الاتجاه النفسي :يقصد بـ ( الاتجاه النفسي) : الطريقة التي يستخدمها الباحث في دراسته لأحد الموضوعات في ضوء الظواهر النفسية له ، أي : إخضاع البحث للتفسير النفسي ، متمثِّلاً في الركون إلى مختلف المبادئ التي يطرحها ( علم النفس ) في هذا الميدان .وإذا أدركنا أن ( علم النفس ) يعنى بدراسة السلوك الإنساني من حيث ( استجاباته ) حيال ( المثيرات ) المختلفة التي يواجهها الشخص ، أدركنا حينئذٍ أهمية هذا الضرب من المعرفة من حيث انعكاساته على النص المدروس .ولعل أهم ما يميّز البحوث المعاصرة هو : توسّلها بهذا الفرع من ( المعرفة ) التي وجدت طريقها إلى الظهور مع إطلالة القرن الحديث . طبيعياً ، لا يعنينا أن هذا النمط من المعرفة مصحوب ـ مثل سائر الضروب المعرفة الإنسانية المنعزلة عن مبادئ السماء ـ بمفارقات علمية لا يمكن الركون إليها في تفسير الظواهر ، إلاَّ أن ذلك لا يحتجز الباحث الإسلامي من الإفادة منه واستثمار الكثير من معطياته العلمية التي واكبها جانب من الصواب دون أدنى شك .المهم ، أن الكاتب الإسلامي ـ في ضوء وعيه العبادي ـ يمكنه أن يفرز بوضوح بين ما يمكن أن يفيد منه في دراساته العلمية ونبذ ما سواه ... والمهم أيضاً أن يكون توسله بهذا الضرب من المعرفة ، مفضياً إلى إلقاء مزيد من الإنارة على النص ، واكتشاف مختلف دلالاته التي تظل غائمة ـ دون أدنى شك ـ لو اقتصر الباحث على البعد الفني والتاريخي لها فحسب ... فلو افترضنا أن الباحث الإسلامي قد اعتزم أن يدرس ظاهرة ( الغناء ) ومعرفة الأسباب الكامنة ـ بعضاً أو كلاًّ ـ وراء حظر الشريعة الإسلامية لهذا النمط من الظواهر ، حينئذٍ يمكنه أن يقصر بحثه على الدلالة الفقهية لها ـ أي يحصر البحث في صعيد المبادئ الفنية للموضوع ـ ، كما لو استدل على ذلك بمجموعة من الروايات الحاكمة بتحريم ( الغناء) ... كما يمكنه ـ مثلاً ـ أن يتجاوز ذلك إلى ( المنهج التاريخي ) فيعرض لظاهرة ( الغناء ) من حيث المناخ الاجتماعي الذي ألِفَ هذه الظاهرة ، واقترانها بمجالس الشرب أو الاختلاط بين الجنسين ونحوهما . ثم تطوّر ذلك
من خلال تأثره بالتيارات الوافدة عصرئذٍ ـ أي القرنين الأولين من بزوغ الإسلام ـ وانعكاساتها على المجتمع المذكور ، وصلة ذلك بنمط من الأشكال الصوتية التي لم يرد نهي إسلامي عنها أو ندب إليها مثل ... الحدر والترتيل وسواهما .أقول : من الممكن أن يقتصر الباحث في دراسته المذكورة على استخلاص الحكم الشرعي لظاهرة ( الغناء) ، ويمكنه أيضاً أن يتوسّل بالبعد التاريخي له ، فيقدّم حينئذٍ مزيداً من الإنارة على الموضوع . ولكن لو اتجه الباحث بعدئذٍ إلى ( المعرفة النفسية ) ، لأمكنه أن يلقي الأضواء الكاملة على الظاهرة ، معمِّقاً بذلك إدراك القارئ لأهمية التحريم الإسلامي ( الغناء) .فمثلاً يمكنه أن يوضح طبيعة البناء العصبي للشخصية ، وصلة ذلك باستجابتها حيال ( المنبِّهات ) الصوتية التي تنتظم في طبقات مركبة من هذا الإيقاع أو ذلك . كما يمكنه أن يستعين بالدراسات التجريبية التي انتهت إلى تحديد صلة ( الغناء ) أو ( الموسيقي ) بعامة بجملة من الأمراض النفسية والعقلية والجسمية مثلاً . وحينئذٍ ستتَّسم دراسته بمزيد من الأهمية التي لا يمكن الظفر بها لو كان الباحث مقتصراً في دراسته للغناء على مجرد البعد الموضوعي والتاريخي له .