بسم الله الرحمن الرحيم
مقارنة صعبة لكنها سهلة!
طلب مني أحد الأصحاب الكتابة في موضوع “الوالدين” ومنزلتهما ومكانتهما، ثم مقارنة ذلك مع ما لدى “الزوجة” من منزلة ومكانة... وعزّني في الخطاب. أقول “عزّني في الخطاب” لأنّ هذا الموضوع طرقه شائكة وسبله وعرة، وهو باختصار موضوع جدّ عسير. فإذا مِلتَ إلى هذا الطرف، لم يرضَ عنكَ الطرف الآخر، وإذا ساويتَ بينهما ولم تفضّـل أحدهما على الآخر، غضب عليكَ الإثـنان معاً.
ولكنني – وكما ينعتـني بذلك أهلي وأقراني، وأصحابي وخلاني – رجل لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا أخاف على نفسي إلا مِن نفسي. لذلك فسأتحدّث بما حدّثـني به ضميري عن عقلي عن ديني، ولنتـّق الله جميعاً، فيما نقول وفيما نسمع وفيما نعمل.
مَن منـّا لم يسمع بالآية الشريفة التي يـبسط الله فيها مديحه للوالديْن، ويحذرنا مغبّة عقوقهما، ويحثـنا على وجوب اتباع الحسنى معهما، مخافة السقوط في الهاوية ودخول جنـّهم من أوسع أبوابها، والعياذ بالله؟
تقول الآية الشريفة:«وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوكِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * واخْفِضْ لَهُمَا جُنَاحٌ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا»]سورة الإسراء، الآيات من 23 إلى 25[ وفي مكان آخر يقول تعالى:«وإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...»]سورة البقرة، الآية 83[ وفي آية شريفة أخرى:«كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ»]سورة البقرة، الآية 180[ وكذلك:«يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ والْيَتَامَى والْمَسَاكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ...»]سورة البقرة، الآية 215[، وعن الوالدات حصراً، قال تعالى:«والْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ»]سورة البقرة، الآية 233[، وعن كليهما قال سبحانه:«واعْبُدُوا اللهَ ولاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا»]سورة النساء، الآية 36[، و«قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا»]سورة الأنعام، الآية 151[، و«رَبَّنَا اغْفِرْ لِي ولِوَالِدَيَّ ولِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ»]سورة إبراهيم، الآية 41[، و«وبَرًّا بِوَالِدَيْهِ ولَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا»]سورة مريم، الآية 14[، و«رَبِّ أَوْزِعْني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعَلَى وَالِدَيَّ»]سورة النمل، الآية 19[، و«ووَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا»]سورة العنكبوت، الآية 8[، و«ووَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ»]سورة لقمان، الآية 14[، و«ووَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ووَضَعَتْهُ كُرْهًا وحَمْلُهُ وفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعَلَى وَالِدَيَّ وأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ»]سورة الأحقاف، الآية 15[، و«والذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِني أَنْ أُخْرَجَ وقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهَ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ»]سورة الأحقاف، الآية 17[، و«رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِوَالِدَيَّ»]سورة نوح، الآية 28[.
لا أدري، هل بقيَ في الكأس رمق نسقيه للزوجة أو لغير الزوجة – مع خالص الإحترام والتقدير بالطبع للزوجات (الـ)مُسْلِمَاتٍ (الـ)مُؤْمِنَاتٍ (الـ)قَانِتَاتٍ (الـ)تَائِبَاتٍ (الـ)عَابِدَاتٍ (الـ)سَائِحَاتٍ، ثَيِّبَاتٍ وأَبْكَارًا؟
كانت تلك آيات أوحاها الله سبحانه إلى رسوله الكريم(ص)، وليس كلاماً عادياً، ساقه كاتب مشهور، أو أديب معروف أو شاعر بليغ. إنـّها كلمات الله، أراد بها سبحانه بيان مكانة الوالديْن، ونفي المقارنة بينهما وبين الزوجة أو غير الزوجة، وإن كانت بنت رسول الله(ص).
الآيات واضحات، ولا غموض فيها ولا شبهات؛ كلها تضع مكانة الوالديْن بعد مكانة الله سبحانه، فهل مِن شيء ما يعلو على ذلك؟ لكنّ البعض منـّا – وللأسف الشديد – يعتقد بوجوب خدمة الأبناء بعد إنجابهم، ثم يُفاخر بهم الأمم، ويهلك نفسه ليراهم يكبروا أمامه ويترعرعوا ويتمتعوا بنعمته التي أنعم الله بها عليه. ولا يهمّ إذا ما قالوا فسمع، ولا إذا ما قال هو سخروا منه، أو إذا شاخ هجروه، أو في غيابة دور العجزة رموه وتركوه، كما تترك الشاة الجرباء! فهذا ما زرعته يداه وما جنته يمناه، وهل يُجزى الإنسان إلا ما فعل؟
هذا هو الرجل الأب الذي كان يوماً جنيناً، ثم أصبح وليداً، ثم صار شاباً يافعاً، حتى إذا بلغ أشدّه، قال لوالديه (أُفٍّ لَكُمَا!)، والتصق بزوجته ومثيلته وصنوه وشبيهته، فصارت تجرّه يميناً إذا رأت والديه يذهبان يساراً، أو تشدّه يساراً إذا لمحت والديه يريدان يميناً... وهكذا.
خسرَ الدنيا والآخرة.
