السيدة زينب عليها السلام والإعلام الرسالي



ضياء السهلاوي
بسم الله الرحمن الرحيم


(ويلكم أتدرون أي كبد لمحمد (صلى الله عليه وآله) فرثتم ؟ وأي عهد نكثتم ؟ وأي كريمة له أبرزتم ؟ وأي حرمة له هتكتم ؟ وأي دم له سفكتم ؟ لقد جئتم شيئاً إدّا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً ..)
لقد كانت الحوراء زينب (عليها السلام) ثورة إعلامية ثائرة لا تهدأ، تستقطب الجميع، وتستغل كل زمان ومكان مناسبين لتوضيح أسباب الثورة، وقداسة أهدافها ورجالها، وتكشف حقائقها ومعالمها، حتى تستطيع أن تهيئ الظروف السياسية المناسبة، وتوفر الأجواء الإعلامية الملائمة، التي يمكن من خلالهما أن تتحرك ضد العدو، وتتمكن من تجميع الطاقات المؤمنة الموالية الصادقة من جديد والتي بإمكانها أن تثبت أمام تحديات الظالمين. حيث قامت (عليها السلام) تواصل جهادها بعزم وتصميم على أداء رسالتها..
كانت تمثل جبهة الحق والعدل والحرية، مقابل جبهة الاستكبار والظلم والطغيان، وهي عزلاء من كل شيء إلا من سلاح الإيمان واللسان. فلولا خوضه (عليه السلام) الحرب الدفاعية المبدئية الشرعية من أجل كشف التشويه والزيف والتضليل ومتابعة الإمام زين العابدين (عليه السلام) وغيرها من الامتدادات الموالية للحسين (عليه السلام) في نصرة الثورة الحسينية بطريقة جهادية إعلامية علمية توعوية هادفة ومستمرة ً لضاعت ثمرة الثورة واندثرت دماء الشهداء وجهاد الأنبياء واختلت الموازين الرسالية وسلبت الحقوق الإنسانية، ولتوجهت المسيرة البشرية نحو الهاوية الإلحادية، ولكانت صفحات التاريخ سوداء مظلمة، لأنها دون قيم ومبادئ سامية.
السيدة زينب (عليها السلام) بطلة كربلاء..
لم تكن سيدتنا زينب (عليها السلام) بمعزل عن هذا الدور الرسالي الذي بشرت به منذ ولادتها فبدأت من يوم رحيلها إلى أرض كربلاء برفقة أخيها سيّد الشهداء الحسين (عليه السلام) تؤازره وتنصره، وتقدّم أولادها بين يديه ضحايا فداء لإمامته، فقطعت ذلك الطريق الصعب من المدينة المنورة إلى طفّ الغاضرية حيث مصارع الأحبة الكرام، إخوتِها وبني عمومتها وولْدها وأصحاب أهل بيتها، وبني إخوتها وآل أبي طالب وبني هاشم، فكانت نعم الأخت المواسية لأخيها، ونعمت الموالية المضحية للإمامة.

أقدمت على يقين وبصيرة وإيمان، واصطحبت ركب الإمام الحسين وعقائل الوحي، وكان عليها أن ترى الفجائع بأمّ عينيها، وكُتِب عليها أن تجلس عند الضحايا، أشلاء مُجزّرين على صعيد المنايا، وتشاهد مصارع الشهداء، وبينهم سيدهم ريحانة المصطفى (صلى الله عليه وآله)، عندما كان الحسين يلفظ انفاسه الاخيره ,ايسا من كل الرجال ,كان قلبه مطمئنا بان اخته زينب ستحمل رايته ,وستنصبها في كل مكان ,حتى لا يبقى على وجه الارض رجل واحد لم يسمع باسم الحسين، ولا أمراة واحدة لم تروي قصة عاشوراء ,ولا طفل واحد لم يحفظ اسم كربلاء، وقدمت القرابين شاكرة لله: إلهي تقبّلْ منا هذا القربان. وأيّ قربان كان! سيّد شباب أهل الجنة.