والامر ذاته فيما يتصل بظاهرة القمار مثلاً ، حيث يمكن للباحث أن يستعين بـ ( المعرفة النفسية ) لتفسير سلوك ( المقامر ) ، من حيث كونه شخصية شاذة منحرفة ، عدوانية متصارعة ، متمزِّقة متوترة ... إلخ .إذن : الاستعانة بالمعرفة النفسية تظل أشد الأبعاد أهمية في إنارة الموضوع وتعميق دلالاته المختلفة ... فضلاً عما تنطوى عليه من إثارة وتشويق يسهمان في دفع القارئ إلى متابعة الموضوع وتمثُّله .ويمكننا أن نفيد من البُعد النفسي في جملة من الميادين ، منها :1 ـ دراسة الموضوع ـ أو النص ـ في ضوء صلته بكاتبه . ويقصد بذلك : أن الناقد الأدبي يتعيّن عليه ـ في سياقات خاصة ـ أن يربط بين النص المدروس وسلوك كاتبه ، من حيث انعكاسات سلوكه على النص ، حتى تتضح دلالاته بنحو أشد عمقاً في هذا الصدد .بَيْد أن أمثلة هذا الاستعانة بالبعد النفسي تنطوى على مزالق كثيرة ينبغي أن يظل الباحث على حذر شديد منها ، بخاصة إذا عرفنا ـ أولاً ـ أن النصوص لا تعدّ في الحالات جميعاً ( وثيقة ) مفصِحة عن نفسية كاتبها ، بقدر ما تعد عملاً ( موضوعياً ) ينفصم فيه الشخص عن نتاجه الفنّي . فقد نقرأ قصيدة ـ مثلاً ـ تتحدّث عن ( الشجاعة ) إلاَّ أن صاحبها موسوم بالجبن ، وقد يتحدّث ( الخطيب ) عن أهمية الصدق إلاَّ أنه يمارس ( الكذب)... إلخ ، مما يعني أن الباحث ليس بمقدوره أن يستخلص عن النص المدروس حقيقة السلوك الذي يصدر عن كاتبه ، مادام النص غير مفصح بالضرورة عن كونه وثيقة عن نفسية صاحبه .أما المفارقة الأخرى التي تترتّب على ربط الصلة بين النص وسلوك كاتبه ، فتتمثّل في صعوبة
تشخيص الدلالة النفسية ذاتها ... فمثلاً إذا افترضنا أن أحد الأشخاص كان معتزماً لأن يكتب أو يتلفّظ بعبارة ( العلماء ) ، فكتبها أو تلفّظ بها بعبارة ( العملاء ) ، حينئذٍ لا يمكننا أن نرتّب أثراً نفسياً على هذه العبارة من النص المدروس ، مادمنا غير واثقين بأن العبارة المذكورة قد عبّرت بالفعل عن ( سلوك لاشعوري ) حيال العلماء . من الممكن أن يكون صاحب النص ذا تركيب نفسي شاذ بالنسبة لنظرته عن ( العلماء ) ، بحيث قفزت عن لاشعوره ، العبارة التي تختزنه أعماقه بالفعل ، ونعني بها ( العملاء) ، إلاَّ أن اليقين بذلك أمر لا سبيل إليه ؛ نظراً لتماثل مخارج الأصوات في العبارتين المذكورتين ، بحيث نتوقّع أن يكون الخطأ المذكور ناجماً من الحقيقة الصوتية المذكورة وليس من اللاشعور .إذن ، وصل النص بنفسية كاتبه لا يعد من الحالات جميعاً عملاً ذا قيمة ، مادمنا نعرف أن تشخيص ذلك لا يتم بسهولة ، بل لابد من أن يمتلك الباحث مقدرة علمية متنوّعة ، تتصل ليس بثقافته النفسية فحسب ، بل بسائر أدوات الفن التي انطوى عليها النص المدروس .هذا ، إلى أن الباحث الإسلامي حينما يتوسل بالأداة ( النفسية ) في دراسة النص ، يضع في اعتباره جانباً من الأهمية بمكان كبير ، هو : أن كثيراً من النصوص لا يمكن البتة دراستها في ضوء الصلة بمبدعها ، وهذا من نحو دراسته للنصوص القرآنية الكريمة مثلاً ، أو دراسته للنصوص الواردة عن أهل البيت ( عليهم السلام) ؛ نظر لتنزّه الله تعالى عن ذلك ، وعصمة أهل البيت عن الخطأ وسائر الفعاليات التي تصدر عن البشر العادي .