لا شكّ في أنّ العاق لوالديْه كبائع وطنه بأرخص الأثمان، بل بدون أيّ ثمن يُذكر، فأفٍ له ولأشباهه.
أين يبغي الكرامة، أو أيّان يريد الشهامة؟ وهل في تصرّفه هذا ما ينبو عن الإخلاص والوفاء؟ فكيف تريد مِن مثل هذا أن يحمي وطنه، أو يصون عرضه، أو يدافع عن شرفه، أو يذود عن كرامته؟
يقولون أنّ موسى(ع) كان قد طلب من الله سبحانه أن يتوفاه قبل والدته! أتعرفون لماذا؟ لأنـّه لم يكن ليتحمّل رؤية والدته وهي جاثمة أمامه دون حِراك، مع أنـّه نبيّ من أولي العزم ويعلم أنّ الله سبحانه سيرحم والدته، وسيجعلهما يلتقيان يوم القيامة، وما ذلك على مَن هو بمقام سيّدنا موسى(ع) بكثير، ولا على الله بعسير. لكنـّه الإخلاص والوفاء، والحبّ الإلهيّ، والتفاني لأجل مَن وهبته الحياة، حتى صار نبياً، أو طبيباً أو مهندساً أو عالماً، أو...
قال لي أحد الأصدقاء مرّة – وأنا أعرف أنـّه صادق – أنّه إذا اختلف يوماً مع والده أو والدته، في أيّ أمر كان، سواء أكان هو على حقّ أم كان على باطل، فإنـّه لن يرى الراحة ولا الطمأنينة ذلك اليوم بطوله، ويشعر بأنّ الله لا يرزقه ذلك اليوم ما اعتاد على الحصول عليه منه سبحانه، ويظلّ طوال يومه وليله قلقاً مضطرباً كالمجنون، لا يعلم ما يعتريه، ولا يدري ما يحدث داخله! وأنـّه إذا مشى في الأرض كأنّ الناس جميعاً أعداءٌ له، أو أنـّهم يتربّصون به هنا وهناك، وأنـّه كان يشعر في مُعظم الأوقات بأنّ عذاباً ما سينزل به، إن عاجلاً أو آجلاً. وأضاف:«فكنتُ أعلم أنّ ذلك إنـّما هو نتيجة ما وقع بيني وبين والديّ، فاستجمع قوايَ، وأدَع العصبيّة والتكبـّر جانباً، وأقدم على والديّ، فاستميحهما عذراً، وأطلب عفوهما، وأناغيهما لكي يمنحاني ثـقتهما من جديد، وأناضل حتى أحصل على رضاهما عليّ، بعد أن أعترف لهما بخطيئتي، وأقرّ أمامهما بجرمي وجريرتي، وأعاهدهما على أن لا أعود إلى مثلها أبداً ما حييت. فإذا بهما قد عذراني عند اللحظة التي تركتهما فيها، وعفوا عني، وأنـّهما ما زالا يثـقان بي، بل ويؤكدان على بقاء تلك الثقة في محلها حتى آخر لحظة في حياتهما، وأنـّهما عني راضيان، والرّحمة والغفران لي راجيان. أتدري لمَ فعلتُ ذلك يا صاحب؟» قلتُ:«لا»، قال:«لأنـّني أيقـنتُ أنّ عفوهما ومسامحتهما لي ورضاهما عنيّ معناه عفو الله ومسامحته وغفرانه لي، ورضاه عنيّ أيضاً، فمِن دون الحصول على هذه لن تحصل على تلك! وهل تدري لماذا فعلا ذلك؟» قلتُ:«لا والله لا أدري، فهلا أخبرتـني؟» قال:«لأنـّهما والديْن، وهذا دَيدَن الوالديْن، وإلا لما سُميا بالوالديْن!»
فهل تفعل الزوجة ما يفعله الوالديْن؟ وهل تقبل الزوجة على نفسها بأنّ تكون لكَ كوالديك؟ وهل تـثـق أنتَ بزوجتك كثـقـتك بوالديك؟ هل يمكنك أن تأتمنها مثلاً على مالك وحياتك وأولادك وأقربائك؟ هل تتوسّم فيها ريح الزوجة الحقـّة المخلصة الفاضلة الأمينة، التي ستمسح العرق عن جبينك يوماً ما؟ هل ستقوم بتنظيف فراشك وتحضير طعامك وتهيئة متاعك، يوم تشيخ... يوم لا تستطيع وقوفاً إلا إذا أسندك أحدهم... يوم لا تستطيع الأكل إلا إذا أطعمك مَن يريد لك البقاء... يوم تزداد وتكثر زبالتك، وتمتلئ سلـّة مهملاتك ولن تجد قوّة في بدنك تعينك على إخلاءها إلا إذا أخلاها لك مَن يحبّك كما يحبّ نفسه... يوم تتراكم أمراضك، وتتوحّد عللك كلـّها ضدّك من أجل القضاء عليك... يوم يتعالى صوت سعالك، ويسمع جارك الأقرب والأبعد أنينك وآهاتك... يوم يخلو جيـبك من القرش الأبيض الذي جمعته ليومك الأسود... يوم ترى خلانك وإصدقاءك عنك بعيدين، ومنك يتذمّرون ويشتكون... يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلب سليم.
فالقلب السليم = رضا الوالديْن = رضا الله = الجنـّة.
فإيّاك أعني واسمعي يا جارة!