مِحَن.. ومواقف
جعلَ اللهُ هذه المرأة المكرّمة، والسيّدة الصالحة.. نبراساً لنساء الأمّة في الإيمان والتقوى، والعفاف، والغَيرة على الدين، والثبات على المبادئ المقدّسة والقيم السامية، وفي الصبر والتحمّل والأخلاق الفاضلة.
ليس غريباً أن تستأثر مشاركة عقيلة الهاشميين في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) بالاهتمام، فالثورة كانت فاصلة تاريخية، ويوماً من أيام الله التي كتب لها الخلود على مدار الزمن. ولذلك فإنّ الحديث عن زينب حديث عن الثورة، أو عن دور المرأة المسلمة في الثورة، وفي صناعة الحدث الإسلامي، ولا يعني ذلك أنّ حياة زينب قد اقتصرت عطاءاتها على الثورة فقط، وإنما لأنها كانت عظيمة، ولأن حياتها معطاءة كان دورها كبيراً في واقعة الطف ، لاقت العقيلة زنيب ما لاقت من المصائب المهولة، والرزايا المذهلة، والفجائع الرهيبة، فضحت وصبرت، وتكفلت اليتامي والارامل، وجمعت العيال المشردين في صحراء كربلاء وحفظتهم، فكانت كأمها الزهراء (عليها السلام) في نهجها من التضحية لله تعالى، لتثبيت الحق واعلاء معالم الرسالة ورفع لواء‌ الامامة المظلومة، فلها المنن الجمة على كل معتنقي الاسلام، ولها في اعناقهم ان يسعوا في احياء ذكرها، والاشادة بمآثرها، والاستضاءة بسيرتها…
فمن كزينب في التاريخ خاضت غمار واقعة عظمى كواقعة الطف، ومن كزينب ضحت وعانت في تلك النكبة العظمى كنكبة كربلاء الحسين، ومن كزينب شهدت كما شهدت يوم عاشوراء، فصبرت…إنه لموقف عظيم لقد تجاوزت السيدة زينب بإرادتها وبصيرتها النافذة كل ما أحاط بها من آلام المأساة ومظاهر قوة العدو الظالم، فقد واجهته بالتحدي وجهاً لوجه أمام أعوانه وجمهوره، معلنة انه لا ينتابها أي شعور بالهزيمة والهوان، فما حدث لأسرتها شيء جميل بالنظر للرسالة التي يحملونها وما حدث هو استجابة لأمر الله تعالى الذي فرض الجهاد ضد الظلم والعدوان، وهي واثقة من أن المعركة قد بدأت ولم تنته.
ثم تختم كلامها بالدعاء بالهلاك للطاغية المتجبر أمامها مخاطبة إياه بقولها: (ثكلتك أمك يا بن مرجانة.. ). وكان ردها عليه قاسياً شديداً أسقط هيبته الزائفة في أعين الحاضرين جميعاً. كيف لا وهي ابنة علي الكرار (عليه السلام) .