إنه من الممكن ـ فيما يتصل بالنصوص الواردة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) ـ أن يصل الباحث بينها وبين نفسيتهم ( عليه السلام ) من حيث استخلاص السلوك السوي الصادر عنهم وانعكاساته على النص ، إلاَّ أن ذلك يظل في مجالات محددة ، بخاصة إذا عرفنا أن وصل النص بكاتبه يقترن ـ في غالبية الدراسات ـ باستخلاص الظواهر السلبية ، وهم ( عليه السلام ) معصومون من ذلك دون أدنى شك .على أية حال ، خارجاً عن المزالق الثلاثة التي أشرنا إليها ، من المفيد جداً أن يتوكأ الباحث العلمي على هذا النمط من الوصل بين الموضوعات وأصحابها ؛ نظراً للأهمية الكبيرة التي ينطوي عليها مثل هذه الاستعانة بالبعد النفسي ... فإذا افترضنا أن أحد الشعراء ـ مثلاً ـ طالبَ في قصيدة له بتمزيق جثة الميت والتمثيل بها ، أو أن أحد الأشخاص مارس عملية ( التمثيل ) بعدُوِّه ... حينئذٍ فإن وصل القصيدة بنفسية صاحبها أو عملية التمثيل بممارسها ، يظل من الأهمية بمكان ، حيث يستخلص الباحث من ذلك أن الشاعر أو القاتل يحمل نزعة عدوانية يتلذّذ بتعذيب الآخرين ، وإلاَّ فإن مجرد القتل كافٍ بتحقيق الغرض الذي استهدفه الشاعر أو القاتل ، وهو التخلّص من العدو . أما أن يصحب ذلك ( تمثيل ) بجثته أيضاً ، فيعد مؤشراً لمرض الشخصية وشذوذها ومعاناتها لمختلف الاضطرابات النفسية .2 ـ دراسة النص وعلاقته بالجمهور . ثَمَّة فرع من العلوم النفسية يسمّى بـ ( علم نفس الجمهور ) ، وهدف هذا الضرب من المعرفة هو ، دراسة الأساليب النفسية التي ينبغي أن تصاغ بنحو تترك تأثيرها في المتلقّي ، مادمنا نعرف بأن التركيبة البشرية ذات استعداد معين لمختلف الاستجابات ، تبعاً للطريقة التي ينتخبها الباحث أو المصلح أو الخطيب مثلاً .من هنا نجد أن علماء النفس طالما يخطّطون هذا الأسلوب أو ذاك ، بغية التأثير على نفسية الجمهور ، سواء أكان ذلك في ميدان الصحة النفسية ، أو الميادين الأخرى المتصلة بالسياسة والاقتصاد والاجتماع ، وسواء أكان ذلك مقترنا بهدف ايجابي أو سلبي . ولعل ما يصطلح عليه بـ ( الحرب النفسية ) مثلاً ، يعد نموذجاً واحداً من أشكال هذا الضرب من المعرفة ، التي تعنى بتحديد العلاقة بين المنبّه والاستجابة ، وصياغتها وفقاً لِما ينطوي عليه هذا الهدف أو ذاك من انعكاسات سلبية على الجمهور .وبالمقابل ، فإن الانعكاسات الايجابية تأخذ طريقها أيضاً في هذا الميدان ، من نحو دراسة مختلف الأساليب التي تساهم في تعميق دلالة الخير في النفس الإنسانية ، أو في توصيل دلالة النص الفني أو العلمي إلى المتلقّي ... وهذا المنحى الأخير من الدراسة ، أي : دراسة عملية التوصيل الفني والعلمي ، يظل في الصميم من مهمة الباحث ، مادام الباحث معنياً بدراسة النصوص أو الموضوعات وفقاً لانعكاساتها على الآخرين .