الجميل زمن الحب الصادق الذي لم يعرف الخديعة أو الكذب ولا سرعة التقنية التي قضت على لهفة الأشواق بانتظار رسالة تحمل الحرف ويحملهـا بكلِّ عاطفةٍ ودفء وقتهـا يظهر الفرق بين حرف مخطوط وحرف مضغوط. والقلوب هي التي يكون لهـا الحكم والاختيار بين حرفين مختلفين.
مصدر المقال: الإسلام اليوم