في مجلس يزيد..
مارس الطغاة في كل عصر لأجل تثبيت حكمهم وسلطتهم، أسلوب الإعلام المزيف وتضليل عقول الناس، وسلبهم القدرة على التفكير.. وجعل الناس يلهون في هامشيات الحياة حفاظاً على الحكم والسلطة. وهذا ما فعله حكام آل أمية بدءاًمن معاوية إلى يزيد وابن زياد عليهم اللعنة..
ومنذ اللحظة الأولى من حكم يزيد قام ببث فكرة أن الحسين خرج عن حده فليقتل بسيف جده.. فلماذا لم يبايع الخليفة يزيد؟! إذاً فهو خارج على الحكم ولابد من قتاله.. وأعطى هذه الفتوة قاضي الحكومة والبلاط الأموي شريح القاضي.. حتى صارت فتوى شرعية!!
وعند دخول آل البيت (عليهم السلام) إلى الكوفة كانت عقول الناس تعيش حالة من السبات من جراء هذه الممارسة القمعية فلا أحد يجرؤ على إبداء رأيه حول ما جرى.. وليس لأحد الحق في مناقشة ما جرى.. ورفع الظلمة لافتات تخبر الناس أن هؤلاء خوارج.. وهذا جزاء كل من تسول له نفسه بالخروج على الحكم!! وبهذه الصورة يركز الظلمة عروشهم عبر الضحك على عقول الناس..
من جهة أخرى كانت هناك نوايا شريرة وأحقاد دفينة في البيت الأموي منذ فجر الإسلام ومنذ أن أعلن الرسول دعوته وحتى قيام الدولة الأموية.. حتى جاء دور يزيد فأعلنها بصريح العبارة . أما موقفه (عليها السلام) في مجلس يزيد بن معاوية فهو من أروع مواقف الدفاع عن الحق والتحدي لجبروت الطغاة والظلم. فيزيد كان أمامهم متربعاً على كرسي ملكه، وفي أوج قوته، وزهو انتصاره الزائف تحف به قيادات جيشه، ورجالات حكمه,
وزعماء الشام، كما أن أجواء المجلس كانت مهيأة ومعدة ليكون الاجتماع مهرجاناً للاحتفال بقتل أهل البيت. وكانت السيدة زينب (عليها السلام) في ظروف بالغة القسوة والشدة جسدياً ونفسياً فهي ما زالت تعيش تحت تأثير الفاجعة المؤلمة، كما أن هناك أجواء الشماتة والإذلال والتنكيل إلى مالا نهاية، كل ذلك لم يشغل العقيلة زينب عن أداء دورها البطولي أمام هذا الأموي اللعين حين دخل أهل البيت عليه في مجلسه وهو ينكث ثنايا أبي عبدالله الحسين ويقول:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
التضليل الاعلامي ..
السيدة زينب تصدت لكل تلك الحركة والموجة القوية في تشويه الحقائق وواجهت الإعلام المضاد بإعلام يبرز الحقائق ويعري الفساد ، ويعلن للناس أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان طالب إصلاح ، وهو الشريف ابن الشرفاء الذي قتل بأيدي الفسقة والمنافقين ، وقد تمثل هذا الدور بجلاء في خطبتها التي ألقتها في الكوفة في أوساط الناس ، وخطبتها التي ألقتها في مجلس يزيد في الشام .
وقد أشارت في الكوفة إلى الناس بأن المسؤول عن قتل الحسين (عليه السلام) هم أنتم : (ويلكم أتدرون أي كبد لمحمد (صلى الله عليه وآله) فرثتم ؟ وأي عهد نكثتم ؟ وأي كريمة له أبرزتك ؟ وأي حرمة له هتكتم ؟ وأي دم له سفكتم ؟ لقد جئتم شيئاً إدّا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الجبال وتخر الجبال هدّاً ..) . فبلغتهم مسؤليتهم وكشفت عن حقيقة فعلتهم ، وفي الشام قد كشفت حقائق الظلم الذي مارسه يزيد الذي يدعي الحكم بالعدل ، فجهرت أمامه بأفعاله من سبي بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقتل أبنائه ، عندما خاطبته : ( أمن العدل يابن الطلقاء ؟! تخديرك حرائرك ، وإماءك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ..) ، وأشارت إلى أن الظالم سيرد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم القيامة، وما الشهداء إلا أولياء، حكم لهم بالسعادة والمغفرة والرضوان.
وبفضل هذا الصوت الذي مزق حجب الإعلام المضلل ، عرف الناس فضل أهل البيت (عليهم السلام) وحقيقة الجريمة التي ارتكبت بحقهم ، فقامت نتيجة لذلك الثورات والثوار مطالبين بثأر الحسين (عليه السلام)، وأقيمت المجالس إحياء لذكراه في كل عام ، حتى وصل صوتها الطاهر إلينا ، فعرفنا الحسين (عليه السلام) ، ومن خلاله عرفنا الإسلام النقي من رواسب التحريف ، فكان دروها الإعلامي مثالاً للإعلام المؤثر الناجح.

المواجهة الرسالية..
وقفت السيدة زينب تخطب في مجلس يزيد معلنة انتصار الحق، ونهاية الحكم الأموي حيث ردت عليه بكل شجاعة وإباء مستصغرة قدره وسلطانه، ومستنكرة فعلته النكراء وقالت: (الحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله وآله أجمعين صدق الله سبحانه حيث قال: (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون) (الروم: 10).
أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة وأن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً، لا تطش جهلاً، أنسيت قول الله تعالى: ؟ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين؟.
لاشك أن خطبة السيدة زينب (عليها السلام) قد فضحت يزيد عليه اللعنة وهي تتكلم بكل فصاحة وطلاقة دون أن ترتعد فرائصها أو ينتابها الرعب أمام هذا الحاكم الظالم وهو محاط بجلاوزته وحاشيته. ومرغت كبرياءه بالوحل وفضحت مخططاته التي استهدفت الإسلام ووقفت ابنة علي كاللبوة في مجلس الظالمين، إن هذه الكلمات التي رددتها بنت الرسالة أماطت اللثام عن الوجه الحقيقي للأمويين، وكشفت للناس زيفهم وكفرهم، وعرفوا الناس الحقيقة المرة، كانت كلمات السيدة زينب كلمات مؤثرة.. تهز القوم من أعماقهم حتى صار القوم يبكون وينتحبون من تأثير هذا الخطاب..
وحين نتأمل في هذه الكلمات فكأنما السيدة زينب تريد أن تحمل المجتمع هؤلاء مسؤولية ما جرى على الحسين وأهل بيته وأصحابه (عليهم السلام) .. فهم الذين كاتبوا الحسين.. وهم الذين نكثوا البيعة مع مسلم بن عقيل وهم الذين قادوا الجيش لقتال الحسين . وكأن السيدة زينب تريد من هؤلاء أن يغسل هذا الذنب العظيم الذي اقترفه وهذا ما حدث من ردود فعل لهذا الخطاب المؤثر حين قامت وانطلقت الثورات.. التي هدت أركان حكم بني أمية وتم ملاحقة الذين ساهموا في قتل الحسين وتم تصفيتهم واحداً تلو الآخر.