ولنأخذ مثلاً على ذلك :لقد استهدف القرآن الكريم في إشارته للإبداع الكوني تعميق الدلالة المذكورة فنِّياً ، فبدأ في سورة الملك ـ مثلاً ـ بلفت أنظارنا إلى خلق السماوات : ( الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ) . هذه الآية لو دقّقنا النظر فيها ، للحظنا أن دراستها في ضوء قوانين التفكير البشرى ، أي : طبيعة الآلية الذهنية من حيث استجابتها لعملية ( التعلّم ) مطلقاً ، سوف تسعفنا على فهم الكثير من أسرارها ... فمن الواضح أن عملية التفكير تبدأ ( في بعض قوانينها ) من ( المجمل ) إلى ( المفصّل) ، أو من ( الكل ) إلى ( الجزء ) ، فأنت حينما تفتح صفحة من الكتاب مثلاً ، إنما تتصورها ( كلاّ ) ، ثم تبدأ بتشخيص سطورها ، ثم العبارات ، ثم ، الحروف ... وقد يحدث العكس ، تبعاً للموقف ، فتبدأ من الحروف إلى الأسطر إلى الصفحة .ولو عدنا إلى الآية الكريمة ، للحظناها بادئة بمجمل الإبداع المذكور ، وهو ( سَبْعَ سَماوَاتٍ طِبَاقاً ) . ثم يفرز هذه السماوات من حيث علاقتها واحدة بالأخرى ، متمثّلة في ( عدم التفاوت ) بينها : ( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ ) . ثم بفرز السماء الواحدة من حيث عدم مشاهدة ( الشقوق )ومن البيّن أن اكتشاف الباحث العلمي للحقيقة النفسية المذكورة ، تلقي مزيداً من الضوء على دقائق الموضوع وتفصيلاته التي لم تكن لتتضح بجلاء ، لو لم يسلّط عليها الضوء النفسي المذكور .
فيها : ( هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ) ، وهذا يعني أن الآية الكريمة أخذت بنظر الاعتبار قوانين التفكير أو الاستجابة التي تبدأ من المجمل أو الكل ( مطلق السماوات) ، إلى تفصيلاتها الأولية ( عدم التفاوت ) ، إلى تفصيلاتها الثانوية ( عدم الفطور ) .ومن الواضح أن الناقد حينما يدرس النص في ضوء الحقيقة التي أشرنا إليها ، إنما يكشف عن جوانب أخرى من الإعجاز الفني في القرآن الكريم ، مثلما يكشف عن حقائق ( الاستجابة الذهنية ) وقوانينها .والامر ذاته فيما يتصل بالكشف عن قوانين ( الاستجابة النفسية ) من حيث عناصر ( التشويق ) و( الإثارة ) وغيرها ، ممّا نلحظه في القصص القرآني الكريم مثلاً ، أو ما نلحظه في بناء السورة القرآنية الكريمة من حيث مقدمتها وخاتمتها ، حيث تبدأ السور الكريمة بطرح دلالات معينة بنحو تجعلنا نتهيَّأ نفسياً لتقبّل ومعرفة ما تتضمّنه من أهداف وأفكار متنوّعة .3 ـ دراسة النص الأدبي في ضوء الظواهر النفسية العامة . يقصد بـ ( الظواهر النفسية العامة ) : دراسة النص من حيث انطوائه على دلالات نفسية محدّدة ، بغض النظر عن ارتباطها بسلوك الفنان أو المتلقّي ، بل بما هي ظواهر يمكن إخضاعها لقوانين عامة . فإذا اعتزم الناقد دراسة عنصر فنّي ، مثل ( التشبيه ) في الأعمال الشعرية ، ومثل ( الحوار ) في الأعمال القصصية ، حينئذٍ يمكن دراسة هذه الجوانب في ضوء ما ينطوي ( التشبيه ) أو ( الحوار ) عليه من دلالات نفسية ، مثل انتقاء عنصر مشترك بين طرفي الصورة وكون ذلك أما حسيِّاً أو تجريدياً ، ومثل كون ( الحوار الداخلي ) ـ مثلاً ـ أشد صدقاً من غيره في التعبير عن أسرار النفس ... وهكذا .المهم أن دراسة النص في ضوء دلالاته النفسية ، يظل من أشد مستويات البحث النقدي بالقياس إلى غيره من المعرفة الإنسانية ، بخاصة إذا أدركنا بأن المنهج القائم على ربط الصلة بين النص وصاحبه لا يمكن الاطمئنان إليه . وأما المنهج القائم على ربط الصلة بين النص والجمهور ، فمن الممكن أن يندرج ضمن دراسة النص في دلالاته النفسية ، ممّا يعني ـ في نهاية المطاف ـ أن المنهج المذكور يظل أشد فاعلية من سواه ، بالنحو الذي فصلّنا الحديث عنه .